ماذا خسرت مصر بعد إنشاء إثيوبيا لسد النهضة؟ تساؤلات تهم المصريين يجيب عليها خبراء في ملف نهر النيل

عربي بوست
تم النشر: 2025/09/23 الساعة 10:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/09/23 الساعة 10:59 بتوقيت غرينتش
تأثير سد النهضة على مصر- عربي بوست

قالت مصادر مصرية قريبة من ملف التفاوض المصري حول سد النهضة مع إثيوبيا تحدثت لـ"عربي بوست" إن "مراوغة" أديس أبابا خلال السنوات الماضية بخصوص آلية تشغيل السد تسببت في خسارة مصر ما يقارب 74 مليار متر مكعب من المياه طوال سنوات ملء السد، مبدين تخوفهم من أن السدود الثلاثة الأخرى التي تنوي إثيوبيا الشروع في بنائها قريباً سوف تتسبب في أزمة مائية كبيرة لمصر.

المصادر قالت إن مصر أنفقت 500 مليار جنيه على مسارات تخص تقليل إهدار المياه في الزراعة بسبب حجم العجز الضخم في مياه نهر النيل، ما تسبب في استنزاف الميزانية المصرية.

في هذا التقرير نستعرض أهم التساؤلات حول مصير حصة مصر من مياه نهر النيل وتأثير السد على مستقبل مصر المائي، ونستعين في الرد على ذلك بخبراء ومستشارين للحكومة المصرية.

ماذا خسرت مصر جراء إنشاء سد النهضة؟

يقول الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية في كلية الدراسات الإفريقية العليا بجامعة القاهرة، لـ"عربي بوست"، إنه وفق أحدث البيانات والتقارير الإثيوبية، فإن حجم التخزين خلف سد النهضة بلغ 74 مليار متر مكعب من المياه. هذه الكمية الضخمة، لو لم تُحجز في بحيرة السد، لكانت بطبيعة الحال قد تدفقت إلى مصر عبر مجرى النيل الأزرق. ويشير شراقي بوضوح: "لو مفيش سد النهضة كانت المية دي هتروح فين؟ هتروح مصر طبعاً، فطبيعي دا خسارة كبيرة لمصر".

لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الرقم فقط، إذ أضاف شراقي أن هناك 40 مليار متر مكعب أخرى فُقدت نتيجة عمليات التسريب والتبخر خلال سنوات بناء السد الخمس الماضية، ليصل إجمالي ما حُرمته مصر من المياه إلى نحو 100 مليار متر مكعب. وبالنظر إلى أن حصة مصر السنوية الثابتة من مياه النيل تبلغ 55.5 مليار متر مكعب فقط، فإن هذا الفقدان يعادل ما يقارب ضعف الحصة السنوية تقريباً، وهو ما يعكس حجم التحدي القائم.

ما هي البدائل التي لجأت إليها مصر لتعويض الخسائر المائية من سد النهضة؟

يرى شراقي أن البعض يحاول التهوين من حجم الأضرار عبر القول إن مصر لم تتأثر فعلياً، مستشهداً بقدرة الدولة على إيجاد بدائل لتعويض النقص، سواء عبر الاعتماد على المخزون الاستراتيجي في بحيرة السد العالي أو من خلال سياسات ترشيد وإعادة استخدام المياه.

لكن الحقيقة – كما يوضح – أن هذه البدائل جاءت بكلفة باهظة. فقد اضطرت مصر إلى إعادة استخدام نحو 25 مليار متر مكعب من مياه الصرف الزراعي بعد معالجتها، لتدخل مجدداً في منظومة الري. هذه الخطوة وحدها كلفت الدولة استثمارات هائلة تقدر بحوالي 500 مليار جنيه مصري. ويضيف شراقي: "25 مليار صرف زراعي مصر اضطرت تستخدمها في الزراعة بسبب العجز اللي حصل في المياه نتيجة سد النهضة".

بهذا المعنى، وفق كلام عباس شراقي، فإن مصر لم تنجُ من الخسائر كما يعتقد البعض، بل دفعت ثمناً اقتصادياً ضخماً لتقليل حجم الضرر الواقع عليها، وهو ما يمثل عبئاً إضافياً على الموازنة العامة في وقت تعاني فيه الدولة من تحديات اقتصادية متراكمة.

هل عمليات ملء بحيرة السد أثرت على حصة مصر؟

مع اكتمال عملية الملء التدريجي لخزان سد النهضة، يؤكد شراقي أن مرحلة التخزين قد انتهت فعلياً. وبداية من العام الحالي، لم يعد هناك تراكم إضافي في بحيرة السد، بل ستقتصر العملية على تمرير المياه القادمة من الأمطار السنوية.

هذا التطور، في رأيه، يخفف نسبياً من الضغوط المباشرة على مصر، لكنه لا يلغي المخاطر بالكامل. فإذا عملت التوربينات بكامل طاقتها، ستعتمد على الإيراد السنوي من الأمطار، وفي حال كان معدل الأمطار أقل من المتوسط، فإن حصة مصر ستتأثر حكماً. أما في حال وفرة الأمطار، فقد تصل لمصر كميات إضافية. وهنا يوضح شراقي أن التأثير الأكبر كان خلال سنوات الملء الخمس الماضية، حيث تحملت مصر العبء المالي والفني الأكبر لتعويض العجز.

من النقاط المهمة التي يطرحها شراقي أن مصر تعاني من عجز مائي مزمن يعود إلى عقود طويلة، وليس فقط بسبب سد النهضة. فمع زيادة عدد السكان إلى أكثر من 105 ملايين نسمة، وصل العجز المائي في مصر إلى نحو 50 مليار متر مكعب سنوياً. هذا العجز ظل قائماً منذ أكثر من ستة عقود، ما دفع مصر إلى الاعتماد بشكل متزايد على إعادة استخدام مياه الصرف الصحي والزراعي، وكذلك تحلية مياه البحر في بعض المناطق. إلا أن سد النهضة – بحسب شراقي – كان بمثابة عامل ضاغط إضافي، أجبر مصر على تسريع استثماراتها في مجال معالجة المياه، وتحمل أعباء مالية إضافية.

هل كان هناك تنسيق بين إثيوبيا ومصر في إدارة السد؟

إحدى النقاط الجوهرية التي يشدد عليها شراقي هي أن مصر لا تعرف بدقة كيف تدير إثيوبيا السد: هل تفتح بوابة واحدة أم أربع بوابات؟ هل تغلقها بالكامل في بعض الفترات؟ ويقول: "لازم يكون فيه تنسيق كامل بين إثيوبيا ومصر والسودان".

غياب الرقيب الدولي، أو أي آلية مشتركة لإدارة السد، يثير القلق في القاهرة. فالمياه – كما يشرح عباس شراقي – تصل حالياً إلى بحيرة سد النهضة بمعدلات ضخمة تصل إلى 400 مليون متر مكعب يومياً، لكن مع توقف موسم الأمطار في نوفمبر 2025 ستتحكم إثيوبيا بالكامل في تدفق النيل الأزرق لفترة قد تصل إلى ستة أشهر حتى الصيف التالي.

هل تستطيع إثيوبيا ابتزاز مصر بعد افتتاح سد النهضة؟

رغم المخاوف المصرية، يرى شراقي أن إثيوبيا لا تستطيع ابتزاز مصر بشكل كامل أو إغلاق النهر نهائياً، لأن الطبيعة الهيدرولوجية للنيل الأزرق تفرض عليها تمرير المياه. ففي مواسم الأمطار الغزيرة، تضطر أديس أبابا إلى فتح بوابات السد لتصريف الفائض وتقليل الضغط على جسم السد، وإلا تعرضت لخطر فيضان وتصدع.

لكن الخطر الأكبر يكمن – بحسب شراقي – في خطط إثيوبيا لبناء سدود إضافية، فقد أبلغت أديس أبابا القاهرة بالفعل نيتها بناء سد جديد قريباً، ولديها خطة لبناء ثلاثة سدود أخرى مستقبلاً. هذه المشاريع ستؤثر مجدداً على حصة مصر خلال فترات الملء، وتعيد الأزمة إلى المربع الأول.

يشير شراقي إلى أنه لو كان هناك تشاور مسبق مع مصر، ربما كانت القاهرة ستتقبل بناء سد النهضة أو أي سدود أخرى بشروط معينة. لكن غياب التفاهم والشفافية يجعل الأمر مقلقاً. الأخطر من ذلك أن نجاح إثيوبيا في فرض أمر واقع قد يغري دولاً أخرى بالانسحاب من اتفاقية عنتيبي والسير على النهج ذاته، ما يفتح الباب أمام فوضى مائية في حوض النيل.

غير أن شراقي يرى عاملاً طبيعياً يصب في مصلحة مصر: الطبيعة الجغرافية لدول حوض النيل، فالمياه – بحكم التضاريس – لا تجد طريقاً سوى الجريان شمالاً نحو السودان ومصر، ما يمنح القاهرة ورقة طبيعية في مواجهة أي محاولات لحرمانها كلياً من حقوقها.

كما أنه لا يمكن فصل قضية سد النهضة عن أبعادها السياسية والإقليمية. فإثيوبيا تعتبر السد مشروعاً قومياً ورمزاً لنهضتها الاقتصادية، بينما تراه مصر تهديداً مباشراً لأمنها القومي. هذا التناقض في الرؤى جعل المفاوضات تراوح مكانها لسنوات، رغم الوساطات الدولية والإفريقية، وان استمرار أديس أبابا في سياساتها الانفرادية قد يدفع دولاً أخرى إلى تبني السلوك ذاته، وهو ما يهدد استقرار الإقليم بأسره. وهنا يبرز البعد الاستراتيجي في تصريحات شراقي، الذي يحذر من أن "صمت مصر" قد يشجع الآخرين على إقامة سدود جديدة دون اتفاقيات ملزمة.

شراقي يقول إنه يمكن القول إن أزمة سد النهضة دخلت مرحلة جديدة بعد اكتمال الملء. لم يعد الخطر الأكبر في حجم التخزين ذاته، بل في كيفية إدارة وتشغيل السد، ومدى التزام إثيوبيا بالتنسيق مع دولتي المصب. وفي الوقت نفسه، تبقى مصر أمام تحديات داخلية ضخمة لمواجهة عجزها المائي المزمن، سواء عبر التوسع في مشروعات تحلية المياه، أو عبر تطوير نظم الري والزراعة لتقليل الفاقد.

هل هناك متسع من الوقت لإبرام اتفاق يضمن حقوق مصر؟

يرى شراقي أن الفرصة ما زالت قائمة إذا ما توافرت الإرادة السياسية لإبرام اتفاق شامل وملزم يضمن حقوق جميع الأطراف. فالنيل – في النهاية – نهر مشترك، ولا يمكن لأي طرف أن يستأثر به دون مراعاة مصالح الآخرين. ويقول شراقي إن "التأثيرات السلبية لسد النهضة على مصر واقعية وملموسة"، سواء عبر فقدان مليارات الأمتار المكعبة من المياه خلال سنوات الملء، أو عبر الكلفة الاقتصادية الباهظة التي تكبدتها الدولة لتعويض العجز. لكن في الوقت نفسه، تبرز هذه التصريحات أن السد – في مرحلته الحالية – لن يكون قادراً على حرمان مصر بالكامل من حصتها، بل يظل الخطر الأكبر في غياب التنسيق وغيوم الشك حول إدارة إثيوبيا للمشروع وخططها المستقبلية لبناء سدود جديدة.

هل استفادت مصر من فترات الملء لسد النهضة؟

نادر نور الدين، أستاذ الأراضي والمياه بكلية الزراعة جامعة القاهرة، له وجهة نظر أخرى تتعلق باستفادة مصر من ملء سد النهضة، حيث يقول إن سنوات الملء السابقة لافتتاح سد النهضة لم تؤثر فعلياً على حصة مصر من مياه النيل، والسبب في ذلك أن الملء تزامن مع فيضانات غزيرة على مدار خمس سنوات متتالية. فقد كان الفيضان وفيراً بما يكفي لتغطية احتياجات مصر والسودان، بينما كانت إثيوبيا تخزن حصتها من المياه دون أن تخصم فعلياً من حصة مصر التاريخية.

بل إن القاهرة – وفقاً لتقديره – استفادت مرتين: الأولى من الفيضانات الكبيرة التي عوضت أي نقص محتمل، والثانية من الظروف السياسية التي شهدها السودان، حيث أدت الصراعات الداخلية إلى تراجع قدرة الخرطوم على استغلال كامل حصتها، الأمر الذي سمح لمصر باستخدام جزء منها.

بهذا المعنى، لم تكن إثيوبيا هي التي وفرت الحماية لمصر من تداعيات التخزين، بل الطبيعة نفسها عبر فيضانات نادرة الحدوث. ويؤكد نور الدين أن أديس أبابا كانت ترفع جدران السد قبل الفيضانات بفترة وجيزة، من دون أن تعرف حجم التدفقات المائية المقبلة، وهو ما جعل المفاجأة مفيدة لمصر أكثر مما أفاد إثيوبيا.

أحد أكثر الأرقام التي جرى تداولها في السنوات الأخيرة هو الحديث عن خسارة مصر 70 مليار متر مكعب من المياه بسبب سد النهضة، غير أن نور الدين يرى أن هذا الكلام غير صحيح، موضحاً أن الفيضانات العالية لو كانت قد تجاوزت قدرة السد العالي على الاستيعاب، لتم تصريفها في بحيرات مثل توشكى، لكن ذلك لم يحدث. بل على العكس، مصر لم تخسر شيئاً خلال فترة الملء، لأن وفرة الأمطار والتدفقات عوضت أي نقص محتمل.

ويضيف أن إثيوبيا خزنت هذه الكميات على مدى ست سنوات، وليس دفعة واحدة، وهو ما ساعد على امتصاص الصدمة تدريجياً. لذلك، فإن تصوير المسألة على أنها خسارة كارثية لمصر لا يستند إلى أساس علمي أو ميداني، بل مجرد مبالغات إعلامية أو سياسية.

أين يكمن الخطر الحقيقي على مصر من سد النهضة؟

رغم هذا التطمين بشأن الماضي، فإن المخاوف المصرية الحقيقية – كما يوضح نور الدين – تتعلق بالمستقبل، وتحديداً بما يسميه سنوات العجاف. ففي فترات الجفاف التي قد تتكرر كل عدة عقود، قد تهبط التدفقات القادمة من النيل الأزرق إلى النصف تقريباً، أي من 55 مليار متر مكعب إلى 25 مليار فقط. في هذه الحالة، تتعرض مصر لمخاطر وجودية إذا استمرت إثيوبيا على موقفها الرافض لأي تنازل.

وتكشف تصريحات نور الدين أن القاهرة تقدمت بمقترح عملي يراعي حق إثيوبيا في توليد الكهرباء، لكنه يخفف الضرر على دول المصب، بأن تكتفي أديس أبابا بتوليد الكهرباء بنسبة 80% في سنوات الجفاف، بما يضمن مرور كميات إضافية من المياه. غير أن إثيوبيا رفضت هذا العرض، وأصرت على التشغيل بكامل الطاقة 100%، وهو ما يعني أن مصر وحدها ستتحمل تبعات تلك السنوات القاسية.

هل إثيوبيا تضمر النية السيئة بالفعل لمصر بعد تهربها من توقيع اتفاق حول سد النهضة؟

يذهب نور الدين إلى أبعد من مجرد الخلافات الفنية، ليؤكد أن هناك نية في الأذى والغدر من جانب إثيوبيا تجاه مصر والسودان. فلو كانت إثيوبيا حريصة على التعاون الإقليمي لبادرت إلى توقيع اتفاق ملزم وشامل، يتضمن بنوداً واضحة لمعالجة سنوات العجاف. غير أنها رفضت إدراج المقترحات المصرية ضمن الاتفاق، ما يعكس رغبة في فرض الأمر الواقع وليس البحث عن تسوية عادلة. وهذا السلوك، بحسب نور الدين، يعزز المخاوف من أن يكون المشروع الإثيوبي أداة سياسية أكثر منه مجرد مشروع تنموي لتوليد الكهرباء.

هل تستطيع إثيوبيا إقناع دول حوض النيل الأبيض بتغيير اتفاقية عنتيبي؟

جانب آخر من تصريحات نور الدين يتعلق بما سماه خديعة إثيوبيا لدول منابع النيل الأبيض وإقناعهم بضرورة المطالبة بتغيير اتفاقية عنتيبي وتغيير حصصهم من نهر النيل الأبيض. فالمياه الجارية لا يمكن أن تتجه نحو الهضاب الإثيوبية، بسبب ارتفاع الهضاب الإثيوبية إلى مستوى 1800 متر فوق سطح البحر، في حين إن مستوى سطح دول منابع النيل الأبيض هو 570 متر. فكيف تعود المياه إلى الخلف، أو إن تذهب إلى إثيوبيا؟ بل مسارها الطبيعي يتجه شمالاً إلى مصر. ومع ذلك، نجحت أديس أبابا في إقناع عدد من الدول الإفريقية بضرورة تعديل اتفاقية عنتيبي لتوزيع حصص جديدة من مياه النيل. ووفقاً لرؤية نور الدين، لم يكن لهذا الموقف الإثيوبي أن يلقى صدى لولا غياب الخبراء والعلماء المصريين عن الساحة الإفريقية خلال سنوات ما بعد 2011، حين انشغلت القاهرة بأزماتها الداخلية وتركت فراغاً استغلته إثيوبيا لتمرير خطابها.

هل اقتصرت أزمات المياه لمصر على سد النهضة فقط؟

نادر نور الدين يقول إن الأزمة مرشحة للاستمرار، خاصة في ظل تصلب الموقف الإثيوبي ورفضه توقيع اتفاق ملزم. وفي الوقت ذاته، نية إثيوبيا إنشاء ثلاثة سدود أخرى على نهر النيل، وقد أخبرت إثيوبيا مصر بالفعل بنيتها البدء قريباً في إنشاء سدود على نهر النيل، في حين تراهن القاهرة على مزيج من المسارات: الدبلوماسية، والقانونية عبر المؤسسات الدولية، إضافة إلى تعزيز قدراتها الداخلية على إدارة الموارد المائية، سواء عبر مشروعات تحلية المياه أو إعادة استخدام الصرف الزراعي والصحي. لكن كل هذه الإجراءات تظل حلولاً تكميلية، ولا يمكن أن تعوض بالكامل أي نقص حاد في التدفقات القادمة من النيل الأزرق.

تحميل المزيد