من الثورة إلى الدولة.. هذه أبرز التحديات الكبرى أمام سوريا جديدة 

عربي بوست
تم النشر: 2025/01/29 الساعة 10:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/01/29 الساعة 10:38 بتوقيت غرينتش
ريف درعا - رويترز

مع سقوط نظام الأسد، تدخل سوريا مرحلة إعادة التشكل وسط تحديات سياسية وأمنية واقتصادية غير مسبوقة. تتشابك مصالح الفاعلين المحليين والدوليين في المشهد الجديد، مما يجعل عملية بناء الدولة اختبارًا معقدًا لقدرة الإدارة الجديدة على فرض الاستقرار، وتجاوز مخلفات الحرب، واستعادة دور سوريا الإقليمي. في هذا السياق، يقدم موقع "أسباب" لدراسات الجيوسياسية هذا التقرير الاستشرافي حول حالة الدولة السورية. ويتناول التقرير أبرز التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تواجه سوريا الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، ويرصد ديناميكيات التغيير المحتملة في الداخل والخارج.

كما يسلط الضوء على ملامح النظام السياسي الجديد، والاستراتيجيات المتوقعة لإدارة العلاقات الإقليمية والدولية، والتحديات التي قد تعرقل جهود إعادة الإعمار والاستقرار. يقدم هذا التقرير تحليلاً عميقًا لمستقبل التحديات التي قد تواجه سوريا على المدى القريب، استنادًا إلى المعطيات الحالية والتوجهات السياسية والعسكرية والاقتصادية الناشئة.

أولاً: الحالة السياسية

سيظل المشهد السياسي في سوريا ضبابياً في الأشهر القليلة القادمة، وسط بيئة معقدة من الفصائل والمنظمات العسكرية والمجموعات السياسية والتنظيمات المدنية في الداخل والخارج، تسعى جميعها للدفاع عن مصالحها في النظام الجديد الذي ما زال قيد التشكل. فعقب سقوط نظام الأسد، أعلن أحمد الشرع، بصفته قائداً للإدارة الجديدة والقائد العام للعمليات العسكرية التي أطاحت بالنظام السابق، عن تعيين حكومة تسيير أعمال مؤقتة حتى آذار/مارس 2025، وأجرى تعيينات هامة في مفاصل إدارية وسياسية وأمنية، بينما تتجه الأنظار نحو مؤتمر الحوار الوطني الذي يجري الإعداد له، والذي قال الشرع عنه إنه سيشهد مشاركة واسعة من أطياف المجتمع السوري وسيضع الأسس لهوية الدولة الجديدة.

مؤتمر الحوار وتكريس الشرعية

يعكس الإعلان عن مؤتمر شامل للحوار الوطني إدراك الإدارة الجديدة لحجم الانقسامات العميقة بين المكونات السورية من الناحية العرقية والدينية والسياسية. لكنّه أيضا يشير إلى حاجة الشرع إلى نقطة ارتكاز قانونية تنهي حالة "قيادة الأمر الواقع"، كي ينتقل من كونه قائداً لفصيل وغرفة عمليات عسكرية ليصبح رئيساً شرعيا لسوريا في المرحلة الانتقالية، والتي ستستمر لسنوات وفق رؤيته. ومن المرجح أن يعلن المؤتمر عن خطوات لترتيب المرحلة الانتقالية، تتمثل في: حل الفصائل المسلحة وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، بالإضافة لحل مجلس الشعب، وإلغاء العمل بالدستور السابق، وتشكيل هيئة استشارية للقيادة العامة، والإعلان عن لجنة قانونية لصياغة الدستور، أو اعتماد دستور 1950 مؤقتا، والأهم هو منح الثقة للشرع رئيساً للبلاد، وتفويضه بتشكيل حكومة مؤقتة.

من المتوقع أن يصطدم مؤتمر الحوار الوطني بعقبات، تتمثل في غياب الثقة بين الأطراف السورية المختلفة، واستعجال القوى المعارِضة للمحاصصة لضمان تمثيلها في النظام الجديد، بالإضافة إلى الضغوط الخارجية المتنوعة، دولية وإقليمية، والتي تصب في اتجاه تمكين مجموعات بعينها. كل ذلك قد يعرقل انعقاد المؤتمر في الأجل القصير أو قد يحد من طابعه الشامل وهدفه المتمثل في التأسيس للحظة إجماع وطني بعد انهيار نظام الأسد. وقد أثارت تحضيرات المؤتمر بالفعل جدلاً حول طريقة الترتيب له والجهات المدعوة ومن يحددها واتجاهه لاستثناء مؤسسات وأحزاب بما فيها ائتلاف المعارضة في الخارج.

يعتمد نجاح مسار الحوار الوطني على قدرة الإدارة السورية الجديدة على احتواء الضغوط الخارجية وتخفيف حدة التوتر الداخلي عبر تمثيل واسع ومعبر عن المكونات السورية، وتوفير مساحة شاملة لكل الأصوات على قاعدة الشراكة وليس فقط الموافقة على خطط الإدارة الجديدة وتصوراتها. وهذا يتطلب تعزيز التحالفات والتفاهمات بين الشرع وبين نخب ومجموعات أوسع قبل التوجه للمؤتمر الوطني.

نظام الحكم وملامح الدولة السورية الجديدة

في ضوء التنوع العرقي والديني وتعدد الفاعلين المحليين والدوليين، ستتأثر مسألة شكل الحكم والدولة السورية الجديدة بعدة عوامل، أهمهما سياسة الشرع وهيئة تحرير الشام باعتبارها الحزب الحاكم الفعلي، وقدرة الشرع على ضبط الأمن وتوحيد البلاد وتحقيق الاستقرار، ومواقف الدول الخارجية ومدى انفتاحها على السلطة الجديدة. وفي هذا الصدد، يبدو أن المستقبل في سوريا مفتوح على سيناريوهات عدة، مثل:

  • بناء نموذج حكم مركزي في دمشق تنصهر فيه معظم الأطراف السورية الفاعلة ويُخضع كل الجغرافيا السورية، وهو الخيار الذي يتمسك به الشرع، ومن المتوقع أن يلقى دعما من أطراف خارجية أهمها تركيا، إذ تلبي سوريا الموحدة والمركزية اعتبارات أنقرة الجيوسياسية والأمنية.
  • نظام فيدرالي يقترب من النموذج العراقي، على أساس التوازن بين حكومة دمشق المركزية، وحكومة إقليم كردية في شمال شرق البلاد. وهو خيار سيلقى دعما من أطراف متعددة رغم تباين مصالحها، مثل العراق و"إسرائيل" وربما الولايات المتحدة وفرنسا. لكنّه من جهة أخرى قد يسبب توترا طويل الأجل مع تركيا.
  • تقسيم البلاد على أسس جغرافية وطائفية وإثنية بعد تدخلات أجنبية تحمي مجموعات محلية وتسعى لفرض نظام حكم ذاتي لكل منها، بحيث يصبح هناك إقليم درزي وإقليم علوي بالإضافة للإقليم الكردي. 

ما زال مستقبل سوريا القريب مفتوحا على كافة الاحتمالات. ورغم هذا يبقى السيناريو الأول هو الأقرب للتحقق، وذلك لعدة أسباب، من بينها؛ أن الإدارة الجديدة تملك مزيجا من المرونة السياسية والقوة العسكرية والأمنية ما يمكنها من تفكيك المعارضة ودمجها في الدولة. وكذلك فإن تركيا ودول إقليمية أخرى لن يكون من مصلحتها تقسيم سوريا بما في ذلك على المستوى الفيدرالي. وأخيراً؛ إن انشغال المجتمع الدولي بالحرب الأوكرانية والصراع الإسرائيلي الإيراني والتوترات العالمية بين الصين وأمريكا، ستجعل مسألة استقرار الأوضاع في سوريا هي الخيار الآمن، خاصة إذا قدمت هيئة تحرير الشام ضمانات حقيقية وحافظت على نهجها الشامل تجاه باقي المكونات السورية.

من الثورة إلى الدولة.. هذه أبرز التحديات الكبرى أمام سوريا جديدة 
الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط وابنه تيمور يلتقيان مع قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع – رويترز

من ناحية المضمون؛ من المؤكد أن الشرع يسعى لتأسيس نظام حكم مركزي، وتشكيل منظومة سياسية لها مرجعية إسلامية، تعطي مجالاً لمشاركة المكونات الدينية والعرقية المتنوعة في السلطة وفق مبدأ الكفاءة لا المحاصصة، وعبر آليات انتخابية، مع احتفاظ الموالين للشرع بالمناصب السيادية وعلى رأسها الجيش والأمن والاقتصاد خلال المرحلة الانتقالية. وبينما ليس من المرجح تأسيس صيغة حكم "طالبانية" يحتكر فيها حزب واحد السلطة استنادا على الشرعية الدينية والثورية التي أوصلت القوى الحالية للحكم، فإن التحدي الرئيسي أمام الشرع سيكون بناء ائتلاف سياسي تحت رئاسته خلال المرحلة الانتقالية يضمن استمراره في الحكم في الأجل الطويل في نظام تعددي انتخابي ترفع فيه القيود عن الأحزاب السياسية.

هواجس الثورة المضادة

في الأجل القصير؛ لا يمكن التقليل من المخاوف الخاصة بقيام "ثورة مضادة"، وتكرار سيناريو مُشابه للنماذج التي شهدتها دول عربية أخرى، خصوصاً في ظل تسارع بعض الدول الإقليمية أو القوى الدولية لتحريك جهات محلية سورية، أو بعض فلول النظام. وما يجعل هذا الاحتمال قائما هو أن النظام القديم لا تمثله فقط نخبة حاكمة مدنية أو عسكرية، وإنما أيضا جهاز الحكم البيروقراطي والأجهزة الأمنية المتنوعة والتي لديها جميعا علاقات وتحالفات خارجية، خاصة مع روسيا وإيران. لكن هذا التهديد يحد نسبيا من خطورته التدهور الحاد في مؤسسات نظام الأسد خلال السنوات الأخيرة، كما أن انتصار الثورة في الحالة السورية كان عسكريا، وليس سياسياً شعبيا، وهو ما يجعل من جهود التصدي لفلول نظام الأسد أكثر حسما وسرعة.

مع مرور الوقت وتقدم إجراءات التطهير المتسارعة؛ تفقد الأطراف الخارجية فرص تكوين أو تنشيط مجموعات موالية داخل مؤسسات الدولة، مما يقيد فرص العمل من خلالها لتدبير انقلاب على السلطة الانتقالية. وستظل هذه الديناميكية نشطة طوال 2025 على الأقل. أما انخراط المكونات العرقية (مثل الأكراد) والدينية (مثل الدروز) في تحالفات خارجية مضادة للإدارة الجديدة فيظل احتمالا متوسط الخطورة، يقابله السيطرة الأمنية والعسكرية للسلطة الجديدة وحلفائها من المجموعات المسلحة، ورغبة المجتمع الدولي في استقرار الأوضاع في سوريا وتجنب الانزلاق إلى حالة فوضى لا تقل تداعياتها الأمنية إقليميا ودوليا عن التداعيات السابقة التي شهدت صعود داعش وموجات اللجوء الواسعة إلى أوروبا وتهديدات أمنية لدول المنطقة.

ثانياً: الحالة الأمنية

لا يزال أمام الإدارة الجديدة طريقا طويلة للوصول إلى الاستقرار وعودة الحياة إلى انتظامها وإحكام السيطرة الأمنية على عموم البلاد، لاسيما وأن سوريا ما زالت مقسمة عمليًّا في ظل وجود عدد من اللاعبين المؤثرين داخلياً، بالإضافة لفوضى انتشار السلاح وانتشار القواعد الأجنبية في البلاد. ومن المرجح أن تشهد سوريا احتجاجات ذات طابع سلمي على شكل مظاهرات واعتصامات، سواء كانت عفوية لأسباب اقتصادية أو منظمة من قبل جهات معارضة للإدارة الجديدة للضغط عليها، فإنها ستشكل هاجسا أمنيا وسياسيا للإدارة الجديدة خلال المرحلة الانتقالية يصعب التعامل معه.

الفصائل المسلحة وتحديات الانتقال 

سيُبقي الجيش الوطني السوري على انتشاره على الحدود التركية شمال شرق سوريا ما دام الصراع ضد قسد قائماً. وسيتوقف حسم هذا الصراع أولاً على نهج الولايات المتحدة إزاء تواجدها العسكري في سوريا، خاصة وأن أعضاء بارزين في إدارة ترامب أعربوا عن رغبتهم في استمرار الدور الأمريكي العسكري في سوريا وهو توجه مخالف لموقف ترامب المعروف. بالإضافة لذلك؛ فإن طبيعة التسوية المحتملة بين قسد والإدارة السورية الجديدة ومدى تلبيتها للاعتبارات الأمنية التركية ستمثل أيضا عاملا حاسما في تقرير مستقبل الجيش الوطني السوري. أي إنه بدون حل مسألة قسد بتسوية أمريكية-تركية-سورية سيظل الجيش الوطني خارج وزارة الدفاع السورية، ولن تخرج القوات التركية والأمريكية من سوريا.

من الثورة إلى الدولة.. هذه أبرز التحديات الكبرى أمام سوريا جديدة 
قوات من قسد في مدينة الرقة السورية٬ أرشيفية – رويترز

في الجنوب؛ قد لا يتمكن الشرع خلال العام الجاري من دمج فصائل غرفة عمليات المنطقة الجنوبية وفصائل السويداء بشكل كامل في وزارة الدفاع، وذلك لعدة أسباب منها؛ تعقّد العلاقات الأردنية والإسرائيلية مع هذه الفصائل، والطبيعة الفوضوية التي تعودت عليها المجموعات المسلحة في الجنوب، إضافة إلى التوازنات العشائرية والطائفية التي سيحرص على مراعاتها. لكن من المتوقع أن تتمكن وزارة الدفاع على الأقل من سحب السلاح الثقيل والسيطرة على المنشآت العسكرية المهمة، وتحقيق قدر من الانتشار الأمني يحد من مناطق نفوذ تلك الفصائل.

الهواجس الأمنية لدى أهالي محافظة السويداء، ذات الغالبية الدرزية، من أبرز العوائق أمام عقد تفاهمات مع الإدارة الجديدة في دمشق، فقد رفضت حتى الآن دخول القوات الأمنية والعسكرية واشترطت تعيين الطواقم الإدارية والأمنية من أبناء المحافظة. من جانبها، ومن المتوقع أن تعمل دمشق على مراعاة المخاوف الدرزية بشكل دقيق وتنتهج سياسة النفس الطويل لاحتواء مخاوف الفصائل المحلية ووجهاء المحافظة، وربما تكون البداية من اختيار محافظ للمدينة بالتوافق مع وجهائها واعتماد قوات الشرطة في المحافظة من ضمن أبناء السويداء. وقد يؤدي ضبط الأوضاع في الجنوب السوري خاصة تنظيم الفصائل المحلية في درعا وريف دمشق والقنيطرة، ضمن وزارة الدفاع السورية، إلى تشجيع القوى المحلية في السويداء على الانخراط في الجيش والإدارة الجديدة.

سيبقى تهديد تنظيم الدولة قائما. فخلاياه المنتشرة في كامل الجغرافيا السورية بدأت تنشط في المدن بعد انسحابها من البادية، وهناك عدة ظروف وعوامل قد تساعد على إحياء فكر التنظيم، مثل توجه السلطة نحو البعد الوطني والابتعاد عن الشعارات الإسلامية، وعلاقاتها المعقدة مع الغرب ودول المنطقة مثل المملكة العربية السعودية والعراق والأردن وتركيا، وتجنبها الخوض في القضية الفلسطينية، وسياستها مع الأقليات والتي سيجد من خلالها التنظيم مبررات للتجنيد واستعادة النشاط واستقطاب الساخطين على الإدارة الجديدة.   

المؤسسة الأمنية والعسكرية 

تمثل وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية المتنوعة الركيزة الأهم والأكثر نفوذاً في النظام السابق. ولهذا السبب كان نحو 80٪ من المسؤولين والضباط فيها من الطائفة العلوية التي استند إليها نظام الأسد. وتشير التقديرات أن عدد العاملين في وزارة الدفاع يقرب من 400 ألف، لكنّ هذا العدد لم يكن دائما، وعلى الأرجح فإن قوات الجيش في السنوات الأخيرة كانت أقل من ذلك نتيجة الهروب الواسع من التجنيد وتراجع قدرة النظام على تقديم عوائد مالية تلبي الحد الأدنى لمعيشة الجنود. ومع انتصار هيئة تحرير الشام وحلفائها في ديسمبر/كانون أول الماضي، تفككت تلقائياً المؤسسات الأمنية وسُرح الجيش السوري، وبات الآلاف من الضباط هاربين وملاحقين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

من الثورة إلى الدولة.. هذه أبرز التحديات الكبرى أمام سوريا جديدة 
القادة السابقون في نظام الأسد المخلوع: سهيل الحسن، وماهر الأسد، وبشار الأسد، وجميل الحسن، وعلي مملوك – عربي بوست

نظرا لأن الإدارة الجديدة تستند إلى تحالف عسكري يضم عشرات الآلاف من المقاتلين، فإنها تصرُّ على عدم استخدام أي عنصر من النظام السابق وإن كان قد شمله العفو والتسوية السياسية.

ومن المرجح أن تستمر الإدارة الجديدة في توظيف منتسبين ومجندين جدد من خلال دورات استثنائية سريعة، وإعادة دمج الفصائل في النظام الجديد. وبينما يعتقد أن المُسرَّحين من فئة الجنود، وهم العدد الأكبر، لن يشكلوا تهديداً باعتبار أنهم كانوا مجندين إلزامياً وليس لديهم بالضرورة ولاءً خاصا للمؤسسة العسكرية أو النظام السابق، فإن التحدي هو في فئة الضباط وعناصر القوات الخاصة والمجموعات الطائفية التي كانت تحصل على امتيازات عبر العمل في سلك الأمن والدفاع، ثم فقدت هذه الامتيازات الآن، كما أنها خارج التسوية السياسية. ومن المرجح أن يمثل هؤلاء مشكلة أمنية في الأجل القصير على الأقل، تشمل تنفيذ عمليات التخريب واستهداف لقوات الإدارة الجديدة إلى حين تمكن السلطة الجديدة من فرض السيطرة الأمنية على عموم البلاد.

القواعد الأجنبية

تعج سوريا بالقواعد العسكرية الأجنبية الأمريكية وحلفائها من دول الناتو والقواعد التركية والقواعد الروسية، وتدعم هذه القوات الأجنبية قوى ذات توجهات مختلفة، لذلك يعتبر حصر وجود السلاح بيد الدولة وحل موضوع القواعد الأجنبية أولوية أساسية للمرحلة الحالية. ويتوقع أن يرغب الشرع ببقاء عدة قواعد لتركيا وروسيا كورقة ضد النفوذ الغربي والإسرائيلي، كما أن الولايات المتحدة قد لا تفكر في سحب جميع قواعدها حتى بعد حل مسألة قسد، ويمكن أن تحافظ على وجود عسكري محدود في قاعدة التنف والمنطقة الشرقية. 

إسرائيل الخطر المحدق

يمثل التغيير في سوريا كابوسا أمنيا للاحتلال الإسرائيلي. إذ لا تتوفر ضمانات لتل أبيب إزاء طبيعة النظام الجديد حال استقراره على المدى الطويل، كما أن احتمالات أن يتعزز الوجود العسكري التركي في سوريا يمثل تحولا في البيئة الأمنية الاستراتيجية للاحتلال الذي سيجد فجأة قوات تركية على حدوده. ولذلك؛ بادرت "إسرائيل" إلى تدمير الأصول الاستراتيجية العسكرية السورية، واحتلت المنطقة العازلة في الجولان ومواقع الرقابة السورية في قمة جبل الشيخ، ووصف وزير الخارجية الإسرائيلي "جدعون ساعر" الإدارة السورية الجديدة بـ "العصابة الإرهابية"، ولم تلق تل أبيب بالاً للرسائل الواردة من دمشق حول خفض التوتر بين الطرفين، في حين ترسل رسائل صريحة حول دعمها لقسد كحليف وحيد لإسرائيل في سوريا.

في ضوء هذه المعطيات ستخضع سيناريوهات التوغل الإسرائيلي داخل سوريا لجملة من العوامل:

  • رد فعل الإدارة الجديدة ومدى استعدادها لمواجهة التقدم الإسرائيلي.
  • موقف تركيا، كونها لاعبًا رئيسيًا في الملف السوري.
  • موقف المجتمع الدولي: وخاصة الولايات المتحدة.
  • الوضع الداخلي في "إسرائيل" واستعدادها العسكري لتحمل تكاليف حرب جديدة.

 ومن المرجح أن يتمسك الاحتلال الإسرائيلي في العام الجاري بالتواجد في منطقة عازلة بعمق حوالي 10 كم داخل سوريا، بالإضافة لاحتلال مناطق استراتيجية كتلال الحارة والجموع والجابية في ريف درعا الغربي. من جهة أخرى، فإن الاحتلال الإسرائيلي سيعمل بشكل استراتيجي على تعزيز نفوذه الأمني في الجنوب السوري، سواء بالقدرات الاستخباراتية أو عبر تقديم دعم محتمل لفصائل محلية سورية تعمل بالوكالة لمصلحته. أما احتمالات توسع العملية العسكرية الإسرائيلية أعمق في الأراضي السورية بما يشمل التقدم نحو دمشق أو حتى مناطق أبعد، فإنه يظل أمرا غير مرجح في ظل نهج الإدارة السورية الحالي، والذي يتجنب العداء مع الأطراف الخارجية.

ثالثاً: العلاقات الخارجية 

تضع الإدارة الجديدة الأولوية لإعادة بناء العلاقات مع الولايات المتحدة وأطراف إقليمية، بما يخدم ضرورة رفع العقوبات وإطلاق جهود إعادة الإعمار وإصلاح الاقتصاد. كما أن التهديدات الجيوسياسية تجعل من الضروري الاحتفاظ بعلاقة وثيقة مع تركيا كشريك أمني ودفاعي، والإبقاء على هامش من المناورة بين المصالح الروسية والأمريكية. ولذلك؛ ليس من المتوقع أن تتبنى الإدارة السورية توجهات تقوّض هذا المسار.

السياسة الخارجية للنظام الجديد عموما ستكون ذات طابع انكفائي يتجنب العداء والتصعيد مع الأطراف الخارجية، ويبتعد عن صراعات المحاور، وذلك نتيجة هشاشة الوضع الداخلي سياسيا وأمنيا والتحدي الاقتصادي الواسع، وانهيار دفاعات البلاد العسكرية.

وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية ضرورية لتجنب النظام الجديد مخاطر الاستهداف الخارجي، إلا أنها لا تخلو من تحديات، أبرزها: 

  •  تعارض مصالح الأطراف الخارجية وحدة تنافسها في بعض الأحيان مما يترك هامشا ضيقا للإدارة الجديدة للاحتفاظ بعلاقات متوازنة دون انحياز يغضب أطرافا أخرى. 
  • حاجة النظام الجديد للمرونة العالية في ظل ضعف البلاد اقتصاديا وعسكريا وهشاشة الوضع السياسي الوليد سينتج عنها بعض التنازلات، وليس من المستبعد أن تفرض تنازلات تضع قيودا بعيدة المدى على النظام الجديد، أو أن تنجح الأطراف الأخرى في احتوائه ضمن معادلات إقليمية ودولية لا تتمتع فيها سوريا بالمكانة التي تطمح إليها بعد سنوات الحرب الطويلة.

التوجه غرباً

أظهر أحمد الشرع ميله للتوجه غربا، وهي عملية ستمثل إعادة ضبط تاريخي للدولة السورية في المعادلة الجيوسياسية الدولية. ويأتي هذا التوجه مدفوعا باعتبارات مفكر فيها، ومن الواضح أنها ليست وليدة الأيام القليلة التي أعقبت هزيمة نظام الأسد. أبرزها: 

  • معادلة النفوذ الروسي والإيراني التاريخي في مؤسسات الدولة السورية والذي بلغ مداه في العقد الماضي ويمثل حاليا تهديدا محليا للنظام الجديد.
  • رفع العقوبات الاقتصادية كضرورة لا مفر منها لإعادة بناء البلاد وبالتالي استقرار نظام الحكم الجديد. 
  •  تقدير الشرع بأن التفاهمات مع الولايات المتحدة ستمثل مفتاحا لتطوير العلاقات مع أوروبا ومع غالبية دول المنطقة العربية، مما يرسخ شرعية النظام الجديد على المستوى الدولي.

تركز السياسية الأمريكية تجاه سوريا على قضايا وأجندات مختلفة استراتيجية وأمنية، في مقدمتها أمن "إسرائيل" وضمان أن سوريا لن تكون بيئة لأنشطة أو مجموعات تستهدف دولة الاحتلال، ويرتبط بذلك أيضا، ضمان إنهاء وجود إيران في سوريا ووقف استخدام سوريا كجسر بري من قبل إيران إلى لبنان. بالإضافة لذلك، فإن احتواء خطر تنظيم الدولة وتعاون دمشق في الجهود الإقليمية والدولية لمواجهته تمثل أيضا مسألة أساسية لواشنطن. بالإضافة لمطالب واشنطن المعلنة بخصوص تشكيل حكومة سورية شاملة وضمان حقوق الأقليات.

ستعمل الولايات المتحدة على الضغط على القيادة السورية الجديدة بهدف توافقها مع مصالح المنظومة الغربية، واستخدام تهديد عدم الاعتراف بالنظام الجديد ومحاصرته بالعقوبات. ومن المتوقع أن يستمر تقدم العلاقات وفق مبدأ الخطوة مقابل خطوة. ومن المتوقع أيضاً أن نشهد استجابة غربية مماثلة للموقف الأمريكي من دول الاتحاد الأوروبي، لكن دول الاتحاد في نفس الوقت لديها أولوية تتمثل في تعزيز التعاون من أجل معالجة ملف اللاجئين الذي يضغط على السياسة الداخلية لحكومات أوروبا. ومن اللافت كذلك أن القوى الأوروبية أكثر تشددا من واشنطن إزاء مستقبل التواجد الروسي في سوريا، وتمارس ضغوطا على دمشق للعمل على إغلاق القواعد الروسية بما يعني ذلك خسارة جيوسياسية لموسكو وإبعادها عن المتوسط ليكون تحت هيمنة البحرية الأوروبية والأمريكية. 

روسيا: تعزيز البدائل

يؤمن الوجود الروسي في سوريا ورقة تفاوضية مهمة بيد الإدارة الجديدة، في مواجهة ضغوط الولايات المتحدة والدول الأوروبية خاصة في مسألة العقوبات الاقتصادية. إذ ستكون موسكو خياراً بديلاً عن الغرب حال استمرار العقوبات والتصنيف، خصوصاً وأن روسيا عضو دائم في مجلس الأمن يمكن الاستفادة منه في الكثير من الملفات، وإن كان ليس هو الخيار المفضل لدى الشرع الذي يميل لتوازن علاقاته بين الجانبين. بالإضافة لذلك؛ فإن بناء تفاهمات مع موسكو يساعد الإدارة الجديدة في احتواء بعض المواقف العدائية المحتملة داخل سوريا وفي الإقليم، في ظل نفوذ روسيا الأمني والعسكري في الملف السوري. ولذلك؛ فإن من المرجح أننا لن نشهد في الأشهر المقبلة انسحاباً روسيا كاملاً من سوريا.

بالمقابل؛ تسعى روسيا للحفاظ على علاقات جيدة مع دمشق حفاظًا على وجودها العسكري في قاعدة حميميم، وميناء طرطوس، وهو تواجد يقع في قلب عقيدة روسيا البحرية، التي أقرت في 31 يوليو/تموز 2022، إذ يؤمن لها المنفذ الوحيد للوصول إلى المياه الدافئة، ويدعم العمليات اللوجستية العالمية لروسيا خاصة تجاه البحر الأحمر والقرن الأفريقي والمحيطين الهندي والهادئ. وتنبع أهمية هذا التواجد لروسيا من ارتباطه بالمكانة الدولية لموسكو ورؤيتها الجيوسياسية الواسعة للتنافس مع الغرب، إذ سيعتبر التخلي عن هذا الموقع علامة ضعف لا يمكن تغطيتها.

تركيا: التحالف الحذر

تمر سوريا بمرحلة انتقالية بين أفول النفوذ الإيراني وصعود النفوذ التركي، ومن المتوقع أن تواصل القيادة الجديدة في سوريا تعزيز العلاقات مع أنقرة، خاصة وأن أهداف "إسرائيل" الإقليمية تضع الإدارة السورية في معادلة لا يمكنها فيها التصدي للتهديد الإسرائيلي دون الاستعانة بحليف استراتيجي مثل تركيا. وستعمل الإدارة السورية على موازنة تحركها الضروري باتجاه تركيا بعلاقات مع القوى العربية الرئيسية، خاصة السعودية، لتجنب العداء مع الحكومات العربية التي يزعجها استبدال نفوذ أنقرة في سوريا بنفوذ طهران المتداعي.

من الثورة إلى الدولة.. هذه أبرز التحديات الكبرى أمام سوريا جديدة 
وزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته هاكان فيدان – رويترز

حققت تركيا مكاسب استراتيجية في الملف السوري، وفرضت موقعها كفاعل رئيسي في تشكيل مستقبل سوريا. ومن المتوقع أن طموح أنقرة في استثمار الفرصة السورية سيثير حفيظة دول أخرى، لكن موقع تركيا الجيوسياسي وموقفها من الثورة السورية على مدار السنوات السابقة فرض معادلة لا يمكن للاعبين الإقليميين والدوليين تجاهلها. وتتلخص مصالح أنقرة الجيوسياسية في سوريا في إضعاف المشروع الانفصالي الكردي إقليميا، وتقويض نفوذ إيران، وترسيم الحدود البحرية مع سوريا، وتعزيز الروابط التجارية والأمنية مع سوريا في علاقة تحالف طويل الأجل، بالإضافة لترتيبات عودة اللاجئين.

إيران: تجنب العداء والإبقاء على التوتر

من المرجح أن تظل العلاقات بين دمشق وطهران يخيم عليها التوتر في الأجل القريب. إذ يتعارض مسار إيران مع أولويات الإدارة السورية الأساسية المتمثلة في بناء تفاهمات مع الولايات المتحدة وتعزيز العمل مع تركيا والسعودية واحتواء العداء الإسرائيلي. ولذلك؛ بالرغم من محاولات إيران أن تسلك النهج التي سلكته روسيا في بناء العلاقات مع السلطة الجديدة، فإن دمشق أبقت على الاتصالات مع طهران في حدها الأدنى، وعبرت عن موقف أقل انفتاحا تجاه إيران، وهو موقف لا شك تفرضه أيضا اعتبارات العداء الشعبي في سوريا ضد إيران. 

في ضوء ذلك؛ تظل إيران مصدر تهديد إقليمي لسوريا الجديدة. فعلى الرغم من التدهور الاستراتيجي في نفوذ إيران نتيجة خسائر حزب الله وسقوط نظام الأسد، والضغوط الأمريكية والإسرائيلية المتواصلة على طهران، فإن أهمية سوريا الجيوسياسية لإيران تجعل من المستبعد تجاهلها حتى النهاية. وقد يكون التحرك الإيراني القريب هو إعادة تنظيم المجموعات الموالية، أو إعادة بناء شبكات جديدة، وليس بالضرورة بدء العمل قريبا على تقويض الإدارة الجديدة. لذلك؛ فإن الإدارة السورية ستحرص على تجنب العداء الصريح مع طهران، وستعمل عبر قنوات التواصل المنخفضة على كسب مزيد من الوقت.

الدول العربية: تفادي أخطاء الماضي

تتبنى الإدارة السورية استراتيجية عربية تقوم على بناء علاقات مميزة، والهروب من فخاخ الاستقطاب، وتجنب الصدام مع أي من القوى الإقليمية. وبالمجمل، سنشهد توجهاً سوريا نحو توثيق العلاقات مع السعودية، مدفوعة بتكريس خسارة طهران الاستراتيجية، فضلا عن أهمية العلاقات مع قطر لأسباب اقتصادية وسياسية كوسيط مع أطراف دولية. كما تهتم دمشق بالعراق والأردن ولبنان كدول جوار. 

وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود مع وزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني في دمشق – رويترز

ما زال يخيم على موقف الإمارات ومصر مزيج من التوجس والعداء، ومن المرجح أن يستمر ذلك. إذ ترى أبوظبي التغيير في سوريا كتهديد ينعش أجواء الربيع العربي، ويعود بالإسلام السياسي إلى الواجهة، وهي نظرة غير بعيدة عن تقدير القاهرة، إذ تتخوف المنظومة الأمنية المصرية من أن نجاح التغيير في سوريا يمثل إلهاما للمصريين ولبقية ثورات الربيع العربي، كما أن لدى مصر اعتبارات جيوسياسية أوسع تتمثل في تنامي القلق المصري من تمدد النفوذ التركي في سوريا.

رابعاً: الحالة الاقتصادية     

تركت سنوات الحرب الطويلة أثراً عميقاً طويل الأمد على البنية التحتية في قطاعات الكهرباء والمياه والنقل والرعاية الصحية، وانكمش الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 90٪، إلى جانب العقوبات الدولية، والمؤسسات الحكومية المتهالكة والفاسدة، وحالات النزوح واللجوء لنحو 13- 14 مليون شخص داخل سوريا وخارجها، لتصبح سوريا واحدة من أفقر اقتصادات الشرق الأوسط، إن لم يكن أفقرها على الإطلاق.

تعرضت حوالي ثلث المساكن ونصف المنشآت الصحية والتعليمية للتدمير الكامل أو الجزئي، وأدت الحرب إلى انخفاض حاد في قيمة الليرة السورية من حوالي 45 ليرة مقابل الدولار عام 2010، إلى ما يقرب من الـ 15000 ليرة لكل دولار عشية الإطاحة ببشار، مما سبّب انهيارًا للقوة الشرائية للسكان. بالإضافة إلى ذلك تعرض قطاع النفط والغاز، الذي كان يمثل حوالي ربع إيرادات الحكومة، لضربات موجعة، وانخفض إنتاج حقول النفط التي تسيطر قسد على معظمها من 383 ألف برميل يوميًّا في 2011 إلى نحو 40 ألف برميل يوميًّا في 2023. وحدث الأمر نفسه مع القطاع الرئيسي الثاني، الزراعة، والتي شكلت قبل الحرب 20 – 25٪من الناتج المحلي الإجمالي، إذ كانت سوريا مكتفية ذاتياً في القمح، وتصدّر القطن.

ستستمر جهود الإدارة السورية الجديدة لرفع العقوبات، لتمكين الجهات الراغبة في الاستثمار في البلاد. ورغم تخفيف بعض العقوبات واحتمال تقديم المجتمع الدولي وبعض القوى الإقليمية دعماً مالياً فسيبقى هذا الدعم محدوداً، وستظل سوريا بحاجة إلى إعادة بناء مواردها الخاصة من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز القطاعات الإنتاجية، واستعادة مواردها الطبيعية، وعلى رأسها النفط، وهي أمور غير ممكنة تحت العقوبات. ومن المرجح أن تستخدم إدارة ترامب العقوبات لابتزاز الدولة الجديدة.

رغم التحديات الهائلة؛ توفر البيئة الجديدة بعد سقوط الأسد فرصاً استثمارية. إذ تمتلك سوريا نقاط قوة اقتصادية يمكن الارتكاز عليها، مثل المساحات الزراعية الخصبة التي تمثل نحو 32% من سوريا، والموارد البشرية الشابة، والموقع الجغرافي الاستراتيجي الذي يشكل عقدة مواصلات تجارية مهمة بحرية وبرية، إضافة إلى التراث الثقافي والآثار التاريخية المشجعة لقطاع السياحة.

يمكن لقطاع الطاقة في سوريا المساهمة في عملية بناء الاقتصاد من جديد، فهناك احتياطات نفطية مؤكدة تُقدر بنحو 2.5 مليار برميل. وتمتلك سوريا ثروات وكنوزا طبيعية هائلة، منها الفوسفات، ومناجم الفحم الحجري في دير الزور، ومناجم الذهب في الشمال، وجبالاً من الرخام والغرانيت الأجود عالمياً. كما تشتهر بزراعة القطن والقمح عالي الجودة عالمياً، إلى جانب كونها من أبرز الدول في إنتاج زيت الزيتون، وزراعة وتصدير الحمضيات والخضروات.

بالإضافة لمسألة رفع العقوبات، فإن إعادة بناء الاقتصاد يتطلب تحقيق مستوى معقول من الاستقرار الأمني، وإعادة بناء مؤسسات الدولة وتطويرها، وإحداث بنية تشريعية جديدة لتنظيم أنشطة الاستثمار والتجارة والحد من الفساد. ولا شك أن الاستقرار السياسي والتوصل لحكومة انتقالية معترف بها يمثل نقطة انطلاق ضرورية للتأكيد على مصداقية القرارات والتشريعات والاتفاقيات وعدم خضوعها لتقلبات مفاجئة. وهي كلها متطلبات ما زال من غير المؤكد طول المدى الزمني الذي تتطلبه في ظل التحديات الداخلية والخارجية المشار إليها في البنود السابقة.

استشراف حالة الدولة

  • سيظل المشهد السياسي في سوريا ضبابياً في الأشهر القادمة، وسط بيئة معقدة من مجموعات تسعى لضمان موقعها في النظام الجديد. فمن المتوقع أن يصطدم مؤتمر الحوار الوطني بتواضع الثقة، واستعجال المحاصصة، وتعارض المصالح الخارجية. وسوف يعتمد نجاحه على مدى مرونة الإدارة السورية.
  • في الأجل القصير؛ لا يمكن التقليل من مخاوف "الثورة المضادة"، لكن يحد نسبيا من خطورتها التدهور الحاد في مؤسسات نظام الأسد، كما أن انتصار الثورة عسكريا يجعل جهود التصدي لفلول النظام أكثر حسما وسرعة. ومن المرجح أن نشهد احتجاجات اقتصادية وسياسية ستشكل تحديا أمنيا للإدارة الجديدة.
  • ستكون السياسة الخارجية للنظام الجديد عموما ذات طابع انكفائي يتجنب العداء والتصعيد مع الأطراف الخارجية، ويبتعد عن صراعات المحاور. وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية ضرورية لتجنب النظام الجديد مخاطر الاستهداف الخارجي، إلا إنها أيضا لا تخلو من تحديات.
  • أظهر أحمد الشرع ميله للتوجه غربا، بما يمثل إعادة ضبط تاريخي للدولة السورية في المعادلة الجيوسياسية الدولية. وستكون الأولوية لإعادة بناء العلاقات مع واشنطن وأطراف إقليمية، بما يخدم ضرورة رفع العقوبات وإطلاق جهود إعادة الإعمار وإصلاح الاقتصاد. كما أن التهديدات الجيوسياسية تجعل الشراكة الأمنية والدفاعية مع تركيا ضرورة، مع الإبقاء على هامش مناورة بين المصالح الأمريكية والروسية. 
  • يمثل التغيير في سوريا كابوسا أمنيا للاحتلال الإسرائيلي؛ إذ لا تتوفر ضمانات إزاء طبيعة النظام الجديد في المدى الطويل، كما أن احتمالات الوجود العسكري التركي في سوريا يمثل تحولا في البيئة الاستراتيجية للاحتلال. ومن المرجح أن يتمسك الاحتلال في 2025 بالتواجد في منطقة عازلة، وقد يعمل بشكل استراتيجي على تعزيز نفوذه في الجنوب السوري بالقدرات الاستخباراتية، وعبر دعم فصائل محلية سورية.
  • تتبنى دمشق استراتيجية عربية تقوم على بناء علاقات مميزة، وتجنب الصدام والاستقطاب. وبينما سنشهد توجهاً لتوثيق العلاقات مع السعودية، ومواصلة التعاون مع قطر، والاهتمام بالعراق والأردن ولبنان كدول جوار، فيظل من المرجح استمرار موقف الإمارات ومصر الذي يخيم عليه مزيج من التوجس والعداء.
  • تركت سنوات الحرب أثراً عميقاً على البنية التحتية في قطاعات الكهرباء والمياه والنقل، كما تضررت قطاعات الاقتصاد الحيوية خاصة النفط والزراعة. ورغم التحديات الهائلة، تملك سوريا نقاط قوة وفرصا اقتصادية يمكن الارتكاز عليها. وبالإضافة لرفع العقوبات، فإن إعادة بناء الاقتصاد يتطلب تحقيق مستوى معقول من الاستقرار الأمني، وإعادة بناء مؤسسات الحكم، وإحداث بنية تشريعية لتنظيم أنشطة الاستثمار والتجارة والحد من الفساد، وهي أمور تتطلب استقرارا سياسيا وحكومة تحظى بشرعية كافية.
تحميل المزيد