"الوضع صعب، والقادم ربما أسوأ"، بهذه العبارة يمكن أن نلخص حال المسلمين في فرنسا التي لم تعد كما يسوّق لها رئيسها إيمانويل ماكرون "بلداً للحريات"، إذ إن العديد من الوقائع والأحداث التي عاشها المسلمون في فرنسا في 2024 تؤكد أنهم عانوا كثيراً قبل أن يودعوا هذا العام المليء بالأحداث.
فقد تواصل التضييق على حريات المسلمين في فرنسا، وتواصل الاعتداء على أماكن عبادتهم، فضلاً عن تعرضهم للتمييز والإقصاء، سواء في الوظائف أو الجامعات، وفق ما أكدته تقارير ودراسات صادرة عن مؤسسات رسمية في فرنسا، ما دفع الآلاف منهم إلى اتخاذ قرار الهجرة بحثاً عن هامش حرية أكبر.
في المقابل، شكل العام المنصرم منعطفاً حاسماً في تراكم وعي مجتمعي عميق إزاء القضية الفلسطينية، وخلق صحوة جماعية ساهمت فيها الحرب المستمرة على غزة، إذ توسعت دائرة المدافعين عن القضية الفلسطينية والمنتقدين لإسرائيل وحكومتها المتهمة بارتكاب جرائم إبادة جماعية في حق المدنيين.
صحوة إزاء القضية الفلسطينية
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، نُظمت العديد من المظاهرات في باريس ومدن فرنسية أخرى دعماً للفلسطينيين ورفضاً للإبادة الجماعية بغزة. هذا الزخم الاحتجاجي بات أكثر قوة خلال سنة 2024، إذ توسعت دائرة المتضامنين وتشكل لدى الفرنسيين وعي جمعي عميق بعدالة القضية.
في ربيع هذا العام، شهدت مؤسسات جامعية مرموقة مثل "ساينس بو" و"السوربون" إغلاقاً لأبوابها لعدة ساعات من قبل طلاب تظاهروا ضد "الإبادة" الجارية في غزة.
إلى جانب العلم الفلسطيني والكوفية، حمل المتظاهرون أيضاً شعارات مناهضة للحكومة الإسرائيلية ومنددة بالحرب على غزة. واعتصم بعضهم داخل خيم وسط الحرم الجامعي قبل أن تتدخل الشرطة لإخلائهم واقتياد كثير منهم في مجموعات تحت حراسة أمنية.
هذه المظاهرات ليست جديدة في فرنسا، بل كانت تُنظم كلما تجددت موجات العنف في الشرق الأوسط. تاريخها يعود إلى حرب الأيام الستة في يونيو/حزيران 1967، حيث بدأت تكتسي القضية الفلسطينية تدريجياً صبغة سياسية في الخطاب الإعلامي والسياسي الفرنسي.
لكن، المعطى الجديد اليوم يتمثل في انخراط فئات مجتمعية كانت بالأمس أقل اهتماماً بالموضوع، على رأسها الطلاب والنخبة المثقفة بمختلف توجهاتها، ثم الطبقة العاملة. فلم يعد بذلك الملف حكراً على تيار اليسار أو مرتبطاً بأيديولوجية معينة، بل بات يُنظر إليه من زاوية إنسانية عوض ربطه بأفكار سياسية.
على المستوى السياسي الرسمي
أبدى الرئيس الفرنسي انفتاحه على إمكانية الاعتراف بدولة فلسطينية، وقال في تصريحات أعقبت اعتراف ثلاث دول أوروبية، هي إسبانيا وإيرلندا والنرويج في 28 مايو/أيار، إضافة إلى سلوفينيا، إن بلاده "مستعدة للاعتراف" لكن "في الوقت المناسب".
ماكرون ربط، خلال مقابلة هاتفية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، هذا الاعتراف بشرط تنفيذ "إصلاحات أساسية" من قبل السلطة الفلسطينية التي لا تسيطر سوى على الضفة الغربية التي لا تزال محتلة من قبل إسرائيل.
قبل ذلك، كانت باريس قد صوتت في 18 أبريل/نيسان 2024 لصالح مشروع قرار قدمته الجزائر أمام مجلس الأمن أوصى بقبول دولة فلسطين في الأمم المتحدة. وصوت لصالح القرار 12 عضواً من بين أعضاء المجلس الخمسة عشر، وعارضته الولايات المتحدة، وامتنعت عن التصويت المملكة المتحدة وسويسرا.
تزامناً مع هذا التطور في الموقف الفرنسي، صعّد ماكرون حدة لهجته تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، إذ ذكّره بظروف نشأة إسرائيل، فقال وفق ما أوردته صحيفة "لوباريزيان": "يجب على نتانياهو ألا ينسى أن إسرائيل أُنشئت بقرار من الأمم المتحدة، ولذلك لا ينبغي له أن يتنصّل من قرارات المنظمة الدولية".
صحيفة "لوباريزيان" الفرنسية أكدت أن ماكرون أدلى بهذه التصريحات خلال جلسة مغلقة لمجلس الوزراء الفرنسي، موضحة أن عدداً من المشاركين في الجلسة أكدوا حدوث ذلك.
في وقت سابق، أدلى ماكرون بتصريحات لإذاعة "فرانس إنتر" قال من خلالها إنه يعتقد أن "الأولوية اليوم هي العودة إلى حل سياسي، والكف عن تسليم الأسلحة لخوض المعارك في غزة". رداً عليه، صرّح نتانياهو غاضباً: "عار عليك. إسرائيل ستنتصر بدعمك أو من دونه".
تنامي العنصرية والتمييز ضد المسلمين
سنة 2024 أكدت مرة أخرى حجم الإقصاء والتمييز الذي يعانيه المسلمون في فرنسا، ليس من خلال تقديرات جمعيات مدنية أو آراء تيارات سياسية، ولكن وفقاً لأرقام مؤسسات وطنية رسمية أكدت التمييز الذي يطال المسلمين في فرنسا.
من بين تلك الأرقام الرسمية المعلنة ما كشفته نتائج دراسة أجراها المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (INSEE)، والتي خلصت إلى أن أحفاد المهاجرين في فرنسا يعيشون وضعية "قاتمة"، خاصةً المتحدرين من دول غير أوروبية.
النتائج التي نُشرت في الـ21 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تظهر تعرض نحو 34% من مهاجري الجيل الثاني المتحدرين من عائلات غير أوروبية للتمييز، مقارنةً بـ26٪ بالنسبة لوالديهم، ما يعادل فارقاً بـ8 نقاط بين الجيلين وفق معايير الدراسة.
في المقابل، كشفت الدراسة أن أحفاد المهاجرين في فرنسا من أصل أوروبي "أقل عرضةً للتمييز (13%) مقارنةً بالمهاجرين من نفس الأصول (19%)". الدراسة، التي شملت حوالي 27 ألف شخص تتراوح أعمارهم بين 18 و59 عاماً، أكدت أن الأصل الجغرافي هو "العامل الأول للتمييز".
تأكيداً لهذه النتائج، كشف بحث علمي أجري من قِبل باحثين أكاديميين تابعين للمركز الوطني للبحث العلمي ومنصة لتحليل البيانات، أن ارتداء الحجاب "يزيد بنسبة 25% من احتمال تلقي ردود سلبية بعد التقدم لمقابلة عمل".
كما أن الحجاب بالنسبة لبنات المسلمين في فرنسا، وفق الدراسة، يقلل بأكثر من 30% من احتمال تلقي ردود غير سلبية، ويخفض بأكثر من 80% فرصة الحصول على رد إيجابي، رغم توفر المتقدمات على الخبرة المهنية والكفاءة المطلوبة.
الخلاصات أظهرت أن النساء من أصول مغاربية، سواء أكُن محجبات أم لا، يواجهن تحديات إضافية مقارنةً بنظيراتهن الفرنسيات عند التقدم لفرص التدريب المهني، وهو ما يعزز الفكرة بأن التمييز يبدأ من المرحلة التعليمية وينعكس بشكل كبير على سوق العمل.
موسم الفرار من فرنسا
خلال سنة 2024، استمر نزيف الكفاءات وهجرة الأدمغة وسط المسلمين في فرنسا. السبب الأول، وفق ما استقاه "عربي بوست"، هو العنصرية والتمييز.
في هذا السياق، أوضح أكثر من 1000 مسلم فرنسي، في دراسة اجتماعية وصفتها وسائل إعلام فرنسية بأنها "غير مسبوقة"، أنهم يشعرون بالتمييز بسبب دينهم أو أسمائهم أو أصلهم، بينما أكدوا أنهم يجدون الاعتراف الذي حُرموا منه في فرنسا التي وُلدوا فيها، في بلدان أخرى.
وتعد النساء على رأس المتضررين من هذا الوضع، إذ أدى تزايد الإسلاموفوبيا سياسياً ومجتمعياً إلى إقصاء المحجبات منهن وتهميشهن داخل المجتمع، على الرغم من ولادتهن ونشأتهن في فرنسا، وحصولهن على تعليم عالٍ وامتلاكهن مهارات مهنية مطلوبة.
ما يغذي هذا الإحساس بالتمييز ضد المسلمين في فرنسا هو تصاعد خطاب اليمين المتطرف الفرنسي المعادي للمسلمين وسن قوانين وتشريعات ترمي إلى استهداف المسلمين بدرجة أولى.
بالإضافة إلى مواجهة التمييز في مكان العمل، يعاني الرجال والنساء المسلمون في فرنسا أيضاً من التمييز في التعليم والمجتمع المدني. إذ إن الحظر المفروض على الحجاب في فرنسا يمنع النساء المحجبات من الذهاب إلى المدارس، ويؤثر سلباً على حياتهن المهنية ورفاههن العام.
لعل من أبرز أمثلة التضييق المستمر على المسلمين استهداف المدارس الإسلامية، مثل مؤسسة الكندي، التي تواجه اليوم مستقبلاً غامضاً بسبب انتقادات تتعلق بمدى توافق مناهجها التعليمية مع قيم الجمهورية.
حوادث الاستهداف الممنهج للمسلمين في قطاع التعليم تكررت سنة 2024 باستمرار، وما حدث بالمدرسة العليا للإدارة بمدينة غرونوبل أحدها، إذ تم عرض عدد من الطلاب على المجلس التأديبي بسبب استهزائهم بالصلاة وسخريتهم من القرآن وتوثيق ذلك عبر مقاطع مصورة نُشرت على نطاق واسع.
استغلال سياسي للرياضة
بينما يحتفل ماكرون بعيد "حانوكا" اليهودي داخل قصر الإليزيه رفقة حاييم كورسيا، كبير حاخامات فرنسا، ويحضر قداس إعادة افتتاح كاتدرائية نوتردام بباريس، تحرص باريس في المقابل على استغلال كل مناسبة لإظهار تحيزها ضد المسلمين وتكريس سياسة الكيل بمكيالين.
وكان ذلك بارزاً خلال دورة الألعاب الأولمبية الصيفية الأخيرة التي احتضنتها باريس، حيث منعت اللاعبات المسلمات اللواتي يمثلن المنتخبات الفرنسية من ارتداء الحجاب أثناء المنافسات الأولمبية.
وزيرة الرياضة الفرنسية حينها، أميلي أوديا كاستيرا، صرحت في سبتمبر/أيلول بإعلان القرار، على الرغم من عدم وجود قانون موحد لدى اللجنة الأولمبية الدولية ضد ارتداء الحجاب، وعلى الرغم من انتقادات منظمة العفو الدولية.
المنظمة قالت في تقرير إن "الحظر المفروض على اللاعبات الفرنسيات اللاتي يرتدين الحجاب ومنعهن من المنافسة في الألعاب الأولمبية يُعد انتهاكاً للقوانين الدولية لحقوق الإنسان، ويفضح نفاق السلطات الفرنسية القائم على التمييز وضعف اللجنة الأولمبية الدولية وجُبْنها".
تزايد الاعتداءات على المساجد
فيما تواصلت سنة 2024 اعتداءات المتطرفين من أنصار اليمين في فرنسا على المساجد وأماكن العبادة الإسلامية، واتخذت أشكالاً أكثر عنفاً وحدة مثل وضع رؤوس خنازير أمام أبوابها أو إضرام النار في بعض مرافقها.
في وقت سابق، كان موقع "ميديابارت" (Mediapart) الفرنسي كشف في تحقيق خاص أن عدد الهجمات الموثّقة والمعلنة ضد مساجد في فرنسا منذ 2019 بلغت العشرات، مبرزاً أن السياسة الرسمية للدولة بحل وتهميش المؤسسات الإسلامية الرسمية يزيد الأوضاع تعقيداً.
حسب التحقيق، فإن الأرقام المعلنة من قبل وزارة الداخلية هي بالضرورة أرقام منخفضة جداً، ولا تعكس الواقع، وذلك بسبب غياب المعطيات الرسمية الكاملة، علماً أن كثيراً من الضحايا يقررون عدم التبليغ بما يحدث لهم، إلى جانب إخفاق القضاء في التعامل مع ملفات التمييز بشكل عام.
وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو أدان في نوفمبر/تشرين الثاني الهجمات المتزايدة الأخيرة على المساجد في بلاده. وقال في منشور عبر منصة "إكس" تعليقاً على تعرض مسجد لاعتداء: "إن الليلة الماضية شهدت اعتداء مناهضاً للإسلام ضد مسجد في منطقة سان أوسيج".
وأشار وزير الداخلية الفرنسي إلى أن هذا الهجوم الجديد يأتي بعد يومين من اعتداء عنصري من خلال إضرام النار في بوابة مسجد بمدينة أميان، والذي تستمر التحقيقات بشأنه. وأعرب عن دعمه باسمه وباسم بلاده للجمعيات المعنية، مؤكداً أن "مهاجمة أماكن العبادة هو انعكاس للجبن الكبير والعنف الهمجي".
وفي 29 أكتوبر/ تشرين الأول، تعرض مسجد في مدينة أميان لإضرام نار في بوابته، مما دفع السلطات لإطلاق تحقيق في الحادثة. كما تعرض مسجد الإخلاص التابع لجمعية تابعة للاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية "ديتيب" في منطقة سان أوسيج قرب مدينة ديجون شرقي فرنسا، لاعتداء عنصري في نفس الشهر.