في الوقت الذي يتهيأ فيه شمال شرق سوريا لمرحلة جديدة من الاستقرار النسبي، تكشف مصادر سورية مطلعة أن "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) لا تزال تواصل تجهيزاتها العسكرية بشكل مكثف، في حين تواصل في الوقت ذاته حوارًا علنيًا مع الحكومة السورية حول مستقبل علاقاتها بالجيش والدولة.
تثير هذه التناقضات بين خطاب التهدئة والتحركات الميدانية تساؤلات حول ما إذا كانت المنطقة على أبواب مواجهة جديدة، وكيف سيكون موقف الإدارة الأمريكية والحكومة السورية في حال اندلاع أي صدام محتمل.
التجنيد الإلزامي
رغم الاجتماعات وغطاء الحوار السياسي الذي شهدته الأيام الماضية من خلال لقاء مظلوم عبدي، قائد قوات قسد، مع الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الدفاع وبعض أعضاء حكومته بوساطة أمريكية لتهدئة الأوضاع بعد اشتباك مسلح بين قسد والجيش السوري في مدينة حلب، يواصل الواقع الميداني في مناطق سيطرة "قسد" التحرك نحو التجهيز لصراع جديد مع دمشق.
كشفت مصادر مطلعة في الحسكة أن "قسد" تواصل منذ أكثر من شهر حملة تجنيد إلزامي موسعة تشمل الحسكة والرقة والقامشلي ودير الزور، وهي الأكبر منذ عام 2018، وتستمر حتى بعد وقف الاشتباكات في حلب. هذه التحركات تتناقض بشكل واضح مع الرسائل السياسية التي تبعثها "قسد" إلى دمشق حول الرغبة في الاندماج، وتشير إلى أن القيادة الكردية تتهيأ لاحتمالات مواجهة جديدة مع الجيش السوري أو فصائل موالية لتركيا شمال البلاد.
اجتماعات مع القبائل
بالإضافة إلى ذلك، كشف مصدر مطلع قريب من مظلوم عبدي عن عقد "قسد" اجتماعًا موسعًا مع ممثلين عن العشائر العربية المحلية. جاء الاجتماع في إطار سعي "قسد" إلى تعزيز التماسك الداخلي وضمان غطاء محلي يمكنها من التعامل مع أي توسع محتمل في رقعة الاشتباكات المسلحة، بعد موجة من الاتهامات الموجهة إليها بفرض سيطرتها على القرار الأمني والإداري في المنطقة.
وأكد المصدر أن الهدف الأساسي من هذه التحركات هو تخفيف حدة الاحتقان العربي–الكردي، الذي ظهر جليًا خلال الفترة الماضية نتيجة الخلافات حول إدارة الموارد الأمنية والإدارية في دير الزور.
وقد أظهرت الفترة الأخيرة أن "قسد" تواجه تحديات مزدوجة؛ الأول يتعلق بالحفاظ على صورة القوة الضامنة للأمن في المناطق التي تسيطر عليها، والثاني يتعلق بالحفاظ على شرعيتها أمام السكان المحليين العرب الذين يشعرون أحيانًا بالتهميش. وفي هذا الإطار، يقول المصدر السوري إن القادة في "قسد" يسعون إلى توسيع شبكة التحالفات مع العشائر العربية، ليس فقط لضمان عدم توسع النزاعات، بل أيضًا لتعزيز آليات المراقبة المحلية التي تمكنهم من احتواء أي محاولات لزعزعة الاستقرار الداخلي.
ويكشف المصدر أن الاجتماعات مع العشائر لم تقتصر على الحوار النظري أو التأكيد على الولاء، بل تضمنت أيضًا خطوات عملية لتعزيز التنسيق في الملفات الأمنية والإدارية، بما في ذلك تبادل المعلومات حول التهديدات المحتملة وتحديد نقاط التوتر الأكثر حساسية في دير الزور. ويشير ذلك إلى استراتيجية مزدوجة لدى "قسد": محاولة تقديم نفسها كجهة مسيطرة مسؤولة، وفي الوقت ذاته بناء شبكة أمان محلية تضمن عدم فقدان السيطرة إذا ما اندلعت مواجهات على نطاق أوسع.
ويشير المصدر إلى أن الخطاب السائد داخل مؤسسات "قسد" يقوم على معادلة مزدوجة: "المسار السياسي لا يغني عن الاستعداد العسكري". فبينما تواصل القيادة لقاءاتها مع دمشق وواشنطن بحثًا عن حلول سلمية، تحافظ على قدرة ميدانية تؤمن مكتسباتها السابقة، في ظل تجربة السنوات الماضية التي شهدت تراجع دمشق عن تفاهمات جزئية مع "قسد"، خصوصًا بعد انسحاب أمريكي جزئي عام 2019 خلال العملية التركية "نبع السلام". منذ ذلك الحين، اعتبرت القيادة الكردية أن القوة الذاتية هي الضمانة لأي تفاهم سياسي لاحق.
تأتي هذه التحركات من جانب "قسد" رغم إجراءات سابقة شهدتها المنطقة من اجتماعات بين مظلوم عبدي والرئيس السوري أحمد الشرع لإعادة إحياء اتفاق مارس/آذار 2025 بعد اشتباكات ضارية بين الطرفين في حلب.
وقد كشفت مصادر سورية مطلعة على تحركات مظلوم عبدي، القائد العام لـ"قسد"، أن الولايات المتحدة لعبت دورًا حاسمًا خلال الأيام الماضية في احتواء التوتر العسكري بين القوات الكردية والجيش السوري، بعد اشتباكات عنيفة شهدتها مناطق الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، إضافة إلى مواجهات متفرقة في دير الزور.
وبحسب المصادر، تدخلت واشنطن على الصعيدين السياسي والمالي لوقف ما وصفته بـ"نذر الحرب"، وقالت المصادر إن الإدارة الأمريكية سارعت لضخ مساعدات مالية كبيرة لـ"قسد" عبر قنوات رسمية وبموافقة الكونغرس، بعد تصاعد الاشتباكات مع الجيش السوري.
وأوضح المطلعون أن الدعم المالي جاء لأسباب عدة، منها: أولًا لمواجهة الضغوط المالية والعسكرية التي تعاني منها "قسد" بسبب نقص التمويل وقلة الخبرة، فضلاً عن الأزمات المتلاحقة داخل معسكرات احتجاز عناصر تنظيم "داعش"، وثانيًا لاحتواء أي انفجار ميداني جديد قد يهدد التوازنات القائمة في الشمال الشرقي ويضعف النفوذ الأمريكي، فضلًا عن دعم مواجهة "قسد" أمام الجيش السوري.
تداعيات لقاء مظلوم عبدي والشرع
ورغم أن النغمة التي صاحبت التصريحات الرسمية من جانب الحكومة السورية حول لقاء عبدي والشرع كانت إيجابية، أكد مصدر داخل الإدارة الذاتية أن دمشق تمسكت بموقفها الرافض لأي وجود عسكري أو إداري مستقل خارج سيطرة الدولة، مقترحة صيغة "الاندماج الكامل" لقوات "قسد" ضمن الجيش السوري دون أي خصوصية قومية أو تنظيمية.
في المقابل، رفضت "قسد" ذلك بشكل قاطع، وطالبت باندماج تدريجي يحافظ على طابعها المحلي والإداري مع الاعتراف الرسمي بالإدارة الذاتية اللامركزية في شمال وشرق سوريا، إلا أن النظام اعتبر ذلك تهديدًا "لوحدة الدولة" و"الهوية الوطنية".
وتشير المعلومات إلى أن اجتماعًا بين عبدي ووزير الدفاع السوري بعد لقاء الرئيس الشرع لم يكن أكثر نجاحًا، إذ أصر الوفد السوري على أن أي نقاش حول مستقبل "قسد" يجب أن يبدأ من "إلغاء كل الهياكل العسكرية والإدارية المستقلة"، فيما رد عبدي بأن ذلك يعني عمليًا تفكيك البنية التي قامت عليها قوات سوريا الديمقراطية منذ تأسيسها عام 2015.
وفي الوقت الذي أثير فيه جدل حول موافقة "قسد" على تسليم حقول النفط في دير الزور إلى الحكومة السورية، نفى مصدر مقرب من الإدارة الذاتية ذلك، مؤكدًا أن الموضوع لم يُناقش على الإطلاق خلال الاجتماعات مع الرئيس الشرع. وأضاف أن النقاش ركز على دمج القوات ضمن هيكل وطني منظم، وقف إطلاق النار، تعديل الدستور ليشمل جميع المكونات، عودة المهجرين، ومكافحة الإرهاب، دون أي حديث حول النفط أو تسليم الإنتاج للحكومة.
في سياق مواز، قال مصدر يعمل مستشارًا في وزارة الدفاع السورية إن الرسالة الأمريكية من احتضان لقاء بين عبدي والشرع في دمشق كانت واضحة: منع أي حرب داخلية جديدة في شمال شرق سوريا مقابل استمرار الدعم المادي والعسكري لـ"قسد"، شريطة الحفاظ على التنسيق الأمني مع القوات الأمريكية. لكن واشنطن لا تظهر استعدادًا للضغط على دمشق لتقديم تنازلات سياسية حقيقية، ما يجعل "قسد" عالقة بين الاعتماد الكامل على الدعم الأمريكي والعجز عن تحقيق تقدم في الحوار مع النظام السوري.
وبحسب المصدر، تبقى "قسد" في دائرة النفوذ الأمريكي دون أفق سياسي واضح، ما يفسر إصرار مظلوم عبدي على الحفاظ على التوازن بين التهدئة مع دمشق والاستعداد لأي سيناريو ميداني محتمل.
يشير المصدر إلى أن الهدوء الحالي في الشيخ مقصود والأشرفية ودير الزور ليس أكثر من "هدنة مؤقتة" فرضتها واشنطن بضغط مالي وسياسي. فالأسباب الجوهرية للصدام ما زالت قائمة: خلاف حول الهوية، غياب الثقة، وتضارب مصالح إقليمية بين دمشق و"قسد"، إلى جانب الدور الأمريكي في ضبط التوازن. رغم نجاح واشنطن مؤقتًا في تجميد التوتر، إلا أنها لم تعالج جذور الأزمة.
وقال إن "قسد" تعتبر نفسها قوة محلية مستقلة ذات مشروع سياسي، بينما ترى دمشق أنها مجرد "أداة أمريكية مؤقتة" لا يمكن قبولها إلا بعد دمج عناصرها في مؤسسات الدولة. وبين هذه الحسابات، يبقى شمال شرق سوريا مسرحًا لصراع الإرادات، حيث تُدار الملفات الحساسة — من الأمن إلى النفط إلى الحكم المحلي — في ظل توازن هش يعتمد أكثر على قرار واشنطن من تفاهم سوري داخلي.
التمويل الأمريكي الطارئ يمنح "قسد" استقرارًا مؤقتًا، لكنه يعمّق تبعيتها ويجعل فرص الوصول إلى تسوية سياسية مع دمشق أكثر تعقيدًا، في وقت لا يبدو فيه النظام السوري مستعدًا للتنازل عن "المركزية المطلقة" أو الاعتراف بأي إدارة ذاتية قد تؤدي إلى انقسام مستقبلي.
وبخصوص احتمالية نشوب حرب أخرى بين قوات "قسد" والجيش السوري، سواء في حلب أو في دير الزور، فإن الحكومة السورية وفق المصدر السوري لا تثق أن أمريكا سوف تتدخل لوقف الحرب، أو أن تنحاز لدمشق على حساب "قسد"، خاصة وأن دمشق تدرك أن أمريكا تستطيع إنهاء الصراع الحالي لكنها لا تريد ذلك.
في ظل هذه المعادلات، تبقى المنطقة مفتوحة على احتمالات عدة: تهدئة متقطعة أو تصعيد جديد قد تندلع شرارته من دير الزور أو أحياء حلب الكردية، في حال فشل التفاهمات الحالية في الصمود أمام ضغوط الواقع الميداني والسياسي المعقد.