"تواجه الولايات المتحدة الآن تهديدات خطيرة لأمنها أكثر مما واجهته منذ عقود، وربما في أي وقت مضى". هذا ما قاله وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس (2006 حتى 2011) في مقالة مطوَّلة كتبها بمجلة foreign affairs الأمريكية مؤخراً؛ إذ يقول إنه لم يحدث من قبل قط أن واجهت أمريكا أربعة أعداء متحالفين في نفس الوقت: روسيا، والصين، وكوريا الشمالية، وإيران٬ الذين قد تصل ترسانتهم النووية الجماعية في غضون بضع سنوات إلى ضعف حجم ترسانتها النووية تقريباً.
لماذا تخشى أمريكا أن تفقد تركيزها عن الصين وروسيا نحو مكان آخر؟
في ظل تصاعد النفوذ الصيني وتراجع النفوذ الأمريكي عالمياً٬ وشن بوتين حرباً مدمرة في أوكرانيا أصبحت تراوح مكانها رغم الدعم الأمريكي والغربي طوال الأشهر الماضية٬ لا تريد واشنطن الغرق في أزمات أخرى حول العالم تبعد تركيزها عن أزماتها القومية الاستراتيجية مع كل من الصين وروسيا.
وعلى سبيل المثال٬ تدرك واشنطن أن ما حصل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول لدى حليفتها في المنطقة إسرائيل التي تعرضت لضربة قاسية من قِبل المقاومة الفلسطينية٬ يمثل لحظة مفصلية لسياستها في الشرق الأوسط وعلاقتها بحلفائها في المنطقة، فبالرغم من التحديات الاستراتيجية التي تواجهها أمريكا في أكثر من منطقة حول العالم ومواجهتها لكل من الصين وروسيا، ومع ذلك، فإن الشرق الأوسط سيتطلب من واشنطن الاهتمام والتركيز المستمرَّين وستتجه واشنطن إلى تعزيز تحركاتها في المنطقة في اتجاهين.
في الوقت نفسه٬ تريد واشنطن احتواء الصراع في الشرق الأوسط ومنع تحوله إلى حرب إقليمية واسعة، وذلك لتقليل خطر تورط القوات الأمريكية بشكل مباشر في القتال وما يمكن أن ينتج عنه من مخاطر تهدد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
وكان أحد الأهداف الرئيسية الواضحة وراء إرسال حاملة الطائرات الأكبر والأحدث في البحرية الأمريكية "يو إس إس جيرالد آر فورد" قبالة سواحل إسرائيل، وبعد فترة وجيزة إرسال حاملة الطائرات "يو إس إس دوايت دي أيزنهاور" إلى الخليج العربي؛ هو توجيه رسالة ردع قوية إلى إيران وحزب الله، والضغط عليهما لعدم التدخل وفتح جبهة أخرى مع إسرائيل في الشمال وتوسيع رقعة الصراع في الشرق الأوسط.
وتدرك واشنطن أن التهديدات التي تواجهها إسرائيل في وقت واحد على جبهات متعددة -غزة والضفة الغربية وحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن وسوريا وإيران- تقتضي الحفاظ على موقف رادع موثوق به على طول كل من هذه المحاور. وبمعنى أكثر دقة فإن أمريكا أرادت أن تعزز الردع الإسرائيلي بحيث يمثل سلسلة قوية ومتماسكة ينظر إليها بنفس القدر وفي نفس الوقت في طهران ودمشق وبيروت وغزة، إذ إن أي ضعف أو تمزق في حلقة واحدة من هذه السلسلة يمكن أن تكون له تداعيات واسعة النطاق.
وبالرغم أن أمريكا حريصة على ضبط النفس وعدم التورط في حرب واسعة في الشرق الأوسط وهو الأمر الذي يبدو بوضوح من الطريقة التي اتبعتها أمريكا في الرد على هجمات أذرع إيران على القوات الأمريكية في سوريا والعراق منذ اندلاع الحرب في غزة٬ فإن تسبب هجمات الأذرع الإيرانية في مقتل جنود أمريكيين أو زيادة الضربات الموجهة إلى إسرائيل بالشكل الذي يرهق الدفاعات الجوية الإسرائيلية يمكن أن يدفع أمريكا إلى مزيد من التصعيد مع إيران وأذرعها في المنطقة.
وتخشى واشنطن من تسريع انحدارها عالمياً وفقدانها لنفوذها القوي الذي استمر لعقود طويلة على العالم٬ وخصيصاً في الجنوب٬ في الوقت الذي تتقدم فيه الصين وروسيا وتكسب أصدقاء جدداً وتسحب البساط من تحت أقدام واشنطن٬ التي يرى البعض أنها فقدت الكثير من مصداقيتها حتى لدى أقرب حلفائها.
"أمريكا ونفوذها العالمي في خطر"
بالعودة إلى مقالة وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس، التي دقَّ فيها ناقوس الخطر حول الانحدار الأمريكي وتآكل نفوذ واشنطن عالمياً٬ فإنه يقول إنه منذ الحرب الكورية، لم تضطر الولايات المتحدة إلى مواجهة منافسين عسكريين أقوياء في كل من أوروبا وآسيا. ولا يستطيع أحد على قيد الحياة أن يتذكر الوقت الذي كان فيه الخصم يتمتع بنفس القدر من القوة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية التي تتمتع بها الصين اليوم.
لكن المشكلة بحسب غيتس -الذي شغل غير منصب وزارة الدفاع مناصب عديدة مرموقة في المؤسسة العسكرية والاستخباراتية الأمريكية٬ مثل إدارة وكالة الاستخبارات المركزية- هي أنه في نفس اللحظة التي تتطلب فيها الأحداث استجابة قوية ومتماسكة من الولايات المتحدة، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع تقديم مثل هذه الاستجابة.
فقد فشلت قيادتها السياسية المنقسمة بين نزاعات الجمهوريين والديمقراطيين، في البيت الأبيض والكونغرس٬ في إقناع عدد كافٍ من الأمريكيين بأن التطورات في الصين وروسيا مهمة. وقد فشل الزعماء السياسيون في شرح كيفية ترابط التهديدات التي تفرضها هذه البلدان. لقد فشلوا في صياغة استراتيجية طويلة المدى لضمان سيادة الولايات المتحدة والقيم الديمقراطية على نطاق أوسع.
ويحدد غيتس الخطورة الكبيرة على مكانة الولايات المتحدة ونفوذها في صعود الصين وتهديد روسيا٬ قائلاً إن هناك الكثير من القواسم المشتركة بين الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكن تبرز قناعتان مشتركتان؛ أولاً، كل منهما مقتنع بأن مصيره الشخصي هو استعادة أيام مجد الماضي الإمبراطوري لبلاده.
وبالنسبة لشي، فإن هذا يعني استعادة الدور المهيمن الذي كانت الصين الإمبراطورية ذات يوم في آسيا في حين تحمل طموحات أكبر للنفوذ العالمي. وبالنسبة لبوتين، فإن هذا يعني السعي إلى مزيج غريب من إحياء الإمبراطورية الروسية واستعادة الاحترام الذي كان يحظى به الاتحاد السوفييتي.
ثانياً، كلا الزعيمين مقتنع بأن الديمقراطيات الليبرالية المتقدمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، قد تجاوزت ذروة نشاطها ودخلت في مرحلة انحدار تاريخي لا رجعة فيه. وهم يعتقدون أن هذا الانحدار واضح في الانعزالية المتنامية في هذه الديمقراطيات، والاستقطاب السياسي، والفوضى الداخلية.
وإذا نظرنا إلى قناعات شي وبوتين مجتمعة، فإنها تنذر بفترة خطيرة مقبلة بالنسبة للولايات المتحدة. والمشكلة لا تكمن في القوة العسكرية والعدوانية التي تتمتع بها الصين وروسيا فحسب. والأمر الخطير أيضاً أن كلا الزعيمين ارتكبا بالفعل حسابات خاطئة كبيرة في الداخل والخارج، ويبدو من المرجح أن يرتكبا أخطاء أكبر في المستقبل٬ ومن الممكن أن تؤدي قراراتهما إلى عواقب كارثية عليهما وعلى الولايات المتحدة٬ كما يقول غيتس.
واشنطن تفتقد لرؤية استراتيجية
لذلك٬ يقول وزير الدفاع الأمريكي إنه يتعين على واشنطن أن تغير حساباتها الحالية وحسابات شي وبوتين، وأن تقلل من فرص وقوع الكارثة، وهو الجهد الذي يتطلب رؤية استراتيجية وعملاً جريئاً. لقد انتصرت الولايات المتحدة في الحرب الباردة بفضل استراتيجية متسقة اتبعها كلا الحزبين السياسيين من خلال تسع رئاسات متتالية. وهي تحتاج اليوم إلى نهج مماثل من الحزبين٬ وهنا تكمن المشكلة.
تجد الولايات المتحدة نفسها في موقف "غادر" فريد من نوعه: فهي تواجه خصوماً عدوانيين لديهم ميل إلى التحدي و"سوء التقدير"، لكنهم غير قادرين على حشد الوحدة والقوة اللازمة لثنيهم عن ذلك. ويعتمد النجاح في ردع قادة مثل شي وبوتين على يقين الالتزامات وثبات الاستجابة. وبدلاً من ذلك، أدى الخلل الوظيفي إلى جعل القوة الأمريكية غير منتظمة وغير موثوقة، مما دعا عملياً خصومها إلى وضع رهانات خطيرة٬ مع آثار كارثية محتملة.
إن دعوة شي إلى "التجديد العظيم للأمة الصينية" هي اختصار لكي تصبح الصين القوة العالمية المهيمنة بحلول عام 2049، وهو الذكرى المئوية لانتصار الشيوعيين في الحرب الأهلية الصينية. ويتضمن هذا الهدف إعادة تايوان إلى سيطرة بكين. وعلى حد تعبيره: "يجب أن يتحقق التوحيد الكامل للوطن الأم، وسوف يتحقق".
ولتحقيق هذه الغاية، أصدر شي تعليماته إلى المؤسسة العسكرية الصينية بأن تكون جاهزة بحلول عام 2027 لغزو تايوان بنجاح، كما تعهد بتحديث المؤسسة العسكرية الصينية بحلول عام 2035 وتحويلها إلى قوة "من الطراز العالمي".
ويبدو أن شي يعتقد أنه لن يتمكن من تأمين مكانة مماثلة لمكانة ماو تسي تونغ لنفسه في معبد أساطير الحزب الشيوعي الصيني إلا من خلال السيطرة على تايوان.
ويقول غيتس إن تطلعات شي وإحساسه بمصيره الشخصي تنطوي على خطر كبير للحرب. وكما تصرف بوتين في خططه تجاه أوكرانيا، فهناك خطر كبير من أن يفعل شي نفس الشيء في تايوان.
وإذا اعتمدت الصين على تدابير لا تصل إلى مستوى الحرب للضغط على تايوان لحملها على الاستسلام بشكل استباقي، فمن المرجح أن تفشل هذه الجهود. وبالتالي فإن شي سيُترك أمام خيار المجازفة بالحرب من خلال فرض حصار بحري واسع النطاق أو حتى شن غزو شامل للاستيلاء على الجزيرة. وربما يتصور أنه سيحقق مصيره بالمحاولة، ولكن سواء فاز أو خسر، فإن التكاليف الاقتصادية والعسكرية المترتبة على استفزاز حرب على تايوان ستكون كارثية بالنسبة للصين، ناهيك عن كل الأطراف المعنية الأخرى.
تحديات هائلة تفرض على الولايات المتحدة الأمريكية
على الرغم من حسابات شي والصعوبات الداخلية العديدة التي تواجهها بلاده، فإن الصين سوف تستمر في فرض تحدٍّ هائل للولايات المتحدة. وجيشها أقوى من أي وقت مضى. وتمتلك الصين الآن سفناً حربية أكثر من الولايات المتحدة. فقد قامت بتحديث وإعادة هيكلة قواتها التقليدية والبحرية وقواتها النووية -وتضاعف قواتها النووية الاستراتيجية المنتشرة تقريباً- وقامت بتحديث نظام القيادة والسيطرة لديها. وهي بصدد تعزيز قدراتها في الفضاء والفضاء الإلكتروني أيضاً.
وبعيداً عن تحركاتها العسكرية، اتبعت الصين استراتيجية شاملة تهدف إلى زيادة قوتها ونفوذها على مستوى العالم. وتعد الصين الآن الشريك التجاري الأول لأكثر من 120 دولة، بما في ذلك جميع دول أمريكا الجنوبية تقريباً. وقد قامت أكثر من 140 دولة بالتسجيل كمشاركين في مبادرة الحزام والطريق، البرنامج الصيني المترامي الأطراف لتطوير البنية التحتية، وتمتلك الصين الآن، أو تدير، أو تستثمر في أكثر من 100 ميناء في حوالي 60 دولة.
وتكتمل هذه العلاقات الاقتصادية المتوسعة بشبكة دعائية وإعلامية منتشرة. لا يوجد بلد على وجه الأرض بعيد عن متناول محطة إذاعية أو قناة تلفزيونية أو موقع إخباري صيني واحد على الأقل؛ حيث تهاجم بكين الإجراءات والدوافع الأمريكية، وتقوض الثقة في المؤسسات الدولية التي أنشأتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وتعلن عن التفوق المفترض لنموذجها التنموي والحكمي – كل ذلك مع الترويج لموضوع الانحدار الغربي.
روسيا تريد استعادة مكانتها كإمبراطورية عظمى
ذات يوم، قال زبيغنيو بريجنسكي، عالم السياسة ومستشار الأمن القومي الأمريكي السابق: "بدون أوكرانيا، تتوقف روسيا عن كونها إمبراطورية" . ومن المؤكد أن بوتين يشاركه هذا الرأي. وفي سعيه وراء إمبراطورية روسيا٬ غزا أوكرانيا في عام 2014 ومرة أخرى في عام 2022.
ورغم العقوبات الغربية والدعم العسكري الكبير لأوكرانيا٬ ظلت روسيا خاضعة لعقوبات استثنائية من جانب كافة الديمقراطيات المتقدمة تقريباً. فقد سحبت شركات غربية لا حصر لها استثماراتها وتخلت عن البلاد، بما في ذلك شركات النفط والغاز التي تعتبر تقنياتها ضرورية لدعم المصدر الرئيسي للدخل في روسيا. وفرَّ الآلاف من خبراء التكنولوجيا ورجال الأعمال الشباب. وبغزو أوكرانيا، رهن بوتين مستقبل بلاده.
أما بالنسبة للجيش الروسي، فرغم أن الحرب أدت إلى تدهور قواتها التقليدية بشكل كبير، فإن موسكو تحتفظ بأكبر ترسانة نووية في العالم. وبفضل اتفاقيات الحد من الأسلحة، لا تتضمن هذه الترسانة سوى عدد قليل من الأسلحة النووية الاستراتيجية المنتشرة أكثر مما تمتلكه الولايات المتحدة. لكن روسيا تمتلك عشرة أضعاف الأسلحة النووية التكتيكية – حوالي 1900.
وعلى الرغم من هذه الترسانة النووية الضخمة، فإن التوقعات بالنسبة لبوتين تبدو قاتمة. ومع تبدد آماله في غزو سريع لأوكرانيا، يبدو أنه يعتمد على مأزق عسكري صعب لإرهاق الأوكرانيين والغربيين، ويراهن على أنه بحلول الربيع أو الصيف المقبل، سوف يتعب عامة الناس في أوروبا والولايات المتحدة من دعمهم. وكبديل مؤقت لأوكرانيا التي تم غزوها، ربما يكون على استعداد للنظر في أوكرانيا المشلولة – دولة هشة تقع في حالة خراب، وانخفضت صادراتها وتقلصت مساعداتها الخارجية بشكل كبير.
وطالما ظل بوتين في السلطة، فسوف تظل روسيا خصماً للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. ومن خلال مبيعات الأسلحة، والمساعدة الأمنية، وأسعار النفط والغاز المخفضة، يعمل بوتين على تنمية علاقات جديدة في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا.
وسوف يستمر بوتين في استخدام كل الوسائل المتاحة له لزرع بذور الانقسام في الولايات المتحدة وأوروبا وتقويض نفوذ الولايات المتحدة في الجنوب العالمي. وبفضل شراكته مع الزعيم الصيني شي جين بينغ، وثقته في أن ترسانته النووية الحديثة سوف تردع أي عمل عسكري ضد روسيا، فسوف يستمر في تحدي الولايات المتحدة بقوة.
"أمريكا ضعيفة"
ولكن من المؤسف أن الخلل السياسي في الولايات المتحدة وإخفاقاتها السياسية يقوّضون نجاحها؛ إذ يتعرض الاقتصاد الأمريكي للتهديد بسبب الإنفاق الحكومي الفيدرالي المُسرف، وقد فشل الساسة من كلا الحزبين في معالجة التكاليف المتصاعدة للاستحقاقات مثل الضمان الاجتماعي، والرعاية الصحية، والمساعدات الطبية.
وكانت المعارضة الدائمة لرفع سقف الدَّيْن سبباً في تقويض الثقة في الاقتصاد، ما أثار قلق المستثمرين بشأن ما قد يحدث إذا تخلفت واشنطن عن سداد ديونها بالفعل. (في شهر آب/أغسطس 2023، خفضت وكالة "فيتش" التصنيف الائتماني للولايات المتحدة، ما أدى إلى رفع تكاليف الاقتراض على الحكومة). وقد ظلت عملية المخصصات في الكونغرس معطلة لسنوات. لقد فشل المشرعون مراراً وتكراراً في سن مشاريع قوانين الاعتمادات الفردية، وأقروا قوانين شاملة ضخمة لم يقرأها أحد، وأجبروا الحكومة على الإغلاق. وطالما ظل بوتين في السلطة، فسوف تظل روسيا خصماً للولايات المتحدة.
على الصعيد الدبلوماسي، أدى ازدراء الرئيس السابق دونالد ترامب لحلفاء الولايات المتحدة، وولعه بالقادة المستبدين، واستعداده لزرع الشك حول التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها في الناتو، وسلوكه غير المنتظم بشكل عام، إلى تقويض مصداقية الولايات المتحدة واحترامها في جميع أنحاء العالم. ولكن بعد سبعة أشهر فقط من إدارة الرئيس جو بايدن، أدى انسحاب الولايات المتحدة المفاجئ والكارثي من أفغانستان إلى إلحاق المزيد من الضرر بثقة بقية العالم في واشنطن٬ كما يقول وزير الدفاع الأمريكي السابق غيتس.
تراجع النفوذ الأمريكي عالمياً
لسنوات، أهملت الدبلوماسية الأمريكية الجنوب العالمي، الجبهة المركزية للمنافسة غير العسكرية مع الصين وروسيا. ولقد تُركت مناصب سفراء الولايات المتحدة شاغرة بشكل غير متناسب في هذا الجزء من العالم. ابتداءً من عام 2022، وبعد سنوات من الإهمال، سارعت الولايات المتحدة إلى إحياء علاقاتها مع دول جزر المحيط الهادئ٬ ولكن فقط بعد أن استغلت الصين غياب واشنطن لتوقيع اتفاقيات أمنية واقتصادية مع هذه الدول. رغم أن المنافسة مع الصين وحتى روسيا على الأسواق والنفوذ عالمية٬ ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تتحمل الغياب في أي مكان.
ويدفع الجيش ثمن الخلل السياسي الأمريكي، ولا سيما في الكونغرس. ففي كل سنة -منذ سنة 2010- فشل الكونغرس في الموافقة على مشاريع قوانين المخصصات للجيش قبل بداية السنة المالية التالية. وبدلاً من ذلك، أصدر المشرعون قراراً مستمراً، والذي يسمح للبنتاغون بعدم إنفاق أموال أكثر مما أنفقه في السنة السابقة ويمنعه من البدء بأي شيء جديد أو زيادة الإنفاق على البرامج الحالية.
وتحكم هذه القرارات المستمرة الإنفاق الدفاعي حتى يتم إقرار مشروع قانون مخصصات جديد، وقد استمرت من بضعة أسابيع إلى سنة مالية كاملة. والنتيجة هي أنه في كل سنة، لا تؤدي البرامج والمبادرات الجديدة المبتكرة إلى أي نتيجة لفترة لا يمكن التنبؤ بها.
وقد وضع قانون مراقبة الميزانية لعام 2011 تخفيضات تلقائية في الإنفاق، والمعروفة باسم "الحجز"، وخفض الميزانية الفيدرالية بمقدار 1.2 تريليون دولار على مدى عشر سنوات. واضطر الجيش، الذي كان يمثل في ذلك الوقت نحو 15% فقط من النفقات الفيدرالية، إلى استيعاب نصف هذا التخفيض – 600 مليار دولار. ومع إعفاء تكاليف الموظفين، كان يجب أن يأتي الجزء الأكبر من التخفيضات من الصيانة والعمليات والتدريب وحسابات الاستثمار. وكانت العواقب وخيمة وطويلة الأمد.
ومع ذلك، اعتباراً من سبتمبر/أيلول 2023، يتجه الكونغرس نحو ارتكاب نفس الخطأ مرة أخرى. هناك مثال آخر على سماح الكونغرس للسياسة بإلحاق ضرر حقيقي بالجيش، وهو السماح لأحد أعضاء مجلس الشيوخ بمنع تثبيت مئات من كبار الضباط لعدة أشهر متتالية، ليس فقط مما يؤدي إلى إضعاف الاستعداد والقيادة بشكل خطير ولكن أيضاً من خلال تسليط الضوء على الخلل الحكومي الأمريكي في مثل هذا المجال الحيوي٬ جعل الولايات المتحدة أضحوكة بين خصومها.
خلاصة القول، كما يقول غيتس٬ هو أن الولايات المتحدة تحتاج إلى المزيد من القوة العسكرية لمواجهة التهديدات التي تواجهها، ولكن الكونغرس والسلطة التنفيذية مليئة بالعقبات التي تحولُ دون تحقيق هذا الهدف.
"يجب أن يفهم الأمريكيون لماذا تشكل الزعامة العالمية الأمريكية أهمية بالغة"
يقول غيتس إن المنافسة الملحمية بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والصين وروسيا ورفاقهما من جهة أخرى تجري على قدم وساق. ولضمان أن تكون واشنطن في أقوى وضع ممكن لردع خصومها من ارتكاب المزيد من الحسابات الاستراتيجية المتهورة، يجب على قادة الولايات المتحدة أولاً معالجة انهيار الاتفاق الحزبي الذي دام عقوداً طويلة فيما يتعلق بدور الولايات المتحدة في العالم.
وليس من المستغرب، بحسب غيتس، أن يرغب العديد من الأمريكيين، بعد عشرين عاماً من الحرب في أفغانستان والعراق، في الانغلاق على الذات، وخاصة في ضوء المشاكل العديدة التي تواجهها الولايات المتحدة في الداخل. ولكن مهمة الزعماء السياسيين هي مواجهة هذه المشاعر وشرح كيف يرتبط مصير البلاد بشكل لا ينفصم بما يحدث في أماكن أخرى. ذات يوم، لاحظ الرئيس فرانكلين روزفلت أن "أعظم واجب على رجل الدولة هو التثقيف". ولكن الرؤساء الجدد، ومعهم أغلب أعضاء الكونغرس، فشلوا فشلاً ذريعاً في الاضطلاع بهذه المسؤولية الأساسية.
ويتعين على الأمريكيين أن يفهموا لماذا تشكل الزعامة العالمية الأمريكية، على الرغم من تكاليفها الباهظة، أهمية بالغة للحفاظ على المصالح الأمريكية ومكانة الولايات المتحدة عالمياً. ويتعين عليهم أن يعرفوا لماذا تشكل المقاومة الأوكرانية للغزو الروسي أهمية بالغة لردع الصين عن غزو تايوان. إنهم بحاجة إلى معرفة السبب الذي يجعل الهيمنة الصينية على غرب المحيط الهادئ تهدد مصالح الولايات المتحدة.
إنهم بحاجة إلى معرفة السبب وراء أهمية النفوذ الصيني والروسي في الجنوب العالمي بالنسبة للمحفظة الأمريكية. إنهم بحاجة إلى معرفة السبب وراء أهمية الاعتماد على الولايات المتحدة كحليف للحفاظ على السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. إنهم بحاجة إلى معرفة السبب وراء تهديد التحالف الصيني الروسي الإيراني للولايات المتحدة. هذه هي أنواع الروابط التي يحتاج القادة السياسيون الأمريكيون إلى رسمها كل يوم.
وبحسب غيتس٬ يتطلب الأمر الآن قرع جرس الإنذار حتى تترسخ الرسالة. فإلى جانب التواصل المنتظم مع الشعب الأمريكي بشكل مباشر، وليس من خلال المتحدثين الرسميين، يحتاج الرئيس إلى قضاء بعض الوقت في تناول المشروبات والعشاء وعقد اجتماعات صغيرة مع أعضاء الكونغرس ووسائل الإعلام لتبرير الدور القيادي للولايات المتحدة.. ثم، يحتاج أعضاء الكونغرس إلى حمل الرسالة إلى ناخبيهم في جميع أنحاء البلاد.
"لا يوجد شيء أكثر تكلفة من الحرب في حياة الأمة"
يضيف غيتس: ما هي تلك الرسالة؟ إن القيادة العالمية الأمريكية وفرت 75 عاماً من السلام بين القوى العظمى، وهي أطول فترة منذ قرون. ولا يوجد شيء أكثر تكلفة من الحرب في حياة الأمة، ولا شيء آخر يمثل تهديداً أكبر لأمنها وازدهارها. وليس هناك ما يجعل الحرب أكثر احتمالاً من وضع رأسنا في الرمال والتظاهر بأن الولايات المتحدة لا تتأثر بالأحداث في أماكن أخرى، كما تعلمت البلاد قبل الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.
إن القوة العسكرية التي تمتلكها الولايات المتحدة، والتحالفات التي أقامتها، والمؤسسات الدولية التي صممتها، كلها ضرورية لردع العدوان ضدها وضد شركائها. وكما ينبغي أن يوضح قرن من الأدلة، فإن الفشل في التعامل مع المعتدين لا يؤدي إلا إلى تشجيع المزيد من العدوان. ومن السذاجة الاعتقاد بأن النجاح الروسي في أوكرانيا لن يؤدي إلى المزيد من العدوان الروسي في أوروبا، بل وربما حتى إلى حرب بين حلف شمال الأطلسي وروسيا.
ومن السذاجة بنفس القدر الاعتقاد بأن النجاح الروسي في أوكرانيا لن يزيد بشكل كبير من احتمالات العدوان الصيني على تايوان، وبالتالي احتمال نشوب حرب بين الولايات المتحدة والصين.
يضيف غيتس: إن العالم الذي لا يتمتع بقيادة أمريكية جديرة بالثقة سوف يتحول إلى عالم من الحيوانات المفترسة الاستبدادية، حيث قد تصبح كل الدول الأخرى فريسة محتملة. وإذا كان لأمريكا أن تحمي شعبها وأمنها وحريتها، فيتعين عليها أن تستمر في الحفاظ على دورها القيادي العالمي. وكما قال رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل عن الولايات المتحدة في عام 1943: "إن ثمن العظمة هو المسؤولية".
في الوقت نفسه٬ فإن إعادة بناء الدعم في الداخل لهذه المسؤولية أمر ضروري لإعادة بناء الثقة بين الحلفاء والوعي بين الخصوم بأن الولايات المتحدة ستفي بالتزاماتها. وبسبب الانقسامات الداخلية، والرسائل المتضاربة، وتناقض الزعماء السياسيين بشأن الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في العالم، فقد أصبحت هناك شكوك كبيرة في الخارج بشأن موثوقية الولايات المتحدة.
"استعادة الدعم الشعبي لقيادة الولايات المتحدة للعالم يجب أن تكون أولوية قصوى"
ويتساءل كل من الأصدقاء والخصوم عما إذا كانت مشاركة بايدن وبناء التحالفات تمثل عودة إلى الوضع الطبيعي أو ما إذا كان ازدراء ترامب لشعار "أمريكا أولاً" للحلفاء سيكون الخيط المهيمن في السياسة الأمريكية في المستقبل. وحتى أقرب الحلفاء يتحوطون في رهاناتهم بشأن أمريكا. وفي عالم تتجول فيه روسيا والصين، فإن هذا أمر خطير بشكل خاص.
ويقول غيتس إن استعادة الدعم الشعبي للقيادة العالمية للولايات المتحدة تشكل الأولوية القصوى، ولكن يتعين على الولايات المتحدة أن تتخذ خطوات أخرى لممارسة هذا الدور فعلياً. أولاً، يتعين عليها أن تذهب إلى ما هو أبعد من "التمحور" نحو آسيا. إن تعزيز العلاقات مع أستراليا واليابان والفلبين وكوريا الجنوبية ودول أخرى في المنطقة أمر ضروري ولكنه غير كافٍ.
تعمل الصين وروسيا معاً ضد المصالح الأمريكية في كل قارة. تحتاج واشنطن إلى استراتيجية للتعامل مع العالم أجمع، وخاصة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، حيث يتفوق الروس والصينيون بسرعة على الولايات المتحدة في تطوير العلاقات الأمنية والاقتصادية. ولا ينبغي لهذه الاستراتيجية أن تقسم العالم إلى ديمقراطيات وأنظمة استبدادية. يتعين على الولايات المتحدة أن تدافع دائماً عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في كل مكان، لكن هذا الالتزام يجب ألا يعمي واشنطن عن حقيقة مفادها أن المصالح الوطنية للولايات المتحدة تتطلب منها في بعض الأحيان العمل مع حكومات قمعية وغير تمثيلية٬ بحسب غيتس.
ثانياً، يجب أن تتضمن استراتيجية الولايات المتحدة كافة أدوات قوتها الوطنية. فقد أصبح كل من الجمهوريين والديمقراطيين معادييْن للاتفاقيات التجارية، وأصبحت المشاعر الحمائية قوية في الكونغرس. وقد ترك هذا المجال مفتوحاً أمام الصينيين في الجنوب العالمي، الذي يقدم أسواقاً وفرصاً استثمارية ضخمة.
على الرغم من عيوب مبادرة الحزام والطريق، مثل الديون الهائلة التي تتراكم على البلدان المتلقية، فقد استخدمتها بكين بنجاح للتلميح إلى نفوذ الصين وشركاتها ومخالبها الاقتصادية في عشرات البلدان. ولن يختفي هذا الأمر المنصوص عليه في الدستور الصيني في عام 2017. ويتعين على الولايات المتحدة وحلفائها أن يتوصلوا إلى كيفية التنافس مع المبادرة بطرق تتناسب مع نقاط قوتهم، وقبل كل شيء، قطاعاتهم الخاصة.
إن الدبلوماسية العامة ضرورية لتعزيز المصالح الأمريكية، لكن واشنطن تركت أداة القوة المهمة هذه تذوي منذ نهاية الحرب الباردة. وفي الوقت نفسه، تنفق الصين مليارات الدولارات في جميع أنحاء العالم لتعزيز خطابها. وتبذل روسيا أيضاً جهوداً حثيثة لنشر دعايتها ومعلوماتها المضللة، فضلاً عن إثارة الفتنة داخل الديمقراطيات وفيما بينها.
وبحسب غيتس٬ فإن الولايات المتحدة تحتاج إلى استراتيجية للتأثير على القادة والشعوب الأجنبية، وخاصة في الجنوب العالمي. ولتحقيق النجاح في هذه الاستراتيجية فإن حكومة الولايات المتحدة تتطلب ليس فقط إنفاق المزيد من الأموال، بل أيضاً دمج ومزامنة العديد من أنشطة الاتصالات المتباينة. وتشكل المساعدة الأمنية للحكومات الأجنبية مجالاً آخر يحتاج إلى تغيير جذري.
"الخطر على أمريكا حقيقي"
يرى وزير الدفاع الأمريكي السابق أن الصين وروسيا تعتقدان أن المستقبل ملك لهما وليس لأمريكا. وعلى الرغم من كل الخطابات الصارمة القادمة من الكونغرس الأمريكي والسلطة التنفيذية حول التصدي لهؤلاء الخصوم، فمن المدهش أن التحركات كانت ضئيلة. وفي كثير من الأحيان، يتم الإعلان عن مبادرات جديدة، إلا أن التمويل والتنفيذ الفعلي يتحركان ببطء أو يفشلان في التنفيذ تماماً. فالكلام رخيص، ولا يبدو أن أحداً في واشنطن مستعد لإجراء التغييرات العاجلة المطلوبة.
وهذا أمر محيّر بشكل خاص، لأنه في وقت يتسم بالحزبية والاستقطاب المرير في واشنطن، تمكن شي وبوتين من حشد دعم الحزبين المثير للإعجاب، وإن كان هشاً، بين صناع السياسات لرد أمريكي قوي على عدوانهما٬ لدى السلطة التنفيذية والكونغرس فرصة نادرة للعمل معاً لدعم خطابهما حول مواجهة الصين وروسيا بإجراءات بعيدة المدى تجعل من الولايات المتحدة خصماً أكبر بكثير وقد تساعد في ردع الحرب.
في المستقبل المنظور؛ تظل هذه التهديدات الصينية والروسية وما تبعهما٬ تشكل خطراً يجب على الولايات المتحدة التعامل معه. وحتى في أفضل العوالم – العالم الذي تتمتع فيه حكومة الولايات المتحدة بجمهور داعم، وقادة نشِطين، واستراتيجية متماسكة ـ فإن هؤلاء الخصوم سيشكلون تحدياً هائلاً.
لكن المشهد الداخلي اليوم أبعد ما يكون عن النظام: فقد تحول الرأي العام الأمريكي إلى الداخل، وانحدر الكونغرس إلى المشاحنات والفظاظة وسياسة حافة الهاوية.
والرؤساء المتعاقبون إما أنكروا الدور العالمي الذي تلعبه أمريكا أو لم يقدموا تفسيراً جيداً له. وللتعامل مع مثل هؤلاء الخصوم الأقوياء المعرضين للمخاطر، تحتاج الولايات المتحدة إلى تعزيز لعبتها من كل الأطراف، وعندها فقط يمكنها أن تأمل في ردع شي وبوتين وحلفائهما عن القيام بالمزيد من الرهانات السيئة، فالخطر القادم من هؤلاء حقيقي.