في الرابع من ديسمبر/كانون الأول 2023، وقف وزير "الدفاع" الإسرائيلي يوآف غالانت على التخوم الشرقية لقطاع غزة، وتحديداً تلك المطلة على حي الشجاعية الواقع شمال شرق القطاع، وقال في محاولة لرفع معنويات جنوده المقبلين على معركة قاسية يعلمها جيداً: "مقاتلو جولاني يعودون إلى هنا (إلى الشجاعية) لإغلاق الدائرة ولن يغادروا قبل تدمير البنية التحتية الإرهابية".
كان غالانت يقصد بـ"إغلاق الدائرة"، تلك الهزيمة القاسية التي مُنيت بها قوات "جولاني"، اللواء الذي يُعرف بأنه رقم 1 في "إسرائيل"، وأحد ألوية المشاة التي تسمى بـ"نخبة النخبة"٬ في عام 2014.
ففي فجر الأحد 20 يوليو/تموز 2014 وخلال معركة "العصف المأكول" بين المقاومة وجيش الاحتلال في القطاع، وقعت قوة من "لواء جولاني" في كمين محكم وصف بالأسوأ في تاريخ الجيش الإسرائيلي، حوّلت فيه كتائب القسام 16 جندياً وضابطاً إلى أشلاء، وتم أسر أحدهم، ولا يزال محتجزاً لدى الكتائب حتى يوم، ولم يُعرف بعد هل هو من الأحياء أم الأموات.
لكن يبدو أن غالانت وقوات جولاني لم يتعلموا الدرس جيداً من معركة 2014، حيث اعترف الجيش الإسرائيلي فجر الأربعاء 13 من ديسمبر 2023، بمقتل 10 جنود وضباط إسرائيليين من بينهم عقيد، وقائد فرقة في حي الشجاعية، بعد كمين مزدوج ومحكم أوقعتهم به كتائب القسام، ليوصف هذا الحادث بـ"الكارثي"، وأحد أسوأ المعارك التي وقعت منذ بدء الحرب على غزة بعيد انطلاق معركة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023.
"جحيم الشجاعية" كما يرويه قائد كتيبة في لواء جولاني
يقول العقيد "إيريز كاباتس"، الذي كان قائد كتيبة 13 في لواء جولاني خلال معركة "العصف المأكول" 2014، وهو من أوعز بدخول القوة الإسرائيلية إلى "فخ الموت" كما أسماه في حي الشجاعية: "لا تزال تدوّي في رأسي أصوات الحرب، وما زلت أتخيل ساحة المعركة أمامي طوال الوقت، ما زلت أسمع الصراخ والنداءات والانفجارات".
ويصف كاباتس ما حدث في تلك الليلة للقناة العبرية 12 خلال مقابلة نشرت في نوفمبر 2022: "أنا ببساطة ما زلت أرى المعركة في الشجاعية أمام عيني مباشرة وعيناي مفتوحتان، يمكنني سماع الانفجارات، والصواريخ المضادة، ونيران المدافع الرشاشة أسمعها طوال الوقت – لا أنام جيداً في الليل. يومها عبرنا السياج الحدودي نحو الشجاعية، وفي غضون ثوانٍ قليلة أُصيب ضابط تحت إمرتي بجروح خطيرة".
ويضيف: "كان لدينا طاقم دبابة آخر انقلبت دبابته بعبوة ناسفة، وتم إطلاق النار علينا من جميع الاتجاهات باستخدام الهاون، والصواريخ المضادة، وأسلحة القناصة. وفي أقل من 20 دقيقة كان أول شيء أراه أمام عيني هو عربة مدرعة محترقة، سرت باتجاهها وعند مدخلها رأيت صورة لا أرغب في أن يراها أحد، لجنود من لواء جولاني محترقين، هذه الصورة عالقة في رأسي حتى يومنا هذا".
وصفت القناة 12 تلك الليلة التي عاشتها الكتيبة في حي الشجاعية بغزة بـ"الليلة السوداء"، معتبرةً تلك المعركة من أصعب معارك الحرب التي خاضها الجيش الإسرائيلي. حيث قُتل في تلك المعركة 16 جندياً إسرائيلياً اعترف جيش الاحتلال بمقتل 11 منهم في البداية٬ليعترف الجيش بعد قترة بمقتل 16 جندياً وضابطاً٬ وإصابة آخرين كان من بينهم قائد لواء جولاني نفسه حينها "غسان عليان" الذي تركت المقاومة ندوباً في وجهه.
وتمكنت كتائب القسام في تلك العملية الملحمية من أسر الجندي "شاؤول آرون" صاحب الرقم "6092065"، الذي أعلن اسمه أول مرة أبوعبيدة الناطق باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام بعد نفي متكرر من قبل الاحتلال بوقوع عملية الأسر٬ ليقر الاحتلال لاحقاً بأسر آرون٬ والزعم أن المقاومة أسرت جثته ولم يعد من الأحياء.
أبعاد تلك الليلة السوداء لم تتوقف عندها، حيث أقدم أحد جنود الكتيبة الذين نجوا من "جحيم الشجاعية" على إحراق نفسه في 12 أبريل/نيسان 2021 أمام مكاتب التأهيل التابعة لوزارة الجيش في "بتاح تكفا" شرق تل أبيب. وهو الجندي "يتسيك سعيديان" المصنف كمعاق نفسياً. وذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" حينها، أن الجندي كان يعاني منذ معركة الشجاعية من أزمة نفسية خطيرة للغاية، ويعيش على الأدوية المهدئة، كحال العشرات من الجنود ممن شاركوا في تلك المعارك.
في عام 2020 نشرت قناة "كان 11" العبرية فيلماً وثائقياً اسمه "جحيم الشجاعية"، يروي فيه بعض الجنود الذين نجوا من تلك المعارك شهاداتهم بحزن وخوف وبكاء، حول ما حصل في الشجاعية، حيث قالوا إنهم لم يكونوا يدركون حجم الجحيم الذي كان ينتظرهم في الشجاعية، وأن الحرب لم تكن الخيار الصحيح للتعامل مع غزة.
تاريخ الشجاعية النضالي.. شراسة حُفرت عميقاً في أذهان الجيش الإسرائيلي
في تاريخ الصراع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، كان لحي الشجاعية دور كبير أثناء معارك حرب 1967، وشهد انطلاق شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987. ففي أكتوبر/تشرين الأول 1987، تحوّل الحي لساحة مواجهات مسلحة بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال، وأسفرت الاشتباكات آنذاك عن مقتل ضابط إسرائيلي واستشهاد 4 من رجال المقاومة؛ حيث يطلق على هذا اليوم اسم "معركة الشجاعية".
خلال فترة الانتفاضة الثانية، شهد حي الشجاعية اشتباكات ومعارك عنيفة مع قوات الاحتلال خلال اقتحاماتها لأحياء ومخيمات القطاع، وكان عرضة لسلسلة مجازر ارتكبها جيش الاحتلال، أبرزها مجزرة وقعت 1 مايو/أيار 2003، إثر تسلل قوات إسرائيلية للحي بآليات مصفحة، بينها 100 دبابة وبغطاء من الطائرات الحربية.
حيث شهد الحي في ذلك اليوم على بطولة القادة الميدانيين، الأشقاء الثلاثة في كتائب القسام من عائلة أبو هين، وهم يوسف ومحمود وأيمن أبو هين، الذين امتشقوا أسلحتهم الرشاشة وقنابلهم اليدوية وتحزموا بالأحزمة الناسفة في 1 مايو/أيار 2003، بعد اكتشافهم تسلل قوات إسرائيلية للحي، وأوقعوا تلك القوة بين قتيل وجريح، قبل أن يستشهدوا جميعاً في معركة استمرت 16 ساعة استخدم فيها جيش الاحتلال الدبابات وطائرات الأباتشي والقذائف بكثافة صوب المنزل الذي كان يتحصن به هؤلاء المقاومين.
أسفرت هذه المجزرة عن استشهاد 13 مواطناً وإصابة واعتقال العشرات، بالإضافة لاستشهاد بعض مقاتلي الكتائب.
ونفذ جيش الاحتلال مجزرة أخرى في الشجاعية فجر 11 فبراير/شباط 2004، خلّفت 15 شهيداً و44 مصاباً، من بينهم 20 طفلاً وفتى دون سن الـ18.
وكان الحي هدفاً للغارات الجوية المتكررة ومنطقة اشتباكات مكثفة بين المقاومة وقوات الاحتلال خلال الاجتياح البري، في عدوان الاحتلال على القطاع خلال 2008 و2009، وأيضاً أثناء العدوان على القطاع عام 2014.
ففي عام 2014 وبعد تلك الملحمة التي سطَّرها مقاتلو القسام ضد قوات لواء جولاني، تعرض حي الشجاعية لمجزرة راح ضحيتها أكثر من 75 شهيداً، ومئات المصابين معظمهم من النساء والأطفال، بالإضافة لإبادة عائلات بأكملها، وذلك بعد قصف عشوائي بأكثر من 100 قذيفة إسرائيلية استهدف منازل بالحي، وتسبب بانتشار جثث وأشلاء الشهداء في الشوارع وتحت الركام.
مصنع قيادات المقاومة الفلسطينية
هذه الصلابة التي صنعتها بطولات الحي، أخرجت منه العديد من قيادات العمل الفلسطيني المقاوم على مدار عقود من مختلف الفصائل؛ حيث كان الحي مقراً تاريخياً لانطلاقة أغلب الفصائل، إذ شهد البدايات الأولى لمنظمة التحرير الفلسطينية، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وكذلك حركتا حماس والجهاد الإسلامي في عام 1987.
ومن أبرز قادة القسام أبناء حي الشجاعية الشهيد أحمد الجعبري، نائب القائد العام للكتائب، الذي اُغتيل بقصف إسرائيلي في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 وكان من أبرز المطلوبين لجيش الاحتلال لعقود وكان يطلق عليه "رئيس أركان حركة حماس". ويشهد له تطوير الكتائب بشكل نوعي ووضع نظام عسكري متين لها٬ إضافة لإشرافه على العديد من العمليات ضد الاحتلال.
كما أخرج الحي قادة ميدانين بارزين مثل الشهيد نضال فرحات مسؤول التصنيع العسكري في كتائب القسام الذي يسمى رجل "الطائرة والصاروخ" نسبةً إلى بصماته الأولى في تصنيع صواريخ القسام والطائرات المسيرة. كما تعد والدة الشهيد نضال، مريم فرحات، الملقبة بـ"خنساء فلسطين"، والتي قدمت 3 من أبنائها شهداء، أبرز وجوه الحي.
وابن "خنساء فلسطين" أيضاً وشقيق الشهداء الذي التحق بهم في معركة طوفان الأقصى بعد اغتياله في قصف للاحتلال، هو قائد كتيبة الشجاعية منذ عام 2010، وسام فرحات "أبو حسين"، الذي قاد المعارك الضارية مع جيش الاحتلال، في معركة "العصف المأكول" عام 2014 ويعده الاحتلال من أبرز المطلوبين لديه. والذي ثأر له جنده في مقطع فيديو نشرته كتائب القسام في السادس من ديسمبر 2023، يظهر أحد المقاتلين وخلفه دبابة ميركافا تحترق في حي الشجاعية، وكان يردد: "هي الجنود فحّموا جوا، لعيون أبو حسين فرحات".
كذلك يبرز من أسماء قادة المقاومة في الشجاعية، الشهيد بهاء أبو العطا، القيادي العسكري والميداني في سرايا القدس الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة. الذي اغتِيلَ مع زوجته جرّاء قصفٍ صاروخي إسرائيلي لمنزلهِ في حي الشجاعية صبيحة الثاني عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2019.
تاريخ حي الشجاعية الحافل بالمعارك منذ عهد صلاح الدين الأيوبي وسبب تسميته
يعد حي الشجاعية واحداً من أكبر أحياء مدينة غزة ومن أكثرها اكتظاظاً، ويسمى في أدبيات المقاومة الفلسطينية "الحارس الشرقي لقطاع غزة"، ويوصف سكانه أيضاً بالصلابة وحتى "العناد"، وهو ما يفسر تلك الشراسة في القتال والصمود أمام جيش الاحتلال طوال عقود.
حول التسمية، تقول المصادر إن الشجاعية بُنيت في عهد الأيوبيين، وسميت بهذا الاسم نسبةً إلى الجندي "شجاع الدين عثمان الكردي" الذي استشهد في إحدى المعارك التي تلت معركة "حطين" بين الأيوبيين والصليبيين عام 1239م.
وينقسم الحي الذي تبلغ مساحته 14 ألفاً و305 دونمات، إلى قسمين: جنوبي (حي التركمان) وشمالي (حي الأكراد)، ويقطنه نحو 100 ألف نسمة وفق إحصائيات بلدية غزة لعام 2013. ويمثل العرب أصل سكان الحي، ويعيش فيه إلى جانبهم تركمان وأكراد، الذين استقروا بالمنطقة قادمين من الموصل خلال فتوحات صلاح الدين الأيوبي.
يكتسب حي الشجاعية أهميته الاستراتيجية من وجود "تلة المنطار"، وهي تلة ترتفع بنحو 85م فوق مستوى سطح البحر، وتعتبر مفتاحاً لمدينة غزة. وقد عسكرت قوات نابليون بونابرت على هذه التلة، وقد قتل فيها آلاف من جنود الحلفاء أثناء الحرب العالمية الأولى، ودفنوا جميعاً في مقبرة "الحرب العالمية الأولى" الواقعة شمال الحي.
وأصبح لـ"تلة المنطار" مكانة ديمغرافية وهيبة لا يستهان بها، وعَلَم تلتف حوله جميع القبائل العربية في غزة، التي عززها القائد صلاح الدين الأيوبي بجنده من قبائل التركمان والأكراد الذين قاتلوا معه، وأقطعهم الأراضي الواقعة إلى الشرق من غزة، لتصبح تلك التلة النواة لتأسيس "حي الشجاعية" بقسميه "التركمان" و"جدَيْدة الأكراد" (تسمى الآن إلجديْدة). وكانت هذه القبائل تحتشد جميعاً بفرسانها يوم "موسم المنطار" الديني كل عام، كما يقول المؤرخون وروايات سكان الحي.
ويبدو أن بطولات ومعارك الشجاعية -التي كان لها من اسمها نصيب- لم تتوقف، بل يتوارثها أبناؤها جيلاً بعد جيل٬ منذ العهد الصلاحي وحتى اليوم، وهي تجبر من يفكر بدخولها أن يعيد حساباته كثيراً، وأن يقرأ تاريخ هذا الحي الصلب العنيد جيداً٬ قبل أن يقدم على خطوته تلك.