تثير التحرّكات السياسية الأخيرة لما يُعرف بـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) في لبنان مخاوف من اندلاع أزمة جديدة بين بيروت ودمشق قد تطال حتى علاقة لبنان بتركيا، في ظلّ رغبة من "قسد" التي تصنّفها أنقرة "منظمة إرهابية"، في لعب دور إقليمي خارج حدود مناطق سيطرتها في شمال وشرق سوريا.
هذا النشاط الذي أخذ طابعاً شبه علني في العاصمة اللبنانية، وبدأ يثير توتّراً مكتوماً مع دمشق وأنقرة على حدّ سواء، فيما تسعى الدولة اللبنانية إلى ضبط الإيقاع وحصر العلاقة مع "قسد" في ملفّ إنساني بحت يتعلّق بعائلات اللبنانيات المحتجزات في "مخيّم الهول".
فما طبيعة هذه التحرّكات السياسية التي تقوم بها "قوات سوريا الديمقراطية" في لبنان؟ وكيف يمكن أن تؤثّر على علاقة بيروت بكلّ من دمشق وأنقرة؟ وما هي خطط لبنان للحيلولة دون فتح جبهات صراع وتوتّر سياسي جديدة هو في غنى عنها؟
لقاء أمني ورسائل سياسية
في تطوّر مفاجئ يعيد إلى الواجهة واحداً من أكثر الملفات حساسية بين لبنان و"قوات سوريا الديمقراطية"، التقى المدير العام للأمن العام اللبناني اللواء حسن شقير، يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، مع وفد من "قسد" في مقرّ الأمن العام ببيروت، خُصّص لبحث ملفّ النساء اللبنانيات وأطفالهنّ المحتجزين في "مخيّم الهول" شمال شرق سوريا.
اللقاء الذي يُعدّ الأول من نوعه منذ سنوات، جاء في وقت تشهد فيه المنطقة إعادة ترتيب للعلاقات بين بيروت ودمشق من جهة، وبين الحكومة السورية الجديدة و"قسد" من جهة أخرى، وهو ما أضفى على الاجتماع بُعداً سياسياً غير معلن رغم محاولات "قسد" تسريبه إلى الإعلام قبيل حصوله لإضفاء شرعية على تحرّكها في بيروت.
ووفق المعلومات التي توصّل إليها "عربي بوست"، فإن ملف اللبنانيات وأطفالهنّ في مخيم الهول لم يُحرّك منذ سنوات، والآن أعادت "قسد" استخدامه لأسباب متعلّقة بحضورها السياسي في سوريا، والتحرّكات التي تقوم بها منذ سقوط نظام بشار الأسد.
ووفق مصدر حكومي لبناني لـ"عربي بوست"، فإن الوفد ضمّ مدير جهاز الاستخبارات في "قسد" وعدداً من أعضاء الجهاز، إضافة إلى ممثّل "الإدارة الذاتية" في لبنان عبد السلام أحمد، وقد حمل معه طلباً رسمياً للقاء مسؤولين حكوميين في بيروت، من بينهم رئيس الحكومة نواف سلام، وممثّلين عن وزارات الداخلية، والجيش، والشؤون الاجتماعية، بهدف توسيع النقاش حول ملفّ العائلات اللبنانية في "الهول".
لكنّ الجانب اللبناني رفض هذا الطلب، وأصرّ على حصر اللقاء ضمن دائرة جهاز الأمن العام فقط، في مسعى واضح لإبقاء التواصل مع "قسد" ضمن حدود تقنية، وتجنّب أيّ مظهر سياسي يمكن أن يُفسَّر على أنه اعتراف رسمي بالإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، أو خطوة تستفزّ أنقرة ودمشق اللتين تراقبان تحرّكات "قسد" بدقّة.
ووفق المصادر، فإن القرار اللبناني حاسم: لا علاقة سياسية أو رسمية مع قوات سوريا الديمقراطية، والتنسيق القائم محصور بملف إنساني بحت، مضيفةً أنّ بيروت لا ترغب في أيّ تواصل يُخرج الملف من سياقه الإنساني ويمنحه بُعداً دبلوماسياً أو سياسياً.
كما حرص المسؤولون اللبنانيون، بحسب المصدر الذي تحدّث لـ"عربي بوست" شريطة عدم ذكر اسمه، على إبلاغ دمشق مسبقاً بخلفيات اللقاء وأهدافه، لتجنّب أيّ توتّر أو سوء فهم في لحظة تعمل فيها العاصمتان على إعادة بناء الثقة.
ما وراء اجتماعات "قوات سوريا الديمقراطية"
لكنّ الاجتماع الأمني لم يكن سوى الجزء الظاهر من المشهد. فوفق معلومات "عربي بوست"، أجرى الوفد خلال وجوده في بيروت سلسلة لقاءات غير رسمية مع نواب من حزبي "القوات اللبنانية" و"الكتائب" وشخصيات سياسية وإعلامية لبنانية، تناولت رؤيتها لمستقبل سوريا بعد تولّي الرئيس أحمد الشرع الحكم، وموقفها من مشروع الإدارة الذاتية شمال شرق البلاد.
وبحسب مصادر سياسية مطّلعة لـ"عربي بوست"، فإنّ "قوات سوريا الديمقراطية" تحاول في المرحلة الراهنة فتح قنوات حوار مع أطراف لبنانية متعدّدة لتكريس حضور سياسي وإعلامي في بيروت، مستفيدة من هامش الحريات اللبنانية ومن التراجع النسبي للحضور السوري الرسمي.
وتشير المصادر إلى أنّ التحرّكات الأخيرة شملت أيضاً لقاءات مع مسؤولين سابقين في النظام السوري السابق، وشخصيات لبنانية وسورية مرتبطة بالمرجع الديني الدرزي الشيخ حكمت الهجري، ما اعتُبر محاولة لتشكيل شبكة دعم أو جبهة سياسية تمتدّ من شرق الفرات إلى لبنان، عبر واجهات مدنية وشخصيات سياسية وإعلامية.
ووفق المعلومات، فإن هذا النشاط لم يمرّ من دون انتباه الأجهزة اللبنانية، إذ أبدت الشخصيات الأمنية التي التقت "قسد" امتعاضاً من محاولات استخدام الساحة اللبنانية كمنصّة سياسية بديلة، وأبلغت ممثليها بوضوح أن العلاقة محصورة حصراً بملف مخيّم الهول والنساء اللبنانيات وأطفالهن، ولا يمكن أن تتوسّع لتشمل أيّ تواصل سياسي أو إعلامي.
موقف لبنان الرسمي من تحرّكات "قسد"
بالتوازي، أكّد المصدر الحكومي في تصريحه لـ"عربي بوست" أن لبنان يُبدي تحفّظاً واضحاً إزاء أيّ انخراط مباشر مع "قسد"، مدفوعاً بمخاوف من أن تتحوّل الخطوة إلى محور توتّر جديد مع دمشق التي تعتبر نفسها صاحبة الولاية القانونية والسياسية على كلّ الأراضي السورية.
وتؤكّد المصادر الحكومية أنّ بيروت، على مستوى الحكومة والأجهزة الأمنية ووزارة العدل، تخشى أن يُفسَّر اللقاء الأخير مع وفد "قسد" على أنه تجاوز للدور السوري أو تجاهل لموقع دمشق الرسمي، خصوصاً بعد أن أبدت دمشق إشارات واضحة إلى استعدادها لتولّي هذا الملف بشكل مباشر.
ويؤكّد المصدر أن وزير العدل السوري مظهر الويس أبلغ المسؤولين اللبنانيين خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت، أنّ دمشق جاهزة للتنسيق الكامل مع بيروت من أجل حلّ قضية اللبنانيات وأطفالهن في "مخيّم الهول" وبقية المخيمات الواقعة تحت سيطرة "قسد"، مبدياً استعداد وزارته للتعاون عبر قنوات قضائية وأمنية مشتركة لضمان عودة هؤلاء النساء بطريقة قانونية ومنظمة.
ويأتي هذا الموقف ليعزّز قناعة بيروت بضرورة الإبقاء على مسافة محسوبة من "قوات سوريا الديمقراطية"، تجنّباً لأيّ اصطدام سياسي أو أمني مع الدولة السورية، في وقت تعمل فيه الحكومتان على إعادة بناء علاقاتهما الرسمية بعد سنوات من الفتور.
وترى دوائر رسمية لبنانية أن أيّ معالجة لهذا الملف الإنساني لن تكون قابلة للاستمرار من دون غطاء رسمي من دمشق، التي قد تطلب مستقبلاً أن تكون الجهة الوحيدة المخوّلة بمتابعة ملف "الهول" والتنسيق بشأنه مع لبنان والمجتمع الدولي.
ويؤكّد المصدر أن "قسد" حاولت استثمار ملف مخيّمات ذوي عناصر "داعش"، مع دول عربية وخليجية، لفتح علاقات جانبية مع تلك الدول، لكنها فشلت في ظلّ تطور علاقة دمشق مع محيطها العربي والإقليمي، الأمر الذي يدفع لبنان لمواكبة هذه التحوّلات.
الزيارة منسّقة مع واشنطن!
بالمقابل، حرص الوفد على إبلاغ كلّ من التقاهم في بيروت أن الزيارة والتحرّكات الجارية هي بتنسيق عالٍ مع واشنطن، وبطلب مباشر منها، والتي نسّقت هذه التحرّكات بالتوازي مع انخراطها مؤخراً في إعادة ترتيب حلفائها في المنطقة لمواجهة أيّ خطر محدق مرتبط بعودة تنظيم داعش للنشاط في المنطقة.
وأشار المصدر إلى أن وفد قوات سوريا الديمقراطية أبلغ الضباط الذين التقاهم أن حلّ ملف المحتجزات اللبنانيات في الحسكة يجب أن يجري تنسيقه مع التحالف الدولي لمواجهة تنظيم "داعش".
ودأبت الولايات المتحدة على تقديم دعم مالي وعيني لـ"قوات سوريا الديمقراطية"، وأظهرت وثيقة صادرة عن البنتاغون في شهر يوليو/تموز 2025 أنّ الوزارة طالبت بتخصيص 130 مليون دولار في ميزانية العام المالي 2026 لدعم قوات سوريا الديمقراطية وفصائل سورية أخرى.
"مخيم الهول".. ملف إنساني محفوف بالسياسة
في خلفية هذا المشهد، يبقى ملف النساء والأطفال اللبنانيين في "مخيّم الهول" هو الغطاء الإنساني الذي تتحرّك من خلاله "قوات سوريا الديمقراطية".
إذ تطالب بيروت منذ سنوات بإعادة 11 امرأة لبنانية متزوّجات من عناصر في تنظيم "داعش"، ومعهن 22 طفلاً، يعيشون في أوضاع إنسانية صعبة داخل المخيم الذي يضمّ أكثر من 40 ألف شخص من 9 آلاف عائلة، بينهم آلاف من جنسيات عربية وأجنبية مختلفة.
وتصف الأمم المتحدة المخيم بأنه "أخطر بؤرة أمنية وإنسانية في الشرق الأوسط"، بسبب تزايد النشاطات المتطرّفة داخله وعمليات التجنيد التي تستهدف الأطفال والنساء.
ويقول مصدر أمني لبناني لـ"عربي بوست" إنّ "عدد العائلات اللبنانية محدود ويمكن احتواؤه بسهولة، لكن تركهم في تلك البيئة لأعوام أخرى قد يشكّل خطراً حقيقياً على الأمن اللبناني"، مضيفاً أنّ "المؤسسة الأمنية تنظر إلى القضية كملف إنساني يجب إنهاؤه، لا كمنفذ سياسي لأيّ طرف".
في ضوء هذه التطورات، يحاول لبنان الحفاظ على توازن دقيق، فهو من جهة معني بإنهاء معاناة مواطنيه في "الهول"، ومن جهة أخرى يدرك أن أيّ علاقة مباشرة مع "قسد" قد تُفهم كخطوة رمزية ضدّ دمشق، أو كمؤشر على انفتاح لبناني على جهة تعتبرها أنقرة تهديداً مباشراً لأمنها القومي.
ويقول المصدر الحكومي اللبناني إنّ "لبنان لا يملك ترف الدخول في صراعات الآخرين"، وإنّ التنسيق مع "قوات سوريا الديمقراطية" سيكون محصوراً بملف الهول فقط، وبما لا يتعارض مع سيادة الدولة السورية أو المصالح اللبنانية، خاصة أنّ تركيا تساعد لبنان في ملفات سياسية وأمنية وحدودية متعددة، وهي واحدة من الدول الرئيسية الداعمة للجيش اللبناني.