حجز الأسد تذكرة ذهابٍ بلا عودة إلى موسكو بعد حصوله على حق اللجوء، إذ نجح هجوم خاطف للمعارضة في إنهاء حكم عائلته المستمر منذ أكثر من 50 عاماً. وأثار الخبر موجة احتفالات في شوارع دمشق، لكنه أثار قلق العديدين حيال المرحلة التالية، فربما انتهت الحرب، لكن الصراع أبعد ما يكون عن نهايته.
إذ تُعَدُّ سوريا دولةً شديدة الاستقطاب، بينما ترك الأسد خلفه فجوةً استراتيجية، وسيحظى من يملؤها بفرصة تقرير مصير سوريا والمنطقة الأوسع. وقد بدأ اقتتال قوات المعارضة على الأراضي والسيطرة والسلطة، إذ اندلعت معارك ضارية بين الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا وبين قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكياً، وخاصةً في مدينة منبج الحيوية، التي تقع على بُعد 30 كم جنوب الحدود التركية.
وفي الوقت ذاته، تنسحب القوات الروسية على عجلٍ من قاعدتها الجوية في عين العرب، فمن المرجح اندلاع اشتباكات أخرى بين الجيش الوطني السوري وقوات سوريا الديمقراطية هنا، ولا تريد روسيا أن تتورط في الأمر.
كما يشعر الساسة الروس بالقلق حيال مستقبل قاعدة حميميم الجوية ومنشأة طرطوس البحرية، اللتين تُعدّان من جواهر التاج الروسي في البحر المتوسط. وربما تظل تلك القواعد قائمةً بشروط، أو ربما تُنقَل إلى ليبيا في الأراضي التي يحكمها حفتر. ويزيد من التوترات أن بعض المحللين الأمريكيين والإسرائيليين يقترحون تقسيم سوريا إلى ثلاثة أجزاء، لكن المعارضين السوريين لم يقاتلوا الأسد وروسيا وإيران لـ 13 عاماً حتى تصبح بلادهم مقسمة.
وفي هذا التقرير، يتناول تحليل موقع "أسباب" للدراسات الجيوسياسية هذه التحولات العميقة، مسلطاً الضوء على التحولات الداخلية والإقليمية واحتمالات وسيناريوهات إعادة تشكيل موازين القوى في سوريا.
بناء الأمم: الدرس الأول
هكذا تبدو سوريا اليوم، هذا هو الوضع على الأرض، لكن هذه الخريطة ليست نهائية، إذ تُعَدُّ الأجزاء الوسطى والشرقية من البلاد عبارةً عن صحراء، فالمدن والقرى قليلة هناك، ولا توجد أماكن استراتيجية للتمركز، أي إن السيطرة على هذه المناطق غير واضحة المعالم في أحسن الأحوال، ومتقلبةٌ في أسوئها، لكن هذا يظل أفضل تمثيل للوضع الراهن، وأفضل
اختصار للجغرافيا السياسية في لقطةٍ واحدة.
- تسيطر هيئة تحرير الشام على الشطر الأعظم من سكان سوريا
- يمثل هؤلاء العنصر الإسلامي في المعارضة
- يقودهم أبو محمد الجولاني، الذي كان عضواً في القاعدة، لكنه أعاد تقديم نفسه ليبدو كنسخةٍ سورية من زيلينسكي
- حظيت هيئة تحرير الشام بنصيب الأسد من المكاسب ضد الأسد
- تسيطر اليوم على مدن رئيسية مثل حلب وإدلب وحماة وحمص
- تسيطر على كامل الساحل السوري، بما في ذلك مدينتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين
لكن تعددية الفصائل تؤثر على جذور هيئة تحرير الشام، إذ يُدار جنوب البلاد مثلاً بواسطة فرعين منفصلين هما:
- الجيش السوري الحر
- غرفة عمليات الجنوب
وكلاهما متحالفٌ مع هيئة تحرير الشام من الناحية الفنية، لكن وفق شروط مسبقة بعينها، والجيش السوري الحر هو قوةٌ مدعومة أمريكياً، وكانت تعمل في الأصل من داخل قاعدة التنف العسكرية، على الحدود مع العراق والأردن. ومع تقدم هيئة تحرير الشام نحو الأسد، خرج الجيش الحر من معقله واجتاز الصحراء للسيطرة على مدينة تدمر التاريخية، ثم وصلوا في النهاية إلى دمشق، حيث يسيطرون على شمال العاصمة الآن.
بينما يخضع النصف الآخر من دمشق لسيطرة غرفة عمليات الجنوب، وهي عبارة عن مزيج من السوريين السنة والأقلية الدرزية، وتقع المنطقة التي يتحكمون فيها على الحدود مع "إسرائيل"، وفي الواقع، خرجت غرفة عمليات الجنوب إلى الحياة ككيانٍ عازل، إذ اعتمدت الفكرة على أن تكليف الأقلية الدرزية بحماية الحدود، سيجعل التعامل مع "إسرائيل" يجري بأقل عنفٍ ممكن.
وإجمالاً، تُعد غرفة عمليات الجنوب والجيش السوري الحر جزءاً من جهود حرب هيئة تحرير الشام، وحتى بإضافة هذين الفرعين إلى الحسابات؛ فإن هيئة تحرير الشام ليست قويةً بما يكفي للسيطرة على البلاد بمفردها.
ويأتي النسيج العرقي السوري ليزيد الطين بلة، كما تُظهر هذه الخريطة.
- يُهيمن العلويون على منطقة الساحل
- تُشكِّل المجتمعات الدرزية أغلبيةً في الجنوب
- يسكن الأكراد الأجزاء الشمالية
- ينتشر على نحوٍ متفرق المسيحيون، والإسماعيليون، والتركمان، وغيرهم
ولا شك أن السنة هم الغالبية العظمى، لكن لم تتضح بعد كيفية تعايش كل تلك الجماعات معاً، إذ تُعَدُّ سوريا شديدة الاستقطاب، وفي غياب التوافق؛ يُمكن للفصائل التي أطاحت بالأسد أن تختلف وتتقاتل فيما بينها ببساطة، وربما تنجح فكرة إقامة دولة علمانية.

لكن الشرق الأوسط يختلف عن أوروبا في نظرته إلى العلمانية، ويفهمها بمعنى آخر، إذ إن الحكم العلماني الذي استمر لخمسين عاماً في سوريا جعل المصطلح مرادفاً للاستبداد، وإذا كان السكان المحليون يرون أن الاستبداد يساوي العلمانية؛ فلا بد أن الحرية تساوي الإسلاموية، وهذا يفسر سبب اتجاه الكثير من العرب السنة إلى الفكر الإسلامي.
ومع وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة؛ ستسعى قيادتها إلى شكل حكومةٍ يُتيح تطبيق الشريعة، لا أحد يعرف ما يعنيه ذلك تحديداً، وهذا يشمل هيئة تحرير الشام نفسها، لذا سيستغرق الوصول إلى ترتيب تقاسم السلطة بعض الوقت.
ومع ذلك، يجب على هيئة تحرير الشام التعامل مع منافسين آخرين، هما الجيش الوطني السوري وقوات سوريا الديمقراطية. ويسيطر الجيش الوطني السوري على شريحة صغيرة من الأراضي بجوار الحدود التركية، ويحكمون ما يمكن وصفه بأنه أصغر أجزاء سوريا مساحةً وسكاناً.
لكن الجيش الوطني السوري يحظى بدعم تركي ووصولٍ إلى أسلحةٍ متطورة يمكنها قلب كفة أي معركة.
فيما تقع قوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي، وتحظى بدعم أمريكي، ودعمٍ روسي جزئي أيضاً
وقد أحرزت قوات سوريا الديمقراطية بعض التقدم في الهجوم الأخير، وتوغلت غرب نهر الفرات لتستولي على مدينة دير الزور، لكن قوات سوريا الديمقراطية ليست سوريةً ولا ديمقراطية في الواقع، ولم يسبق أن عقدت انتخابات، كما يقطن العرب غالبية الأراضي التي تسيطر عليها. وقوات سوريا الديمقراطية هي في الحقيقة فرعٍ لحزب العمال الكردستاني، وهو جماعة انفصالية كردية تقاتل تركيا، وربما أصبت في التخمين بأن القطار قد يخرج عن القضبان هنا.
وهم مقاتلي الحرية
في إيذانٍ بمسار الأسابيع والأشهر المقبلة؛ صدر مؤخراً تصريحٌ على لسان وزير الخارجية التركي ذي الأصول الكردية هاكان فيدان، قال فيه إنه لن يكون هناك مجال لقوات سوريا الديمقراطية في مستقبل سوريا.
إذ إن القيادة التركية ترى ارتباط قوات سوريا الديمقراطية بحزب العمال الكردستاني تهديداً مرفوضاً لأمنها القومي، لهذا تضغط على هيئة تحرير الشام حتى توجه بنادقها إلى الشمال الشرقي الآن، وتُضعِف قوات سوريا الديمقراطية، وسيحدد هذا مدى سيطرة تركيا على مجريات الأمور.
- لكن قوات سوريا الديمقراطية لا تقف على أرضيةٍ ثابتة حتى بدون التدخل التركي، وذلك لأنها تفتقر في المقام الأول إلى الدعم المحلي في الأراضي الخاضعة لسيطرتها.
- تأتي سلطتها مدعومةً من رعاةٍ خارجيين في الأساس، مثل الشتات الكردي وبعض الجماعات اليسارية في أوروبا وأمريكا.
- اقتنعت العديد من تلك الحركات اليسارية بوعود الديمقراطية، والمساواة بين الجنسين التي أطلقتها قوات سوريا الديمقراطية، لذلك قدمت لها دعماً كبيراً.
- لكن هذا الدعم منفصلٌ عن واقع الأمور على الأرض بشكلٍ ساذج، فغالبية الأراضي التي تسيطر عليها ليست أراضٍ كردية.
- يشكل العرب ما يتراوح بين 30% و40% من سكان المنطقة
- ينظرون إلى قوات سوريا الديمقراطية ككيانٍ مفروض خارجياً، لا ممثلاً عن السكان المحليين.
ومع رحيل الأسد، بدأت التوترات في الاشتعال الآن، إذ أزال المحتجون العرب اللافتات الإعلانية لحزب العمال الكردستاني، بينما فتح جنود قوات سوريا الديمقراطية النار على المدنيين وفرضوا حظر التجول.
ووقعت أحداث مشابهة في مدن عربية مثل الرقة ودير الزور وغيرها، ويريد السكان المحليون إخراج قوات سوريا الديمقراطية من مدنهم، إن لم يكونوا قد أخرجوها بالفعل، وفي ظل سعي هيئة تحرير الشام لتعزيز سلامة الأراضي السورية؛ فمن المحتمل ألا تنجو قوات سوريا الديمقراطية في الأشهر المقبلة.

ويرتبط هذا الأمر بعودة ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني، إذ من المرجح أن يسعى ترامب لسحب القوات الأمريكية من سـوريا، وقد حاول فعل ذلك خلال ولايته الأولى، لكن المؤسسة السياسية ضغطت لمنعه من ذلك، بينما يستطيع ترامب فرض إرادته هذه المرة، إذ كتب على تويتر في يوم السبت أن الولايات المتحدة يجب ألا تتدخل في سوريا، وأن هذه ليست معركة أمريكية، وترامب محقٌ بصراحة، إذ لطالما كان الشرق الأوسط مكاناً خطيراً لهذه الدرجة، ولن يستفيد أحد بدخوله أثناء معركة سكاكين.
كما أن الموارد الأمريكية مضغوطةٌ للغاية ومطلوبة بشدة في أماكن أخرى، ومع ذلك، ربما ينشب صراع مسلحٌ جديد في غياب الدعم الأمريكي، لنشهد معركةً بين الجيش الوطني السوري وقوات سوريا الديمقراطية، مع احتمالية انضمام هيئة تحرير الشام إلى صف الجيش الوطني، بينما ستزودهم تركيا بالدعم الاستخباراتي واللوجستي والجوي.
ولا يزال بالإمكان تفادي الصراع المسلح لو وافقت قوات سوريا الديمقراطية على الابتعاد عن حزب العمال، وتعاونت مع الآخرين داخل الساحة السياسية السورية، وفي الواقع، هناك مفاوضات جاريةٌ الآن لهذا الغرض تحديداً.
ستندلع حربٌ جديدة خلال أسابيع لو فشلت المحادثات، وستكون فرص نجاة قوات سوريا الديمقراطية ضئيلةً في صراع كهذا، لن يؤدي هذا إلى نهاية الأكراد، بل إلى تفكيك قوات سـوريا الديمقراطية فحسب، وفي أعقاب ذلك، من المحتمل أن يظهر ممثل أصلي جديد للأكراد.
تتمتع تركيا بعلاقة عملية جيدة مع كردستان العراق، وليس هناك ما يمنع إقامة علاقة مشابهة مع كيانٍ كردي سوري، لكن هذا الكيان لا يمكن أن يكون قوات سوريا الديمقراطية تحديداً بسبب علاقاتها مع حزب العمال.
رحلة العودة إلى الوطن
علاوةً على تحديات بناء الأمة والصراع المقبل مع قوات سـوريا الديمقراطية، هناك مسألةٌ أخرى ترتبط باللاجئين السوريين، إذ يوجد أكثر من 10 ملايين لاجئ سوري على مستوى العالم، ويصل الرقم إلى 13 مليوناً في بعض التقديرات.
تستضيف تركيا أكثر من 3 ملايين منهم في رقمٍ هو الأعلى عالمياً، وقد توافد آلاف السوريين على المعابر الحدودية لتركيا مع سـوريا، وكلهم حماس للعودة إلى الوطن، أما في أوروبا، فقد أوقفت ألمانيا وإيطاليا والسويد والدنمارك وفنلندا وبلجيكا استقبال طلبات اللجوء من السوريين مؤقتاً.
أي إن ملفات طلب اللجوء المعلقة ستُرفض على الأرجح، بينما أخذت النمسا خطوةً أبعد، إذ تخطط وزارة داخليتها لتقديم برنامج ترحيل وعودة للوطن، وسيشمل هذا نحو 40 ألف سوري حصلوا على اللجوء في السنوات الخمس الماضية.
ومن المحتمل أن تحذو حذوها دول أخرى بناءً على الظروف السياسية في أوروبا وسـوريا، لكن أوروبا ربما تستبق الأحداث قليلاً، إذ إن العودة الطوعية والآمنة إلى سـوريا تتطلب إعادة إعمار ضخمة بطول البلاد، فالحرب الضروس التي امتدت لأكثر من عقدٍ كامل جعلت الكثير من أجزاء البلاد غير صالحةٍ للعيش.
وتتفاوض تركيا مع الاتحاد الأوروبي على تفاصيل برنامج إعادة الإعمار حالياً، وفي تقريرٍ بتاريخ فبراير/شباط 2023، قدَّر البنك الدولي إجمالي الأضرار، في سائر قطاعات سـوريا ومدنها الرئيسية الـ14، بنحو 11.4 مليار دولار، أي إن هذا هو مقدار المال اللازم لبرنامج إعادة الإعمار، والذي لا يزال يتعين عليه اجتياز الكثير من العقبات القانونية.
كما أنه لن يبدأ في أي وقتٍ قريب، وبينما يتراجع البعض، سنجد البعض الآخر يخرج من المشهد، ففي هذا الفيديو الذي التقطه الجنود الروس في سـوريا؛ سنرى جنود الأسد وهم يفرون باتجاه الحدود العراقية، وقدَّر المعلق على الفيديو عددهم بنحو 5,000 جندي، وهكذا يكون شكل التداعيات الإقليمية، إذ قد يسبب جنود الأسد المنشقين مُشكلةً في المستقبل، على غرار صعود تنظيم داعش، والذي تشكل في الواقع بواسطة الضباط والجنرالات العراقيين الذي سُجنوا بعد موت صدام حسين.
وهذا مقطع فيديو آخر يُظهر أكوام الثياب الرسمية والأسلحة والذخائر بجوار الحدود مع العراق، ويرتدي هؤلاء الموالون للأسد ثياباً مدنيةً الآن، ومن الممكن أن يعودوا ليؤثروا على سـوريا مستقبلاً، لأنهم يمتلكون الخبرة والعلاقات اللازمة لتجنيد، وتدريب، وتكوين ميليشيات جديدة من أجل التسلل إلى سـوريا.
لقد أرسى تنظيم داعش قواعد اللعبة، وأظهر قدرة أفراد الحكومات الساقطة على التجمُّع، وزيادة قوتهم، وزعزعة الاستقرار الإقليمي، يُمكن القول باختصارٍ إننا أمام تنظيم داعش جديد في طور التكوين، وصحيحٌ أن التهديد قد لا يتحقق خلال السنوات المقبلة، لكنه يظل قائماً، وفي النهاية، لا تنتقل الثورات من عالم الأحلام إلى أرض الواقع، إلا بعد عقود.