حلّ الاتحاد العام للشغل أو تجميد دوره.. سيناريوهات الصدام غير المسبوق بين قيس سعيّد وأكبر منظمة نقابية في تونس

عربي بوست
تم النشر: 2025/08/14 الساعة 08:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/08/14 الساعة 08:25 بتوقيت غرينتش
الرئيس التونسي قيس سعيّد في لقاء سابق مع الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي (الرئاسة التونسية)

يتصاعد التوتر بين أكبر منظمة نقابية في تونس، الاتحاد العام التونسي للشغل، والسلطة بقيادة الرئيس قيس سعيّد، الذي أكد عزمه على فتح الملفات ومحاسبة الجميع، قائلاً: "لا أحد فوق القانون". جاء ذلك بعد ساعات من احتجاجات أمام مقر الاتحاد، طالبت بمحاسبته وصولًا إلى تجميد نشاطه وحلّه.

ويُعدّ هذا التصعيد الأشد منذ قرارات 25 يوليو/تموز 2021، التي أعلن فيها الرئيس حلّ البرلمان، إذ كان الاتحاد العام التونسي للشغل حينها من أبرز الداعمين للإجراءات الاستثنائية، قبل أن يتحول الموقف إلى توتر حاد، بلغ ذروته عقب الإضراب العام في يوليو/تموز 2025، الذي شلّ حركة النقل البري العمومي لمدة ثلاثة أيام، وأثار موجة استياء واسعة في صفوف المواطنين.

وخلال لقاء مع رئيسة الحكومة، دافع سعيّد عن المحتجين، مؤكدًا أنهم ليسوا "عصابات إجرامية" كما وصفهم الاتحاد العام التونسي للشغل ، مشددًا على أن فتح الملفات ومحاسبة المتورطين "مطلب شعبي". في المقابل، ردّ الاتحاد بأن من يملك ملفات فساد عليه التوجه إلى القضاء، معتبرًا القضية مسألة "شرف وكرامة".

وفي 7 أغسطس/آب 2025، نظم أنصار الرئيس وقفة احتجاجية أمام مقرّ الاتحاد العام التونسي للشغل، طالبوا خلالها بتجميد النقابة واتهموها بأنها "عصابات" على خلفية الإضراب العام في قطاع النقل البري. وقد تدخلت الشرطة لمنع وقوع اشتباكات بين الطرفين.

ما سبب أزمة الاتحاد العام التونسي للشغل؟

منذ تصاعد نفوذ الرئيس قيس سعيّد وتكريسه لإجراءات استثنائية غيّرت ملامح المشهد السياسي في تونس، دخل الاتحاد العام التونسي للشغل في مسار متدرج من الخلافات مع السلطة، انتقل من مرحلة التحفظ إلى المواجهة المباشرة.

ووجد الاتحاد نفسه في موقع المعارض لجملة من القرارات والسياسات التي اعتبرها ماسة بالتوازنات الديمقراطية وبالحقوق الاجتماعية والاقتصادية للشغالين، ما جعله يتحول من شريك في لحظات مفصلية إلى خصم بارز في الساحة الوطنية.

وعلى مدى السنوات الأخيرة، برز الاتحاد العام التونسي للشغل كأحد أبرز المعارضين لقرارات السلطة والرئيس قيس سعيّد، إذ رفض النظام الانتخابي الجديد لسنة 2022 لكونه يهمّش الأحزاب والمنظمات ويكرّس تركيز السلطة بيد الرئاسة.

كما عارض شروط الاتفاق مع صندوق النقد الدولي التي تضمنت رفع الدعم وتجميد الأجور لما تحمله من تداعيات اجتماعية، ورفض محاولات خصخصة أو إعادة هيكلة مؤسسات عمومية استراتيجية. وانتقد الاتحاد تغييب دوره في الحوار الاجتماعي وتجاوز آليات التفاوض الثلاثي، واعترض على محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري وتأجيل الانتخابات المحلية، إلى جانب إدانته للملاحقات القضائية والأمنية التي طالت قياداته ونقابيين آخرين، خاصة في ظل العمل بالمرسوم 54 الذي اعتبره أداة لتقييد الحريات النقابية.

موقف الاتحاد

منذ لحظة احتجاج أنصار الرئيس أمام مقر الاتحاد العام التونسي للشغل وسط العاصمة، ردت المنظمة النقابية بسلسلة بيانات تنديد، متهمة السلطة بتحريك "هجمة شرسة" ضدها عبر أنصار الرئيس، وداعية النقابيين للدفاع عن منظمتهم. كما دعا الاتحاد إلى اجتماع عاجل للهيئة الوطنية، مؤكدًا أن جميع السيناريوهات التصعيدية، بما فيها الإضراب العام، مطروحة على الطاولة.

وفي مواجهة الأزمة التي تُعتبر تاريخية وغير مسبوقة، دعا الاتحاد العام التونسي للشغل إلى تنظيم مسيرة وطنية يوم 21 أغسطس/آب 2025، ولوّح بإمكانية الإعلان عن إضراب وطني عام يشمل جميع القطاعات في البلاد. وقال الأمين العام نور الدين الطبوبي إن ما يحدث عبارة عن "حملة تشويه"، مجددًا الدعوة للجوء إلى القضاء بدل "المحاكمة الشعبية".

من الاجتماع الأخير للهيئة الشغل للاتحاد في العاصمة تونس (خاص عربي بوست)
من الاجتماع الأخير للهيئة الشغل للاتحاد في العاصمة تونس (خاص عربي بوست)

أما الأمين العام المساعد سامي الطاهري، فأكد أن النقابيين "لن يقبلوا بالمساس بأعراضهم واتهامهم جزافًا حتى لو كان من رأس السلطة"، معتبرًا أن الهدف من هذه الاتهامات هو "ضرب مصداقية الاتحاد وحاضنته الشعبية". وأوضح أن "الهيئة الإدارية ستتخذ القرارات المناسبة، وأن كل السيناريوهات واردة، لكن تونس ليست في حاجة إلى التصادم أو الحرب الأهلية".

يُذكر أن الاتحاد يمر منذ أشهر بأزمة داخلية غير مسبوقة، أدت إلى انقسامه إلى ثلاثة تيارات متصارعة: أحدها يطالب الأمين العام بالاستقالة ويتهمه بـ"الانقلاب على القوانين"، وآخر اعتصم أمام المقر لأسابيع مطالبًا برحيل المكتب التنفيذي والدعوة لانتخابات جديدة.

هذه الخلافات أضعفت دوره، حيث أقرّ عدد من الأمناء العامين بأن السلطة استغلت الفراغ النقابي لتمرير ملفات اجتماعية، بينما ضاعت أولويات الدفاع عن حقوق الشغالين في خضم الصراعات الداخلية. كما أن تراجع التأثير الجماهيري للاتحاد ظهر بوضوح من خلال الاحتجاجات التي استهدفته، في ظل تغير المزاج العام للمواطنين نتيجة الأزمة الاقتصادية، ما جعل قطاعات من العمال تعتبر الإضرابات عامل تعطيل إضافيًا، وهي ورقة استغلتها السلطة في المواجهة.

اتهامات وشبهات

قال كمال الهرابي، الكاتب العام الوطني لحراك 25 يوليو، في تصريح لـ"عربي بوست"، إن الاحتجاج ضد الاتحاد كان "هبة شعبية تلقائية"، بدافع "محاسبة رموزه وقياداته بسبب تغوّله وشبهات الثراء الفاحش"، مشيرًا إلى أن بعض الملفات أحيلت إلى القضاء بناءً على تقارير تفقد وزارية.

وأضاف أن الاتحاد "يعتبر نفسه فوق القانون"، وأن وصف بعض قياداته للاحتجاجات بأنها "هجوم إجرامي" هو "هلامي وهذيان"، مشددًا على أن الأمن أمّن الوقفة الاحتجاجية السلمية دون عنف.

وهاجم الهرابي، الذي يدعم خطوات الرئيس، المكتب التنفيذي الحالي، واصفًا مؤتمره بـ"غير الشرعي"، ومتّهمًا إياه بـ"احتجاز المواطنين والعمال عبر الإضرابات التي أضرت بالاقتصاد ومنعت الاستثمار"، ملمحًا إلى احتمال وجود "أيادٍ داخلية أو خارجية" تحركه.

ووفق قوله، فإن تصريحات الرئيس الأخيرة حول فتح ملفات الاتحاد "تؤكد اطلاعه على شبهات فساد تتعلق بالميزانية، والانخراطات، والمرتبات، والامتيازات"، لافتًا إلى أن الاتحاد تدخل في مؤسسات الدولة عبر "انتدابات قائمة على الولاءات".

الخضوع أو الاختفاء

لم تعد الأزمة بين الرئيس قيس سعيّد والاتحاد العام التونسي للشغل مجرد خلاف حول ملف نقابي أو تنسيق لإضراب، بل تحولت إلى أزمة وجودية كما وصفتها صحيفة لوموند الفرنسية، التي اعتبرت أن سعيّد وجه رسالة واضحة للاتحاد: "إما أن تخضع أو تختفي"، أي أن السلطة ترى في النقابة خصمًا سياسيًا يجب إخضاعه أو تهميشه نهائيًا.

وتستعمل السلطة أدوات ضغط متعددة، أولها التجييش الشعبي عبر تنظيم مظاهرات مؤيدة للرئيس أمام مقر النقابة لإظهار تراجع شعبيتها، ثم فتح الملفات القضائية، على غرار ما حدث مع حركة النهضة التي يُحاكم قادتها بتهم ثقيلة. كما لجأ الرئيس إلى خطاب التهديد، بالتلويح بشبهات فساد وفتح المجال أمام القضاء للنظر فيها، ما يشكل ضغطًا قضائيًا وإعلاميًا.

وتخوض السلطة أيضًا حربًا رمزية ضد القيادة الحالية للاتحاد، من خلال المقارنة مع اتحاد "فرحات حشاد" (الرمز الوطني)، للإيحاء بأن القيادة الحالية أفسدت الإرث النضالي.

ويتهم خطاب السلطة الاتحاد بالتغوّل على مؤسسات الدولة والتدخل في التعيينات على أساس الولاءات، فضلًا عن شبهات فساد وثراء غير مشروع. ويضاف إلى ذلك أن الاتحاد يعدّ أحد آخر الأجسام الوسيطة القادرة على حشد الشارع، ما يجعله في نظر سعيّد خصمًا سياسيًا يجب تحجيمه أو إخضاعه لضمان سيطرة السلطة على المجال العام.

سيناريوهات الأزمة

تتباين القراءات حول مآلات الأزمة بين من يرجّح التصادم وصولًا إلى تجميد الاتحاد ومحاسبته، ومن يعتقد أنها جولة ضغط ستنتهي بخضوع المنظمة وتقليص تحركاتها الاحتجاجية. ويقول أستاذ جامعي، فضّل عدم ذكر اسمه، إن فهم ما يجري يتطلب إدراك أن الاتحاد، كغيره من "الأجسام الوسيطة"، تم تقليص دوره وحصره في مربعات محددة، وإن كل تصعيد حالي "يعكس أزمة داخلية وإعادة تموقع ضمن مسارات قديمة متجددة".

وأضاف المصدر ذاته: "لا نتوقع تغييرًا جوهريًا في سياسة الاتحاد حاليًا، ولا استهدافًا شاملًا، لكننا دخلنا فعليًا في مرحلة تضييق مربعات نفوذه". وحسب مصادر نقابية، فإن من بين السيناريوهات المطروحة أن تستمر السلطة في التصعيد المباشر عبر تجميد الاتحاد أو حلّه مستندة إلى احتجاجات الشارع ودعاوى قضائية، وأن يرد الاتحاد بإضرابات واسعة.

كما رجحت المصادر أن يتم التوصل إلى تسوية مشروطة، يتراجع بموجبها الاتحاد عن الإضرابات الكبرى ويتبنى خطابًا أقل تحديًا، مقابل وقف الضغوط القضائية والإعلامية. وهناك أيضًا سيناريو "القتل التدريجي"، حيث تسعى السلطة إلى إضعاف الاتحاد قانونيًا وإعلاميًا حتى يفقد دوره الفعلي، مع الإبقاء عليه شكليًا.

تحميل المزيد