تواجه الأطراف التي قادت اتفاق وقف إطلاق النار في غزة – وفي مقدمتها القاهرة – صعوباتٍ تنفيذية مباشرة على الأرض بعد أن بدا اتّجاه تل أبيب واضحاً نحو عرقلة الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق عقب تسلّمها الرهائن الأحياء وغالبية جثامين المقتولين، بينما لم تتوافق الفصائل الفلسطينية بعد على لجنة لإدارة غزة، وسط غموضٍ يلف مستقبل السلطة الفلسطينية وتعثرٍ في جمع تبرعات الإعمار، ما دفع إلى إرجاء مؤتمر إعادة الإعمار من منتصف نوفمبر إلى نهايته من دون تاريخٍ محدَّد حتى الآن.
كيف يبدو المشهد الآن؟
يقول مصدر مطّلع على المفاوضات إن نسف الاتفاق بالكامل "أمرٌ صعب"؛ ليس لأن إسرائيل والولايات المتحدة "ترغبان" في تنفيذه، بل لأن الطرف الفلسطيني أضعف كثيراً بعد تسليم ملف الرهائن: "على الأرض، يجري إعادة رسم مستقبل غزة وفق ما يريده الاحتلال تحت اسم وقف إطلاق النار، فيما لم تتوقف الضربات الإسرائيلية خلال الأيام الماضية".
ويضيف المصدر نفسه أن مصر والوسطاء باتت لديهم مخاوف عميقة من الانشغال بتفاصيل خارج نصّ الاتفاق: "يجري الحديث عن تقسيم القطاع، واستعداد الولايات المتحدة لبناء مقر عسكري كبير في مناطق تحتلها إسرائيل شرق غزة، مع الاستعانة بميليشيات من داخل القطاع للأمن الداخلي بعيداً عن الفصائل، وهو ما يمهّد لاحترابٍ أهلي يقضي على ما تبقى". ويتابع: "ليس من المنطقي أن يلتقي مسؤول أميركي قائداً لميليشيا لتأمين رفح كما أوردت بعض وسائل إعلام عبرية، هذه تفاصيل بعيدة عن جوهر وقف النار".
ما الذي نسمعه من الكواليس؟
يشير المصدر إلى أن الوسطاء، بمن فيهم مصر، ضغطوا خلال الأيام الماضية لتحديد دورٍ للسلطة الفلسطينية في غزة؛ لكن ذلك واجه رفضاً أميركياً وإسرائيلياً، ما عرقل الاتفاق على لجنة تكنوقراط لإدارة القطاع، وأبقى شكل الشرطة التي ستدير الأمن معلَّقاً، "لتُفتح نافذة لتحركاتٍ أميركية مع ميليشياتٍ مسلّحة لتنسيق هذا الدور".
ويؤكد أن مصر والوسطاء يعترضون على ما سمّته واشنطن "غرفة الرقابة على تنفيذ وقف النار" في غزة: "200 شخصية أميركية مع 100 ممثلين عن 40 دولة—تمهيد لقوة استقرار، بما فيها قاعدة أميركية مزمع تشكيلها، ويبرهن على ترتيباتٍ أميركية–إسرائيلية لاعتبار القطاع غنيمة من دون بحث بقية محاور الاتفاق، وفي مقدمتها الانسحاب الإسرائيلي".
يفيد السياق العام بتوجه أميركي لبلورة قوة تنفيذية لا "حفظ سلام"، مع دور واسع في تأمين الحدود والممرات ونزع السلاح وبناء شرطة فلسطينية جديدة، بحسب مسوّدات أميركية وتقارير متعددة.
ويضيف المصدر: "اعتراض مصر على تفاصيل القوة الدولية نابع من رفضها أن تكون قوة تنفيذية قد تشتبك مع المقاومة؛ القاهرة تريدها قوة حفظ سلام. أما الرؤية الأميركية فتتجه إلى إعادة إعمارٍ يبدأ في المناطق التي تحتلها إسرائيل مع نزع الملكية، وعودة الأهالي إليها بموافقةٍ أمنية إسرائيلية ومقابلٍ مادي، وهو مؤشر خطير بعيد تماماً عن روح وقف النار".
بالتوازي، تتحرّك واشنطن لتوسيع الدور اللوجستي—ومن ذلك مركز التنسيق المدني–العسكري (CMCC) في كريات غات بإدارة "سينتكوم"، لرفع كفاءة المساعدات وتثبيت الهدنة.
الرواية الرسمية
وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي كشف الثلاثاء عن ملاحظاتٍ من عدة دول على مشروع القرار الأميركي في مجلس الأمن الخاص بخطة إنهاء الحرب ونشر قوة دولية في غزة، آملاً الوصول إلى صياغاتٍ توافقية من دون المساس بالثوابت الفلسطينية.
وأوضح – بحسب تصريحاتٍ نقلتها وسائل رسمية – أن مصر منخرطةٌ في مشاورات نيويورك وتتواصل يوميّاً مع الولايات المتحدة، ومع أعضاء مجلس الأمن والمجموعة العربية (عبر الجزائر حالياً)، مضيفاً: "نأمل أن يصدر القرار الأممي بما يحفظ الثوابت ويسمح بنشر القوة الدولية بأسرع وقت، وفق توافق يجعل القرار قابلاً للتنفيذ على الأرض".
وأكد أن مصر تدعم نشر القوة ولكن "ليس بالضرورة أن تشارك فيها". (تصريحات ومواقف متطابقة في بيانات وهيئات مصرية رسمية خلال الأيام الأخيرة، بما في ذلك التنصيص على ضرورة تحديد ولاية وصلاحيات القوة بما يخدم التعافي المبكر وإعادة الإعمار.
ما الذي يعرقل المرحلة الثانية؟
مصدر مطلع آخر على تفاصيل المفاوضات يؤكد أن من أبرز معوّقات الانتقال إلى المرحلة الثانية تمسّك إسرائيل بملف جثامين الأسرى، واعتراضها على مشاركة دولٍ بعينها في قوات الاستقرار ومهامّها، إلى جانب الخلاف حول شكل إدارة الحكم في غزة "في اليوم التالي".
ويضيف أن القاهرة مقتنعة بأن إسرائيل تكسب الوقت عبر "ذرائع واهية" للتهرب من استحقاقات المرحلة الثانية (وأهمّها الانسحاب لما بعد "الخط الأصفر")، وأن مصر "تحاول بكل السبل عدم تعطيل الانتقال وتؤكّد باستمرار ضرورة الإسراع بالمرحلة الثانية".
تتّسق هذه الصورة مع مسوّدات أميركية لقوة استقرار ذات صلاحيات تنفيذية، تواجه تحفّظات عربية وتباينات حول التفويض والهيكل.
ويتابع المصدر: "مصر تسعى لأن تكون القوة الدولية غطاءً لإعادة الإعمار، وصولاً إلى مرحلة انتقالية تمهّد لخطواتٍ إيجابية على طريق إقامة الدولة الفلسطينية؛ في المقابل، تحاول إسرائيل تطويع القوة لتحقيق أهدافٍ أخفقت فيها خلال عامين من الحرب وعمليات الإبادة في غزة—وفي مقدّمتها نزع سلاح المقاومة—وتضع فيتو على أيّ دورٍ لحماس أو السلطة في إدارة اليوم التالي".
المسوّدة الأميركية التي دارت حولها مداولات في مجلس الأمن تُسند للقوة أدواراً واسعة من حماية المدنيين وتأمين الحدود إلى الشراكة مع شرطة فلسطينية جديدة ومنع إعادة بناء البنية العسكرية.
عنق الزجاجة
ويُضيف أن مصر والوسطاء يحاولون كذلك حلحلة ملف سلاح حماس بوصفه أبرز عوائق الانتقال: تُطرح مقاربات مثل تجميد السلاح الثقيل أو نزعٍ تدريجي، مع دمجٍ جزئي لعناصر شرطة حماس في الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي ستتولى مصر والأردن تدريبها؛ بالتوازي، يسعى الوسطاء لإقناع الإدارة الأميركية بضرورة قبول دورٍ للسلطة الفلسطينية في إدارة القطاع، وأن تكون القوة الدولية قوة سلامٍ ومراقبة لتنفيذ الاتفاق وضمان التزام الجميع به.
ويشدّد المصدر على "أزمة أخرى" تُعقّد المشهد بعيداً عن جوهر الاتفاق: مقاتلو حماس داخل الأنفاق.
ويوضح أن زيارة ويتكوف وكوشنر لإسرائيل جاءت لمحاولة تجاوز المعضلة: "تسعى واشنطن إلى ممرّاتٍ آمنة لنقل المقاتلين بعد تسليم السلاح إلى مناطق داخل القطاع أو إلى إحدى الدول الحليفة لحماس، مقابل تنازلاتٍ في وتيرة التسليم، والمضي إلى منطقة عسكرية أميركية في غزة وتشكيل قوة السلام وفق الرؤية الأميركية".
وبالتوازي، يقول المصدر إن الإدارة الأميركية ماضيةٌ في مسار تنفيذ المرحلة الثانية، لكن المشكلة في التفاصيل التي يحاول الوسطاء تجاوزها من دون منح إسرائيل مكاسب إضافية. ويردف: "التركيز الأميركي المقبل سيكون على سحب ملف إدخال المساعدات من يد إسرائيل ونقله إلى مركز التنسيق المدني–العسكري في كريات غات حيث تشارك 40 دولة برئاسة الولايات المتحدة، لضمان تدفق المساعدات واستقرار الوضع الإنساني".
(تأكيدات على دور مركز التنسيق المدني-العسكري CMCC وموقعه في كريات غات مع وجود عناصر أميركية في مهام تنسيقية، لا "قوات قتالية" داخل غزة).
ماذا عن أمريكا؟
إدارة ترامب بدورها دفعت—كما أعلنت—نحو صياغة قرارٍ في مجلس الأمن ينشئ الإطار الدولي لقوة الاستقرار؛ وقال ترامب قبل أيام إن وصول القوة إلى غزة بات قريباً جداً وإن الأمور "تسير على ما يرام" ضمن وقف النار.
ونقل Axios عن مسؤولٍ أميركي أن القوة ستكون "تنفيذية" لا "حفظ سلام"، وتضم قوات من عدة دول لتأمين حدود غزة مع إسرائيل ومصر، وحماية المدنيين والممرات الإنسانية، إلى جانب تدريب شرطة فلسطينية جديدة.
كما يتضمن المشروع تدمير البنية التحتية العسكرية في غزة ونزع سلاح الفصائل وضمان خلوّ القطاع من السلاح، بما في ذلك نزع سلاح "كتائب القسام" إذا لم يتم ذلك طوعاً. (تفاصيل من تقارير Axios ووكالات دولية حول مسوّدة القرار ومهام القوة المقترحة.
ماذا يفعل الوسطاء الآن؟
على خطٍ موازٍ، أكدت مصر وقطر – في اتصالٍ هاتفي بين عبد العاطي ورئيس الوزراء/وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني – "ضرورة تحديد ولاية وصلاحيات" قوة دعم الاستقرار بما يدعم التعافي المبكر وإعادة الإعمار. وفي أبوظبي، قال أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات، إن بلاده "قد لا تشارك" في القوة، في ظل غياب إطار قانوني واضح—موقف أكّدته تصريحاتٌ رسمية لاحقة. (بيانات وزارتي الخارجية في القاهرة والدوحة وتغطيات دولية.
مصدر مطّلع آخر يلفت إلى أن أزمة وقف النار تتعلق أيضاً بـالخلافات الفلسطينية–الفلسطينية، وهو ما أجّل اجتماعاً للفصائل في القاهرة كان مزمعاً الأسبوع الماضي، كما تواجه مصر فجوةً في تمويل ما يحتاجه القطاع من مساعدات الإعمار—وهو ما أخّر مؤتمر إعادة الإعمار أسبوعين. ويضيف: "إسرائيل تشترط نزع سلاح حماس كتمهيدٍ لتمكين إدارة فلسطينية أو بدء إعادة الإعمار بحرّية؛ بينما ترفض حماس النزع قبل انسحابٍ إسرائيلي حقيقي وضماناتٍ سياسية. التوصّل إلى صيغةٍ وسط صعب وسيُعرقل الانتقال ما لم توجد آليات تحققٍ ملموسة".
ويؤكد المصدر ذاته أن استعادة الرفات لا تزال ورقة تفاوضٍ مركزية: "الأمن الإسرائيلي وبعض القيادات العامة يشترطون إنهاء ملف جميع الأسرى/الرفات قبل الانتقال الكامل. ربط هذه القضية بأي مرحلة لاحقة يخلق عنق زجاجة—طالما هناك رهاناتٌ متبادلة، سيظلّ الانتقال معلّقاً".
وفي ما يتصل بالتحضيرات لمؤتمر التعافي المبكر وإعمار غزة في القاهرة، قال الوزير عبد العاطي للمحررين الدبلوماسيين إن التحضيرات الموضوعية واللوجستية والمفاهيمية اكتملت، وإن مصر تنسّق مع الولايات المتحدة، ودولٍ أوروبية (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، الدنمارك)، واليابان، والاتحاد الأوروبي، ودول مجلس التعاون الخليجي، إلى جانب الأمم المتحدة (الأمين العام أنطونيو غوتيريش)، والبنك الدولي، والحكومة الفلسطينية، "على أن يُحدَّد التوقيت عندما تتقاطع الجاهزية السياسية مع اللوجستية". (تتقاطع هذه الرسائل مع تحرّكات دبلوماسية موازية في العواصم الأوروبية والروسية للدفع نحو المرحلة الثانية.
المرحلة التالية من الخطة—كما يُتداول على طاولة الوسطاء—تشمل انسحاباً إسرائيلياً أوسع انطلاقاً من "الخط الأصفر" المتوافق عليه في المخططات الأميركية الأخيرة، وإنشاء سلطة انتقالية لحكم غزة، ونشر قوة أمنية متعددة الجنسيات تتسلّم المسؤولية من الجيش الإسرائيلي، مع نزع سلاح حماس وبدء إعادة الإعمار. (تفاصيل متطابقة في المسوّدات الأميركية ومذكرات الإحاطة المتداولة لدى العواصم المعنية).
الخلاصة
القاهرة تحاول إبقاء "وقف النار" اتفاقاً نهائياً لا منصةً لإدارة احتلالٍ مُحسّن. لذا تُصرّ على:
- تفويضٍ واضح ومحدود لقوة الاستقرار (أقرب إلى حفظ السلام منه إلى تنفيذٍ قتالي)،
- مسار إعادة إعمارٍ غير مشروطٍ بإملاءات أمنية إسرائيلية،
- ودورٍ فلسطينيٍّ أصيل في الإدارة والشرطة والقضاء.
في المقابل، الخلافات الفصائلية، واشتراطات نزع السلاح قبل أي انسحابٍ أو تمكينٍ إداري، وهندسة أمنية أميركية–إسرائيلية عبر CMCC وقوةٍ تنفيذية—كلها عناصر تجعل المرحلة الثانية على المحك.