لم تعترف إسرائيل أبداً بأن لديها أسلحة نووية، لكنها لم تنفِ ذلك أيضاً، يُعرف هذا الموقف الرسمي بالغموض النووي.
لكن هذا الغموض يبدو كأنه حقق الغرض منه إلى حد كبير، فقد تم زرع فكرة القنبلة النووية الإسرائيلية في العقول هنا وهناك وحول العالم.
كم رأساً نووياً تمتلك إسرائيل؟ تشير التقارير المتواترة إلى أنها تمتلك بين 80 و400 رأس نووي! هذه هي الإجابة "النموذجية" التي تظهر أمام أي سائل.
متى امتلكت إسرائيل أول قنبلة نووية؟ لا توجد معلومة مؤكدة على هذا السؤال، لكن ترجح بعض التقارير أن ذلك يرجع إلى عام 1967.
تساؤلات كثيرة تتعلق بالبرنامج النووي الإسرائيلي، أغلبها، إن لم تكن جميعها، لا توجد عليها إجابة واحدة مؤكدة، والسبب قد يكون واضحاً وهو سياسة "الغموض النووي" التي تنتهجها إسرائيل.
لكن تصريح وزير التراث في الحكومة الإسرائيلية، عميحاي إلياهو، يبدو كأنه قد كشف المستور وكسر سياسة "الغموض النووي"، فالرجل قال إن "توجيه ضربة نووية لغزة" هو أحد الخيارات المتاحة! فهل قرر إلياهو فجأة مخالفة سياسة "الغموض النووي"؟ أم أنها رسالة "تخويف"؟ كل شيء وارد.
لكن ربما يكون الشيء الوحيد المؤكد بشأن "البعبع النووي الإسرائيلي" هو ذلك الغموض الأسطوري الغريب المحيط بالقصة كلها منذ بدايتها وحتى تصريح الوزير إلياهو، ويرصد هذا التقرير أبرز تفاصيل تلك القصة، التي قد لا تختلف كثيراً عن أي من القصص أو بالأحرى "الأساطير" التي تغلف هذا الكيان المسمى إسرائيل.
متى بدأ الحديث عن نووي إسرائيل؟
بدأت قصة النووي الإسرائيلي مع قيام إسرائيل عام 1948 على أرض فلسطين، وكان أول رئيس وزراء لذلك الكيان (ديفيد بن غوريون) مهووساً بامتلاك الكيان الوليد لهذا السلاح الجهنمي، بعد سنوات قليلة من استخدام الولايات المتحدة له لحسم الحرب العالمية الثانية. كانت أمريكا قد ارتكبت تلك الجريمة بإسقاط أول قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما في أغسطس/ آب 1945، لتقتل ما بين 70 و80 ألف شخص على الفور، وتمحو 70% من مباني المدينة، ثم أتبعتها بقنبلة ثانية فوق مدينة ناجازاكي بعدها بأيام.
كان بن غوريون "مهووساً" بفكرة امتلاك إسرائيل القنبلة النووية، بحسب ما ورد في كتاب "إسرائيل والقنبلة"، وكان يرى أن ذلك هو الحل الجذري للمعضلة الأمنية التي يواجهها الكيان الذي تم زرعه في أرض فلسطين ليكون وطناً لبعض اليهود. وبما أن العلماء الذين اخترعوا هذا السلاح الجهنمي، من أينشتاين إلى أوبنهايمر وميلر، كانوا يهوداً، فقد رأى بن غوريون أنهم يمكن أن يفعلوا الشيء نفسه لإسرائيل.
لكن الأمر لم يكن بتلك السهولة، فالبرامج النووية تحتاج إلى إمكانات ضخمة، مالية وجغرافية وبشرية، لم تكن تمتلك إسرائيل منها شيئاً يُذكر بطبيعة الحال، وبالتالي ظل الأمر مجرد فكرة تداعب خيال بن غوريون حتى الفترة بين 1955 و1958، عندما أصبحت العلاقة بين فرنسا وإسرائيل علاقة خاصة وقوية للغاية.
تم تأسيس وكالة الطاقة الذرية الإسرائيلية في يونيو/حزيران 1952، برئاسة إرنست ديفيد بيرغمان، عالم الفيزياء الذي كان مقرباً من بن غوريون ومهووساً مثله بفكرة امتلاك قنبلة نووية، وكانت تلك الوكالة قبل تأسيسها رسمياً عبارة عن وحدة تابعة لجيش الاحتلال. وأجرت تلك الوحدة أبحاثاً جيولوجية مكثفة في صحراء النقب تحت غطاء التنقيب عن النفط، لكن أحد أهدافها الفعلية كان البحث عن اليورانيوم.
هناك كثير من التفاصيل الخاصة بتلك السنوات الأولى من عمر الكيان نفسه وفكرة امتلاك سلاح نووي، عند وضعها تحت مجهر الفحص والتدقيق. فهناك من يقول إن فريق البحث الإسرائيلي عثر بالفعل على كميات صغيرة من اليورانيوم في مناجم فوسفات في النقب، وهناك من يقول إن إسرائيل حصلت لاحقاً على اليورانيوم والبلوتونيوم وباقي مكونات القنبلة النووية من مصادر خارجية أبرزها بريطانيا وفرنسا ودول أخرى.
فعلى سبيل المثال في هذه النقطة، تذكر تقارير إعلامية غربية (منها BBC) أنه "بحلول عام 1953 بدأت عملية استخراج اليورانيوم الموجود في صحراء النقب وتم تطوير طريقة جديدة لإنتاج الماء الثقيل، مما وفر لإسرائيل قدرتها الخاصة على إنتاج بعض أهم العناصر الأساسية في هذا المجال".
لكن التقرير نفسه وجميع التقارير الأخرى تقول إنه "بدأت إسرائيل في تشييد مفاعل ديمونة أواخر الخمسينيات"، فهل يعني هذا أن إسرائيل بدأت في إنتاج العناصر الأساسية لتصنيع القنبلة (مثل إنتاج الماء الثقيل) قبل سنوات من البدء في تشييد المفاعل نفسه؟ ربما!
كيف لعبت فرنسا دور "البطولة"؟
على أية حال، كان امتلاك إسرائيل قنبلة نووية في ذلك الوقت المبكر من زرعها ككيان مستقل على أرض فلسطين فكرة محاطة بكم هائل من المعوقات، ليست فقط مادية وتقنية وبشرية وجغرافية، ولكن أيضاً سياسية. ففكرة امتلاك دولة في الشرق الأوسط سلاحاً نووياً كان أمراً مرفوضاً بشكل قاطع من القوتين الأعظم في ذلك التوقيت، أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، نظراً لأنها منطقة مشتعلة بالفعل من ناحية، ولأنها مقر للجانب الأكبر من حركة التجارة العالمية وأكبر احتياطيات النفط في العالم.
لم تكن الولايات المتحدة لتسمح لإسرائيل في ذلك الوقت بامتلاك قنبلة نووية لأسباب تخص حربها الباردة مع الاتحاد السوفييتي، وسعيها لتوسيع نفوذها حول العالم، ولم يكن من مصلحتها أن تدعم طموحات إسرائيل النووية حتى لا تشتعل المنطقة المضطربة أصلاً.
أما فرنسا، فقد كانت قصة مختلفة، وهكذا وجد بن غوريون ضالته هناك في باريس، التي أبرمت اتفاقاً مع إسرائيل نالت بموجبه الأخيرة مفاعل ديمونة.
صفقة حصول إسرائيل على مفاعل ديمونة جاءت في إطار أزمة قناة السويس المصرية عام 1956 بعد قرار تأميم القناة ورغبة فرنسا في استعادة سيطرتها على الشريان البحري الحيوي. اتفقت فرنسا وبريطانيا مع إسرائيل على مهاجمة القوات المصرية في غزة وشبه جزيرة سيناء لتكون ذريعة للقوتين الاستعماريتين لإرسال قوات إلى منطقة القناة.
ولمزيد من المعلومات الرجاء اضغط هنا