أثارت موافقة مجلس النواب المصري، الخميس الماضي، نهائياً على قانون الإجراءات الجنائية جدلاً سياسياً وحقوقياً في مصر، وبدا واضحاً أن هناك صراعاً غير معلن بين طرفين في الدولة أحدهما يميل إلى تقييد مساحات الدفاع لصالح التوسع في سلطة النيابة العامة على حساب حقوق المتهمين، والأخرى تريد التوازن بين ضمانات العدالة ومتطلبات الأمن والحريات الدستورية.
وكانت النتيجة عدم الاستجابة في البداية بشكل كامل لاعتراضات الرئيس عبدالفتاح السيسي على بعض مواده والتي بسببها جرى إعادته مرة أخرى للبرلمان لتعديله، لتأتي الصيغة النهائية مخيبة لآمال القوى السياسية ومنظمات حقوق الإنسان التي أبدت اعتراضها مجدداً على القانون الذي تصل عدد مواده إلى (540) مادة ويعد بمثابة "دستور" مُصغر.
تعديلات بسيطة وليست موسعة
وكشف نائب برلماني شارك في جلسات البرلمان الأخيرة لتعديل القانون، أن إعادة القانون للبرلمان مرة أخرى كانت مفاجئة للنواب، غير أن هناك كان رأياً سائداً بأن يتم إرجاء النقاش حوله إلى البرلمان الجديد الذي سيبدأ أولى جلساته مطلع العام المقبل، وكذلك لضيق الوقت قبل انتهاء جلسات البرلمان الحالي واستعداد غالبية النواب لحملاتهم الانتخابية للانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها مطلع الشهر المقبل.
وأوضح أن جلسات النقاش حول المواد المراد تعديلها لم تتجاوز أسبوعين وهي مدة زمنية قصيرة للغاية، وكانت هناك رؤى بأن يتم التوسع في النقاش حول عدد من مواد القانون وليس فقط النقاش حول ثمانية مواد رئيسية تطرق إليها الرئيس عبدالفتاح السيسي في اعتراضه على القانون، لكن ذلك كان محل اعتراض من الأغلبية البرلمانية وكذلك من الحكومة ممثلة في وزير مجلس الشؤون النيابية، وفي النهاية جرى الاستقرار لان يتم الاستماع إلى رؤى النقابات بخاصة نقابة المحامين التي اعترضت على التعديلات النهائية.
ولفت المصدر ذاته إلى أن النقاشات تركزت على إضافة بعض التعديلات البسيطة دون أن تمس الجوهر وجاء ذلك نتيجة ضيق الوقت، وكان من المفترض أن يتم النقاش حول إعادة صياغة هذه المواد بشكل كامل بدلاً من إضافة أو حذف أجزاء منها، وفي النهاية كان هناك توافق على زيادة بدائل الحبس الاحتياطي، وبعد أن كانت في القانون الذي جرى إقراره في إبريل الماضي ثلاث بدائل فقط أصبح الآن هناك 7 بدائل ويعد ذلك من أهم التعديلات وأكثر إيجابية.
وشدد المصدر على أن المشاركين في النقاشات توافقوا على أن تكون البدائل متمثلة في إلزام المتهم بعدم مبارحة مسكنه، إلزامه بأن يقدم نفسه لمقر الشرطة، حظر ارتياده أماكن محددة، إلزامه بعدم مغادرة نطاق جغرافي محدد، إلزامه بالامتناع عن استقبال ومقابلة أشخاص معينين، منعه مؤقتا من حيازة أو إحراز الأسلحة، ونهاية باستخدام الوسائل التقنية في تتبع المتهم.
ولفت المصدر إلى أن النقاش داخل البرلمان تطرق إلى تحديد فترة واضحة ونهائية لمدة الحبس الاحتياطي لكن جرى الاستقرار على أن يبقى النص هو "مراجعة موقف المحبوسين احتياطيا كل 3 أشهر"، مشيراً إلى أن أحزاب المعارضة اعترضت على هذا التعديل، كما أن الاعتراضات الأكبر كانت على حالات محاكمة المتهمين دون وجود محامين وهي "في الحالات التي يُخشى فيها على حياة المتهم وكان ذلك لازماً لكشف الحقيقة"، وكانت هناك رغبة من نقيب المحامين وكذلك بعض ممثلي المعارضة بغلق الباب أمام أي حالات يمكن فيها لعضو النيابة الاستماع إلى المتهم دون محامي.
وشدد على أن بعض أعضاء اللجنة التي شكلها رئيس مجلس النواب لمراجعة اعتراضات الرئيس على القانون كان لهم رأي بأن ذلك سيكون عرضة للطعن على القانون أمام المحكمة الدستورية العليا لتعارضه مع نص المادة (54) من الدستور والتي تنص على أن "الحرية الشخصية حق طبيعي، وهى مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي مسبَّب يستلزمه التحقيق".
ولفت المصدر ذاته إلى أن نقيب المحامين كان لديه اعتراضات واسعة على مسألة إرجاء تطبيق القانون لمدة عام وكذلك تعديل المادة (105) والمتعلقة بتواجد المحامي مع المتهمين، مشيراً إلى أن الأغلبية أصرت على تمريرها بشكل برهن على أن البرلمان لم يستجيب لجوهر ما طالب به الرئيس في اعتراضاته على القانون، وفي تلك اللحظة أدرك الجميع بأن البرلمان سوف يوافق على تعديلات بسيطة وليست موسعة كما هو منتظر.
التعديل يحقق فلسفة الملاحظات الرئاسية
وفي 21 سبتمبر 2025، وبعد جدل قانوني، فاجأ الرئيس عبدالفتاح السيسي، الجميع بإعادة القانون لمجلس النواب لإجراء تعديلات عليه، ما قابله البعض بتفاؤل شديد وتوقعات بحدوث انفراجة حقوقية.
وكان الجدل الأكبر داخل البرلمان المصري بشأن تعديل المادة 105 من القانون، التي تضمنت في فقراتها أنه "يجوز لعضو النيابة في الأحوال التي يُخشى فيها على حياة المتهم وكان ذلك لازماً لكشف الحقيقة، الانتقال لاستجوابه، وذلك بعد أن يطلب من نقابة المحامين الفرعية ندب أحد المحامين لحضور الاستجواب بالطريقة التي يُتفق عليها بين النيابة العامة والنقابة العامة للمحامين، ولعضو النيابة أن يستجوب المتهم إذا لم يحضر المحامي في الموعد المحدد لحين حضوره، ويحق للمحامي الموكل أو المنتدب حضور جلسة التحقيق إذا حضر قبل انتهائها، والاطلاع على ما تم من إجراءات في غيبته".
وأقر "النواب" نص (المادة 105)، بعد اعتراضات نواب ونقيب المحامين على التعديل الذي يبيح للنيابة "التحقيق مع المتهم في غياب محاميه في الحالات التي يُخشى فيها فوات الوقت"، فيما انسحب النائب محمد عبدالعليم، ونواب الحزب "المصري الديمقراطي"، معلنين أن تمرير المادة يمثل "انتهاكا للدستور".
ووافق المجلس على المادة 48 من مشروع القانون وفقاً للصيغة التي انتهت إليها اللجنة الخاصة والتي استجابت فيها إلى ملاحظات رئيس الجمهورية بشأن تحديد حالات الضرورة لتفتيش المنازل، وذلك بالنص على أن تفتيش المنازل دون إذن قضائي كما هو مقرر في المادة 47 من القانون في حالات الخطر الناجم، أو الحريق أو الغرق أو ما شابه ذلك.
وكانت المادة 48 التي اعترض عليها رئيس الجمهورية، تنص على "استثناء من حكم المادة 47 من هذا القانون؛ لرجال السلطة العامة دخول المنازل وغيرها من المحال المسكونة في حالات الخطر والاستغاثة".
وتمثل اعتراض رئيس الجمهورية على هذه المادة، في أنها لم تحدد المقصود بحالات الخطر التي تجيز لرجال السلطة العامة دخول المنازل وغيرها من المحال المسكونة، بما قد يمس الحماية الدستورية المقررة لها طالما لا توجد محددات أو تعريف متوافق عليه لحالات الخطر.
وأقر المجلس نص المادة 114 بعد زيادة بدائل الحبس الاحتياطي من 3 إلى 7 بدائل، ووافق المجلس على تعديل المادة 123 بما يحقق مزيداً من الضمانات القانونية للمتهمين، ويمنع إطالة فترات الحبس الاحتياطي دون ضرورة، في ضوء ما تضمنته الملاحظات الرئاسية من توجيهات بضرورة إحكام الرقابة الدورية على قرارات الحبس.
وتنص الفقرة الثانية من المادة بعد تعديلها، على أنه "ومع ذلك، يتعين عرض الأمر على النائب العام كلما انقضى 90 يوماً على حبس المتهم بجناية احتياطيًا أو مدّه، لاتخاذ الإجراءات التي يراها كفيلة للانتهاء من التحقيق".
وقال المجلس إن التعديل يحقق فلسفة الملاحظات الرئاسية، ويضيف ضمانة جديدة للمتهمين، تضمن مراجعة موقفهم دورياً كل 3 أشهر، وتُلزم النيابة العامة بسرعة البت في التحقيقات، بما يعزز العدالة الناجزة ويحمي الحرية الشخصية المنصوص عليها في المادة 54 من الدستور.
شبهة عدم الدستورية
وقال نائب برلماني آخر، تحدث شريطة عدم ذكر اسمه، إن نواب حزب مستقبل وطن صاحب الأغلبية في البرلمان لم يرغبوا في الاقتناع بأن جوهر اعتراض الرئيس على بعض المواد أنها لا تتسق مع الدستور وخاصة المادة المرتبطة بحالات التحقيق مع المتهمين في غياب محاميهم، وهدف الرئيس للحفاظ على حقوق المتهمين الدستورية دون أن يضمن البرلمان أو القانون هذا الحق في أعقاب التعديلات الأخيرة.
وذكر أن القانون بشكله الحالي يشوبه شبهة عدم الدستورية ويبدو كأنه انعكاسا لنزعات سياسية وأمنية من جانب البعض لترسيخ الوضع القائم وتقنينه ومن المتوقع الطعن عليه وعدم تطبيقه بشكله القائم، بخاصة وأننا أمام عام كامل يمكن أن يكون هناك حكم قضائي يقلب الطاولة من جديد، لافتاً إلى أن بعض نواب حزب الأغلبية كانت رغبتهم في إرجاء النقاش حول مواد القانون إلى البرلمان القادم لكن لم يتم الاستماع لهذا الرأي.
وشدد على أن القانون بشكله الحالي لم يسد الباب أمام التوظيف السلبي لعقوبة الحبس الاحتياطي في سلب حريات المتهمين، رغم أن تلك المواد كانت بمثابة الأساس الذي بمقتضاه جرى تعديل القانون بعد نقاشات مطولة خلال جلسات الحوار الوطني، وأن المعارضة حاولت وضع ضوابط صارمة لتطبيق الحبس الاحتياطي لم يتم الاستجابة لها.
والأكثر من ذلك وفقاً للنائب ذاته فإن تعديل المادة (105) يتعارض مع مذكرة اعتراض الرئيس عبدالفتاح السيسي، وهو اعتراض محله أن المادة تخالف الدستور الذي ينص صراحة على أنه لا يمكن التحقيق مع متهم إلا في حضور محامي معه، كما أن هذه المادة واجهت تحديداً اعتراضات من المجلس الدولي لحقوق الإنسان وجرى تسليط الضوء عليها في المراجعة الدورية الأخيرة، كما أنها تفتح أبواب الانتقادات الحقوقية لمصر.
وشدد المصدر ذاته على أن نواب المعارضة سعوا للتقدم برؤيتهم لتعديل المواد ليتم النقاش حولها في مقابل ما قدمته الحكومة من تعديلات لكن لم يتم الأخذ بهذا الرأي، وفي النهاية اكتفت اللجنة التي شكلها رئيس البرلمان بدراسة المواد محل الاعتراض وسعت لأن يكون هناك إقرار نهائي لصيغة قريبة من التي أرسلتها الحكومة مع عرضها على جميع الأطراف الممثلين داخل اللجنة الخاصة.
كانت جلسة اللجنة الخاصة التي تولت صياغة تعديلات القانون عقب اعتراضات السيسي، قد شهدت خلال اجتماعها بداية الشهر الجاري، انسحاب عدد من النواب، فضلاً عن نقيب المحامين، عبد الحليم علام، اعتراضاً على طرح تعديل المادة (105)، كما أعلن نقيب الصحافيين، خالد البلشي حينها تضامنه مع موقف نقابة المحامين.
أصدرت حملة "نحو قانون عادل للإجراءات الجنائية"، المكونة من تحالف واسع من الأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية والنقابات، بياناً شديد اللهجة عبرت فيه عن رفضها التام للتعديلات الأخيرة التي أقرها مجلس النواب على مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، وذلك بعد إعادة صياغة بعض مواده إثر اعتراضات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ووصفت الحملة التعديلات المصاغة بأنها "رِدَّة وتراجع عن المبادئ الحاكمة لمواد المشروع"، مؤكدة أنها "لم تضاعف الضمانات المقررة للحقوق والحريات، بل أضعفتها وانتقصت منها"، مطالبة على نحوٍ حاسم رئيس الجمهورية بعدم إصدار القانون، وإحالته لمجلس الشيوخ لإعادة النظر فيه على نحوٍ متأنٍ وشامل.
وأعربت الحملة عن خيبة أمل كبيرة إزاء طريقة تعامل مجلس النواب مع المشروع برمته، وخاصة بعد عودته من رئاسة الجمهورية، مشيرة إلى أنها كانت تأمل في أن يغتنم المجلس الفرصة لإعادة النظر في المواد المثيرة للجدل، وأن يترك مناقشة القانون للمجلس القادم بعيداً عن "حالة الريبة السياسية" وقرب انتهاء الفصل التشريعي.