شاركت مصر في بيان "الرباعية الدولية" الذي دعا إلى هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر ورسم خارطة طريق مستقبلية لإنهاء الحرب تضمنت أن تكون قوات الدعم السريع حاضرة في مستقبل المشهد السياسي السوداني، في وقت هاجم الجيش السوداني البيان وكذلك القوى الحليفة في مقدمتها "الحركة الإسلامية" في حين رحبت بها حكومة الدعم السريع "الموازية".
ما يجعل موقف الدول الأربع المشاركة في البيان وهم (السعودية والإمارات والولايات المتحدة ومصر) في خانة تتماشى مع أهداف قوات الدعم السريع التي سبق وأن تم وصفها من جانب جهات رسمية مصرية بأنها "مليشيات".
مخاوف من احتمالات التقسيم
وقال مصدر حكومي مصري مطلع على هذا الملف، إن تعقيدات المشهد في السودان دفع لأن تكون القاهرة شريكة في بيان يرسم خارطة طريق مستقبلية للسودان يضمن بقائه موحداً، وأن الحرب أثبتت أنه من المستحيل حسمها عسكرياً لصالح أي من الطرفين، فالجيش السوداني الذي حقق نتائج إيجابية على مستوى المركز لم يحقق بعد اختراقات في الهامش بخاصة في إقليم دارفور.
وأضاف أن هناك مخاوف مصرية من احتمالات التقسيم مع تشكيل حكومة موازية لم تحظ حتى الآن باعتراف دولي، لكنها يمكن أن تشكل واقع مستقبلي يقود لتكرار تجربة الجنوب عبر "حق تقرير المصير".
وأوضح المصدر ذاته، أن مواقف مصر لم تتغير من أي مليشيات خارجة عن الدولة، وتؤمن بأنه يجب دعم الجيوش الوطنية ومؤسسات الدول العربية التي تعاني صراعات داخلية، وموقفها يأتي لوقف نزيف الدم السوداني، والوقوف على أرضية مشتركة يمكن أن تساهم في إنهاء المعارك التي أضرت كثيراً بالأمن القومي المصري على مستويات مختلفة بينها تحمل تدفق ملايين الفارين من الصراع إلى جانب تعريض الحدود الجنوبية والغربية لمشكلات عديدة جراء حالة السيولة الأمنية هناك، إلى جانب الضرر الأكبر في حال تعرض السودان للتقسيم.
وأكد المصدر ذاته على أن مصر تعاني حتى الآن جراء انقسام جنوب السودان، والتي وقعت مؤخراً على اتفاقية عنتيبي والتي تسعى إثيوبيا لإعادة تقسيم المياه بين دول حوض النيل، وفي حال انقسم غرب السودان ممثلاً في إقليم دارفور يمكن توظيفه أيضاً لاستهداف الأمن القومي المصري بخاصة وأن الصراعات المستقبلية ستقوم على التحالفات في منطقة القرن الأفريقي ولن تكون بعيدة عن توزيع حصص المياه، كما أن بيان الرباعية يدعم إقامة جيش وطني لا يخضع للتقسيم أو سيطرة المليشيات داخله (في إشارة لقوات الدعم السريع).
ولفت المصدر إلى أن تحالفات الجيش في المقابل تثير مخاوف جهات رسمية مصرية لأنها ترتكن على عناصر من نظام الرئيس السابق عمر البشير والحركة الإسلامية في السودان، ومازال هؤلاء يشكلون هاجساً للدولة المصرية وتخشى مصر أن يؤدي التعنت في التعامل مع أي مبادرات من شأنها وقف القتال أن تتجه قوى قريبة من النظام السابق للسماح بانفصال مناطق أخرى على غرار الجنوب، بخاصة وأن الوضع الحالي يسمح بتدفق السلاح إلى مجموعات مسلحة لا تنضوي تحت جيش قومي وسوف تشكل في المستقبل تهديدات قوية للأمن في المنطقة ككل مع تحول السودان إلى منطقة جاذبة للعناصر الإرهابية جراء حالة السيولة الأمنية.
وقدمت الخارجية المصرية تفسيرات لانضمامها إلى المبادرة قائلة: "إنه يعكس موقفها الثابت الداعم لوحدة السودان وسيادته وسلامة أراضيه، وحرصها على صون مؤسساته الوطنية، وتسريع خطوات استعادة الأمن والاستقرار بما يتيح عودة النازحين إلى مناطقهم وحياتهم الطبيعية، ويحافظ على مقدرات الدولة السودانية".
وأكد البيان المشترك على أولوية وقف تدفقات السلاح التي تسهم في إطالة أمد النزاع، وتكثيف المساعدات الإنسانية لجميع السودانيين، إضافة إلى ضرورة احترام سيادة السودان ووحدة أراضيه كشرط أساسي لتحقيق الأمن والاستقرار.
كما نص البيان على الدعوة إلى هدنة إنسانية أولية لثلاثة أشهر، تمهيداً للتوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، يعقبه خلال تسعة أشهر مسار انتقالي جامع وشفاف يقود إلى تشكيل حكومة مدنية مستقلة تحقق تطلعات الشعب السوداني.
وأشارت الخارجية المصرية إلى أن وزراء خارجية الدول الأربع اتفقوا على متابعة تنفيذ الالتزامات الواردة في البيان وبذل مساعٍ حميدة لضمان تحقيقها، مؤكدة أن مصر ستواصل المشاركة بفاعلية في مختلف المبادرات الدولية والإقليمية الرامية إلى دعم السودانيين في مسار استعادة الأمن والاستقرار.
التسوية السياسية بوابة لإنهاء التباينات العربية
وقال مصدر دبلوماسي مصري مرتبط بذات الملف، إن مصر ترفض أن تفوت أي فرصة يتم فيها التأكيد على بقاء السودان موحداً، وتدرك بأن استبعاد الجيش أو الدعم السريع من المعادلة لن يؤدي إلى نتائج وسيكون من الأفضل البحث عن أرضية مشتركة بين الطرفين يمكن على أساسها التوصل لاتفاق لوقف الحرب.
ورغم أن البيان الأخير يحقق ذلك إلى حد كبير إلا أن فرص نجاحه – بحسب المصدر – تبقى ضيئلة لأن كلا الطرفين لديه مصالحه التي يرفض أن يتنازل عنها، لكن يبقى الخروج بمبادرة أفضل من البقاء في وضعية جمود "الرباعية" منذ أن انضمت إليها مصر لكسر حدة التباينات والتأكيد على الدول الأكثر قرباً من ملف حرب السودان توصلت إلى تفاهمات فيما بينها.
وشدد على أن فرص نجاح الحكومات الموازية تبقى ضيئلة وهناك قناعة بأن الشعب السوداني يمكن أن يقصي الدعم السريع بالديمقراطية، وأن المهم هو نزع ورقة السلاح التي يتم إشهارها في وجه الدولة ومؤسساتها، ولا يعني ذلك أن القاهرة غيرت مواقفها لكنها تستهدف نزع احتماء الدعم السريع بالقبلية التي تمكنه من السيطرة على غالبية ولايات دارفور، وكذلك قطع أوصال دعمه الخارجي بدمج كافة المجموعات المسلحة في جيش قومي واحد مع الاقتناع بأن التمويل التي تحصل عليه لن يتوقف طالما أن لدى قوى إقليمية رغبة في توظيف الدعم السريع نحو تحقيق أهداف سياسية واقتصادية.

ولفت المصدر ذاته إلى أن مصر لديها رغبة في الوقت الحالي نحو الحفاظ على علاقات متزنة مع دول الخليج وخاصة دولة الإمارات التي يتهمها الجيش السوداني مراراً وتكراراً بتقديم سبل الدعم والمساندة لقوات الدعم السريع، ويمكن أن يشكل الوصول إلى تسوية سياسية يؤكد الدعم السريع على قبوله بها بوابة لإنهاء التباينات العربية بشأن الموقف من أطراف الصراع في السودان، وقد ينعكس ذلك ايجاباً على التنسيق في ملفات أخرى، كما أن القاهرة ترفض أن تخسر القوى السياسية السودانية التي وطدت علاقاتها معها بفعل تواجد الجزء الأكبر منهم في مصر منذ اندلاع الحرب.
وأكد أن تلك القوى غيرت كثيراً من مفهومها تجاه الموقف المصري نحو بلادهم، وكان هؤلاء يقنعون في السابق بأن القاهرة تعد سبباً في كل المشكلات التي تعانيها بلدهم بل وأنها تعد أحد أسباب اندلاع الحرب غير أن المواقف التي تبنتها مصر منذ وقوع الصراع جعلت هؤلاء يتأكدون من أن الهدف هو الحفاظ على وحدة السودان، وبالتالي كان من المهم اتخاذ موقف يتماشى مع الرؤى السياسية للقوى السياسية المدنية التي أطاحت بنظام الرئيس السابق عمر البشير، كما أن تواجد هؤلاء على رأس السلطة كان يجب أن يتم لولا أحداث أكتوبر من العام 2021 والتي أطاحت برئيس الوزراء المدني عبدالله حمدوك.
مخاوف للقاهرة من استبعادها دولياً
اختارت "حكومة السلام والوحدة" (الموازية) والموالية لقوات الدعم السريع وتتخذ من مدينة نيالا في غرب البلاد مقراً لها، لهجة أكثر تصالحية مع بيان الرباعية، بل ومفتوحة على التعاون الدولي، فرحّبت ببيان الرباعية ووصفته بأنه خطوة نحو معالجة جذور الأزمة التاريخية في البلاد. كما أكدت استعدادها للتعاون مع الأمم المتحدة لتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية.
وفي يونيو الماضي أطلقت واشنطن مساعيَ جديدة لوقف الحرب في السودان، المستمرة منذ نحو 29 شهرا، بإعادة إحياء "المجموعة الرباعية" التي تشكلت لدعم التحول المدني عقب الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل 2019، وغابت بريطانيا عن المجموعة وحلت مصر مكانها.
وكان مقرراً عقد اجتماع بمقر الخارجية الأميركية لوزراء خارجية الدول الأربع في نهاية يوليو الماضي لطرح رؤية لحل الأزمة السودانية، لكن عُلِّق الاجتماع بعدما تسرَّبت معلومات عن تباين في مواقف بعض أعضاء المجموعة.
وأعلن الاتحاد الأفريقي والايقاد في بيان مشترك ترحيبهم بالبيان مؤكدين تماشيه مع خارطة الطريق الأفريقية، واشاروا إلى اجتماع مرتقب ينظمه الاتحاد الأفريقي والايقاد بمشاركة الأمم المتحدة والجامعة العربية وجهات أخرى حول السودان.
وقال خبير في الشؤون الأفريقية، إن القاهرة كانت لديها مخاوف من استبعادها دولياً بعد أن غابت عن التأثير في الملف السوداني بشكل فاعل وكانت ترى بأنها يجب أن تكون عضوا رئيسياَ في اللجنة الرباعية قبل انسحاب بريطانيا منها، وتدرك بأن هذه الأطراف تمسك بخيوط الصراع وهدفت لإحداث توازن يدعم الحفاظ على مؤسسات الدولة السودانية والجيش السوداني، كما أنها في المقابل لديها قلق بالغ من تمدد قوات الدعم السريع على أطراف مناطق حدودية سواء كان ذلك في الغرب أو بالقرب منها مع وصوله إلى المثلث الحدودي في شهر يونيو الماضي، وأدركت بأن الحل يتطلب احتواء الدعم السريع ودمجه في مؤسسات الدولة.
وأوضح أن رؤية القاهرة تتضمن أن يبقى الحل سودانيا- سودانيا وهي تعمل على تهيئة الإطار العام الذي يمكن أن تسير خلاله أي مفاوضات مستقبلية، وتعمل على تقديم الدعم اللازم للجيش السوداني دبلوماسيا ولوجستيا لكي يحافظ على ما حققه من مكتسبات عسكرية على الأرض، وفي المقابل فإنها ترى قلقاً من قدرة الدعم السريع على استهداف المناطق المحررة من قبضته، وهو ما يجعل الجنوح للحلول السياسية أمراً مطلوباً في الوقت الحالي، بخاصة وأن الواقع أثبت أن هناك اختراقات أمنية سمحت للدعم السريع بأن يوجه استهدافه للخرطوم والولاية الشمالية ويرجع ذلك لصعوبة حسم الصراع وحالة الكر والفر التي يعتمد عليها الطرفين.
ولفت إلى أن القاهرة لديها رغبة أيضاً في إنفاذ دخول المساعدات إلى السودانيين بما يجعل هناك بيئة مواتية للحياة في الولايات التي يتم تصنيفها على أنها آمنة، هذا بالإضافة إلى مناطق الصراع المشتعل وهذا لن يحدث دون التنسيق مع قوات الدعم السريع.
وفي شهر يونيو الماضي، أعلنت قوات الدعم السريع أنها سيطرت على المثلث الحدودي بين السودان ومصر وليبيا، الأربعاء، بعدما أكد الجيش انسحابه من المنطقة، وهي تُشكل نقطة التقاء محورية بين السودان وليبيا ومصر، وهو ما دفع مصر للتحرك على مستويات عديدة بعد أن جمعت قائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان وقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر وتوصلت إلى تفاهمات أمنية لضمان عدم تأثرها.
وبعدها بأيام خرج قائد قوات "الدعم السريع" السودانية، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ليؤكد أن دخول قواته إلى المثلث الحدودي الرابط بين السودان ومصر وليبيا عند منطقة جبل العوينات، "لن يضر بدول الجوار، بل قد يحمل فائدة لها"، مشددًا على أنه "لا توجد أي مشكلة مع مصر"، وأنه يحترم سيادتها وحدودها.
ومنذ اندلاع القتال بذلت أطراف دولية وإقليمية 10 مبادرات فشلت جميعها في الوصول إلى نهاية للحرب التي أدت إلى مقتل نحو 150 ألف شخص وتشريد 15 مليونا وخلقت أزمة انسانية طاحنة اعتبرتها الأمم المتحدة الأكبر في العالم.