حالة من الجدل صاحبت إعلان الحكومة المصرية تحقيق أدنى معدل إنجاب خلال السنوات الـ17 الماضية، إذ اعتبر رئيس الوزراء مصطفى مدبولي انخفاض معدل المواليد إلى أقل من 2 مليون نسمة إنجازاً، نتيجة نجاح الاستراتيجيات السكانية التي قامت بها الدولة في كبح النمو السكاني المتسارع.
بينما أرجع خبراء متخصصون في القضايا السكانية الانخفاض إلى أسباب أخرى لم تفصح عنها الحكومة، أهمها تدني الوضع الاقتصادي، وربما تأتي الاستراتيجيات في ذيل القائمة.
هذه المعطيات طرحت العديد من التساؤلات عمّا إذا كان هذا التراجع يخدم خطط زيادة معدلات النمو، وما هي العوائد المنتظرة منه؟ وهل يمكن التعامل معه على أنه منحى إيجابي؟ أم أن أزمات التكدس السكاني ستكون هي السائدة بالرغم من انخفاض أعداد المواليد؟
وبحسب وزير الصحة والسكان خالد عبدالغفار، فإن عدد المواليد خلال عام 2024 لم يتجاوز 1.968 مليون مولود، مقارنة بـ2.045 مليون مولود في 2023، بانخفاض قدره 77 ألف مولود بنسبة 3.8%.
وهو رقم لم تشهده البلاد منذ عام 2007، كما انخفض معدل الإنجاب الكلي إلى 2.41 مولود لكل سيدة، مقارنة بـ2.54 مولود في 2023، مما يعكس تحولاً مجتمعياً نحو التخطيط الأسري الواعي.
وأكد أن أعداد الزيادة الطبيعية للسكان تراجعت بشكل ملحوظ، حيث بلغت 1.359 مليون نسمة في 2024، مقارنة بـ1.462 مليون نسمة في 2023، بانخفاض قدره 103 آلاف نسمة، بنسبة 7%. كما سجلت نسبة الزيادة الطبيعية 1.3% عام 2024، مقابل 1.4% عام 2023.
ما هي أسباب انخفاض أعداد المواليد؟
كشف خبير في بحوث الصحة والسكان لـ"عربي بوست" أن معدلات النمو السكاني بدأت في التراجع منذ ثماني سنوات، سبقها زيادات مطردة في أعداد السكان، تحديداً بين عامي 2011 و2015.
وأضاف المتحدث أنه كان متوقعاً أن يحدث الانخفاض بفعل عوامل عديدة، بينها ارتفاع معدلات تعليم الفتيات، بعد أن كانت الأمية تشكل أكثر من 35% من الإناث المصريات.
والأكثر من ذلك، حسب المتحدث، أن الفتيات تزايدت معدلات تواجدهن في الجامعات بنسبة فاقت الذكور، وبلغت في عام 2022 أكثر من 52%، وهي نسبة لم يسبق أن تحققت في تاريخ مصر، ومن ثم تراجعت معدلات الزواج المبكر، وأصبح هناك وعي أكبر بأهمية تنظيم الأسرة.
لكن السبب الرئيسي، كما يقول المصدر، هو الأوضاع الاقتصادية الصعبة وغياب مفهوم التعليم المجاني، الأمر الذي جعل الأسر تفكر في نمط جديد لم يكن حاضراً في أذهان قطاعات كبيرة من المصريين، يتعلق بالأسرة الصغيرة، وليس بمفهوم العزوة الكبيرة.
وقال المتحدث إن الأزواج في الطبقات المتوسطة والعليا يرون أن متوسط طفلين يكفي لكي يتلقيا تعليماً جيداً، إلى جانب الاهتمام بعمليات الترفيه التي توسعت مع انتشار النوادي والأنشطة الصيفية المكلفة، وبالتالي يمكن القول إن الاستثمار في الأطفال أصبح أولوية للأسرة المصرية.
وشدد المصدر على أن هناك نمطاً جديداً أيضاً مرتبطاً بكيفية اتخاذ قرار الزواج، فمع ارتفاع التكاليف، أصبح الشباب أكثر عزوفاً عن تكوين أسرة، على الأقل في سن مبكرة.
وفي المقابل، فإن الفتيات أيضاً أصبحت لديهن تطلعات مختلفة عن السابق، فبعد أن كانت الفتاة مرغمة على الزواج من الشاب الذي يختاره والدها، أصبحت تملك إلى حد كبير حق اتخاذ قرار الزواج، ولم يعد هناك حرج في أن تبقى الفتاة دون زواج إذا لم تجد الشريك المناسب، مع زيادة معدلات الاستقلالية المادية.
وذكر أن ثقافة الزواج والطلاق أيضاً أخذت في التغيير، فلم يعد الشاب قادراً على اتخاذ خطوة الزواج بسهولة بسبب عدم الاستقرار الوظيفي، وارتفاع تكاليف المعيشة، وتراجع القدرة الشرائية.
كما أن كل هذه العوامل تؤدي إلى زيادة معدلات الطلاق، وهو ما يجعل قرار الإنجاب بحاجة إلى تفكير عميق، مع انتشار الوسائل التي تؤخر الحمل قبل المولود الأول، للتأكد مما إذا كان الزوجان قادرين على الاستمرار أم لا.
وتأرجحت معدلات تراجع وزيادة عقود الزواج خلال السنوات الثماني الماضية، وبالنظر إلى النتيجة النهائية بين سنوات الزيادة والتراجع في عدد حالات الزواج، نجد أن هناك تراجعاً بنحو 65 ألف حالة، وهو ما يؤدي إلى انخفاض عدد المواليد في الأسر حديثة الزواج، مقارنة بما كان عليه الوضع قبل عام 2017.
وفيما يتعلق بحالات الطلاق، أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر العام الماضي مؤشرات بارتفاع حالات الطلاق بنسبة 14.7% خلال عام واحد.
وبحسب الجهاز أيضاً، فإن حالات الطلاق على مستوى الجمهورية في عام 2021 بلغت 254,777 حالة طلاق، مقارنة بعام 2020، الذي شهد تسجيل 222,039 حالة طلاق.
انكماش سكاني في عام 2028
بحسب خبير آخر في بحوث الصحة والإسكان في مصر، فإن متوسط عدد المواليد اليومي في الفترة ما بين ديسمبر/كانون الأول 2024 وحتى يناير/كانون الثاني 2025 يصل إلى 3900 مولود يومياً، في حين أن هذا الرقم في العام الماضي كان يصل إلى 5599 مولوداً يومياً.
هذه المعطيات، حسب المتحدث، تؤشر إلى الانخفاض الكبير في أعداد المواليد، وكان من المتوقع أن تصل مصر إلى هذه النسبة في عام 2028، لكن هناك انخفاضاً متسارعاً في أعداد المواليد، ما قد يقود إلى الانكماش السكاني في عام 2040.
وذكر المصدر ذاته أن انعكاس ذلك سيظهر بشكل أساسي على أعداد الطلاب في المدارس الحكومية، التي انخفضت بالفعل هذا العام، إذ يبلغ عدد طلاب المرحلة الابتدائية 13 مليوناً و370 ألف طالب وطالبة، في حين أن العدد العام الماضي كان قد وصل إلى 13 مليوناً و630 ألف طالب وطالبة.
وبوجه عام، يقول المتحدث لـ"عربي بوست"، إن عدد الطلاب المسجلين بالمدارس على مختلف أنواعها هذا العام بلغ 22 مليوناً و540 ألف طالب، في حين أن العدد العام الماضي كان يصل إلى 22 مليوناً و590 ألف طالب، وهو انخفاض ضئيل، لكنه يشير إلى أن مصر بعد ست سنوات لن تكون بحاجة إلى بناء فصول جديدة.
وأشار إلى أن من تبعات تراجع المواليد وتراجع معدلات الوفيات ارتفاع نسبة كبار السن (فوق 60 عاماً) إلى ما يقرب من 10%، وفي المقابل هناك تراجع في أعداد الأطفال (0-14 عاماً)، إذ كانت نسبتهم قبل 65 عاماً 43%، أما الآن فلا تتجاوز 33%.
كما أن النسبة الأكبر ستكون في فئة الشباب، وهو ما يشير إلى أن مصر وصلت إلى مرحلة يمكن وصفها بـ**"الحكمة السكانية"**، التي لم تكن نتيجة جهود توعوية أو حملات عديدة نظمتها الأمم المتحدة بالشراكة مع المجتمع المدني في مصر.
وشدد على أن أعداد المواليد السنوية قبل عشر سنوات كانت تصل إلى 2 مليون و720 ألف مولود، أما الآن فلا تتجاوز 2 مليون مولود، وهو ما يعكس وعياً متزايداً بتنظيم الأسرة.
كما أن الأمر يرتبط باتجاه الحكومة المصرية منذ الألفية الجديدة إلى بناء جامعات في المحافظات والمدن المصرية، إذ إن المحافظات التي تضم جامعات قديمة هي الأقل نمواً سكانياً، بعكس محافظات الصعيد.
وأشار إلى أن عدد الملتحقين بالتعليم الجامعي في مصر قبل عشر سنوات كان يصل إلى 2 مليون و200 ألف طالب وطالبة، أما الآن فقد بلغ 3 ملايين و600 ألف طالب وطالبة.
مستقبل النمو السكاني في مصر
وأوضح المصدر ذاته أن مصر أمام "سنوات ذهبية" في النمو الديموغرافي خلال السنوات الست المقبلة، لكن ذلك لا يعني أن الحكومة المصرية لن تواجه مشكلات في كثافات الفصول الدراسية، حتى ست سنوات مقبلة.
والآن يوجد 65 ألف فصل دراسي، يصل متوسط عدد الطلاب داخل كل فصل إلى 44 طالباً، لكن بعد ست سنوات، من المتوقع أن ينخفض هذا الرقم إلى 33 طالباً في الفصل الواحد.
ولفت إلى أن السنوات المقبلة ستشهد تنامي معدلات الشباب إلى أكثر من 65% من إجمالي عدد السكان، مع انخفاض حاد في نسبة الأطفال، واستقرار في معدلات كبار السن، وهو ما يترتب عليه زيادة معدلات الملتحقين بالتعليم مع توفر الإمكانيات المطلوبة، إلى جانب فرص اقتصادية مهمة.
وبذلك، سيكون هناك قدرة أكبر على توفير التدريب الجيد لإعداد عمالة مدربة، لكن في المقابل، ستواجه مصر تحديات مستقبلية في حالة الانكماش السكاني، لكنها لن تظهر إلا بعد 15 إلى 20 عاماً.
وفقاً لبيانات موقع "الهرم السكاني"، كان عدد سكان مصر في عام 1980 أقل بقليل من 44 مليون نسمة، لكنهم أصبحوا أكثر من 107 ملايين نسمة العام الماضي، وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
أزمة اجتماعية وليس إنجاز حكومي
في الثمانينيات، انتشرت وسائل منع الحمل بدءاً باللولب ثم الأقراص، مصحوبة بحملة إعلانية ضخمة، وقد استمرت الحملات حتى يومنا هذا مع اختلاف المسميات. وشجعت الحكومة الطبيبات على العمل في الوحدات الصحية بالقرى، إضافة إلى حملات توعية وبرامج مكافآت للأسر التي تكتفي بإنجاب طفلين.
وبحسب خبيرة في علم الاجتماع، تحدثت شريطة عدم ذكر اسمها، فإن المعدلات التي أفصحت عنها وزارة الصحة المصرية أخيراً ليست كاملة لأنها لم تفصح عن الفئات التي ساهمت في انخفاض معدلات المواليد، وما إذا كان الوضع الاقتصادي هو من قاد اضطراراً لهذا الوضع أم أن خطط الحكومة هي السبب.
وقالت إن الدراسات التي أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وهو حكومي، أظهرت أن المناطق الفقيرة ما زالت تحتفظ بقدر كبير من معدلات الإنجاب، ويصل عدد الأطفال في الأسرة الواحدة إلى 4 أو 5 أطفال.
وأشارت إلى أن الانخفاض، وفقاً للمؤشرات الحالية، مرتبط بالطبقة المتوسطة، وهي التي تطغى على إجمالي عدد السكان المصريين. وهذا يعبر عن أزمة مجتمعية وليس إنجازاً حكومياً يتعلق بسياسات تنظيم الأسرة والحد من معدلات الإنجاب.
خاصة وأن توجهات الحكومة في التعامل مع قضية السكان كانت سلبية، ولم تتحرك في الاتجاه الإيجابي سوى بعد تشكيل الحكومة الحالية، والتي قررت إسناد ملف مواجهة الانفجار السكاني إلى 14 وزارة لإحداث التكامل المفقود منذ سنوات طويلة.
وقررت الحكومة المصرية مؤخراً إدراج قضية الإنجاب في المناهج التعليمية بالمدارس والجامعات، مع تخصيص خطب في المساجد للتوعية بمخاطر الاتكال على الحكومة في الإنفاق على الأبناء. كما كثفت حملاتها التوعوية للأسر التي تتفاعل معها بشكل مباشر من خلال مبادرة "حياة كريمة".
وقبلها، اتخذت الحكومات السابقة إجراءات بعضها عقابية بشأن حظر الدعم بالمقررات التموينية أو خروج الطفل الثالث من الدعم الموجه لمشروع تكافل وكرامة. كما أنها قدمت حوافز مادية للأمهات اللاتي التزمن بإنجاب "طفلين فقط".
وأشارت الخبيرة ذاتها إلى أن الانخفاض السكاني الحالي يأتي نتيجة لافتقاد المرأة للحماية الكاملة في العمل، خاصة بعد أن أوقفت الحكومة المصرية قرارات التعيين في هيئاتها ومؤسساتها الحكومية. ولم يعد أمام المرأة سوى القطاع الخاص، الذي يتطلب التواجد في العمل لساعات طويلة تصل إلى 10 ساعات أو 12 ساعة في بعض الأحيان، ويكون ذلك على حساب المنزل.
كما أن غالبية الشركات الخاصة تتحايل على قوانين إجازة الوضع، وتجبر السيدات على ترك العمل في حال أصرت على الحصول على الثلاثة أشهر المنصوص عليها في القانون قبل الإنجاب. كما أن من يلتزمون بقانون الإجازة يقصرون هذه الإجازات على طفلين فقط.
وأشارت إلى أن التشديد على مسألة تسجيل الزواج بعقد شرعي بعد وصول الفتاة إلى سن 18 عاماً يجعل هناك أساليب عديدة للتغلب على القانون، بينها الزواج بعقود عرفية ثم توثيقها بعقود زواج شرعية عقب وصول الزوج والزوجة إلى السن القانونية.
وقالت الخبيرة إن الفساد المنتشر في الوحدات الصحية يساهم في تسجيل الأطفال بتواريخ غير سليمة، وبالتالي يبدو للعيان أن ظاهرة زواج القاصرات تراجعت، لكنها على أرض الواقع تزايدت عبر أبواب خلفية.
كما أن زيادة معدلات الإنجاب في المناطق الفقيرة يترتب عليه حالات تفسخ أسرية وارتفاع معدلات أطفال الشوارع لأن الأسرة لا تستطيع تحمل النفقات. وفي العديد من الوقائع، يلجأ الأب إلى الهروب إلى الخارج عبر رحلات الهجرة غير الشرعية.