اقتحمت دبابات جيش الاحتلال مجمع الشفاء الطبي تحت مزاعم استخدامه مركزاً للقيادة من جانب حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، فماذا يقول القانون الإنساني الدولي عما تقترفه إسرائيل بحق المستشفيات؟
ومجمع الشفاء الطبي هو أكبر مستشفيات قطاع غزة، ويحتمي به آلاف النازحين من المدنيين، إضافة إلى آلاف المرضى والجرحى والطواقم الطبية، ويتعرّض للقصف منذ بدأت إسرائيل عدوانها على القطاع مع عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر؛ حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
استهداف إسرائيل المستشفيات في غزة
منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو عدوانها على قطاع غزة، كان واضحاً أن الهدف هو إنزال "عقاب جماعي" مزلزل بأهالي القطاع، البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة دون استثناءات. فرضت حصاراً مطبقاً شعاره "لا ماء ولا غذاء ولا كهرباء ولا وقود"، وشنّت حملة قصف عشوائي وهستيري أسقطت من خلالها آلاف الأطنان من القذائف والصواريخ براً وبحراً وجواً.
كانت المستشفيات وعربات الإسعاف والطواقم الطبية من الأهداف الرئيسية للاحتلال وعدوانه الغاشم، رغم أن هذه الاستهدافات تمثل "جرائم حرب" بنصوص القانون الإنساني الدولي، وبأي قانون آخر أخلاقي أو غيره. ففي الصراعات والحروب، تحظى الطواقم الطبية بالحماية، شأنها شأن الطواقم الصحفية التي تؤدي عملها في نقل حقائق ما يجري على أرض الصراع للعالم.
إذ قامت إسرائيل باستهداف عربات الإسعاف التي تحمل المصابين جراء القصف المستمر، ومع توغلها البري في القطاع بدأت في حصار واقتحام المستشفيات، وآخرها الشفاء. إذ اقتحمت مستشفى الرنتيسي قبل أيام، دون أن تقدم أي دليل يُذكر على مزاعمها بشأن وجود مراكز قيادة للمقاومة أو مقاومين يحتجزون أسرى، باستثناء صورة وحيدة لمتحدث باسم جيش الاحتلال وأمامه بعض الأسلحة، وهي الصورة التي شكك فيها وسخر منها حتى بعض المراسلين الأجانب الذين كانوا ينتظرون أن يطلعهم جيش الاحتلال على ما يدعم مزاعمه.
لكن حقيقة الأمر هنا هي أن إسرائيل، ومن خلفها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن وباقي الحلفاء الأوروبيين والغربيين، مهدت منذ البداية لجرائمها بحق الفلسطينيين من خلال شيطنتهم وترويج الأكاذيب والروايات الملفقة. بداية تم الترويج لروايات تدحضها الأدلة القاطعة بالصوت والصورة بشأن قتل المقاومين الفلسطينيين للأطفال الرضع وقطع رؤوسهم واغتصاب النساء، وهي الروايات التي رددها الإعلام الغربي وزعماء ما يوصف بالعالم الحر المتحضّر.
ومن المهم هنا إعادة التأكيد على أن ما تعرّضت له إسرائيل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول هو هزيمة عسكرية على مستوى غير مسبوق منذ 50 عاماً، باعتراف كثير من المراقبين والخبراء الإسرائيليين أنفسهم، كما أن "طوفان الأقصى" ليست فعلاً بل هي رد فعل على ما يرتكبه الاحتلال بحق الفلسطينيين في القدس والضفة المحتلتين، وقطاع غزة المحاصَر منذ أكثر من 16 عاماً، وبالتالي لم يأتِ هجوم المقاومة من فراغ، بنص تقرير لموقع Vox الإخباري الأمريكي، عنوانه "هجوم حماس لم يأتِ من فراغ".
ويُعد إعلان نتنياهو "حالة الحرب" للمرة الأولى منذ 50 عاماً مؤشراً على مدى عمق الصدمة التي سببها هجوم المقاومة، والذي كشف عن مدى هشاشة جيش الاحتلال ومؤسساته الأمنية، وانطلقت الجهود الإسرائيلية للتغطية على الفشل غير المسبوق على عدة محاور.
المحور الأول تمثل في "الانتقام" من قطاع غزة المحاصَر أصلاً منذ أكثر من 16 عاماً، وذلك عبر شن هجمات جوية عشوائية ومكثفة تستهدف مباني وأراضي وأسواقاً، ومنشآت بالقطاع الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم، وأعلن وزير الدفاع يوآف غالانت حصاراً كاملاً على القطاع "لا ماء ولا كهرباء ولا طعام"، وهي تصريحات ترقى إلى "جريمة حرب"، بحسب القوانين الدولية.
وبالتزامن مع هذا المحور الانتقامي، شنّت دولة الاحتلال حملة تضليل واسعة النطاق من خلال الزعم بأن المقاومين الفلسطينيين ارتكبوا "مذابح" بحق "المدنيين"، ووصلت إلى حد الزعم بأن المقاومين الفلسطينيين "قطعوا رؤوس الأطفال"، وهي الكذبة التي أطلقتها قناة i24 العبرية.
اللافت هنا هو أن وسائل إعلام غربية، منها صحف بريطانية مثل الصن والتايمز والإندبندنت وتليغراف وميل ومترو وأكسبريس وغيرها، نقلت هذا الزعم الإسرائيلي ووضعته في عناوين رئيسية "حماس تقتل 40 طفلاً"، دون أي دليل أو صورة أو مقطع فيديو أو حتى تأكيد رسمي من جانب جيش الاحتلال عندما طلبت ذلك منه مؤسسات إعلامية غربية أخرى، مثل قناة سكاي نيوز البريطانية، التي رفضت، على مدى 3 أيام، نشر القصة انتظاراً لرد من جيش الاحتلال.
الخلاصة هنا هي أن استهداف إسرائيل لمستشفيات غزة كانت ضمن مخططاتها منذ اللحظة الأولى وحتى تنفيذ اقتحام مستشفى الشفاء مساء الثلاثاء 14 نوفمبر/تشرين الثاني، بعد أكثر من أسبوعين من فرض حصار كامل على المجمع الطبي.
ماذا قالوا عن اقتحام مستشفى الشفاء؟
اقتحمت دبابات جيش الاحتلال بوابات مجمع الشفاء الطبي تحت جنح الليل، وزعم الجيش أنه ينفذ عملية ضد مقاومين من حركة حماس في المستشفى، وطالبهم جميعاً بالاستسلام، لكن لم تطلق رصاصة واحدة تجاه القوات التي اقتحمت المجمع، وهو ما يثير علامات الاستفهام بطبيعة الحال.
الدكتور منير البرش، مدير عام وزارة الصحة في غزة، قال لقناة الجزيرة إن القوات الإسرائيلية اقتحمت الجانب الغربي من المجمع الطبي، وأضاف أن هناك انفجارات كبيرة ودخل الغبار إلى المناطق التي هم فيها، مشيراً إلى اعتقاده بوقوع انفجار داخل المستشفى.
وبعد ساعات قال المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة، أشرف القدرة، لقناة الجزيرة إن القوات الإسرائيلية تفتش القبو، مضيفاً أنها داخل المجمع وتطلق النار. وقال محمد زقوت، مدير عام المستشفيات بوزارة الصحة في القطاع لقناة الجزيرة إن الجيش الإسرائيلي اقتحم أولاً قسمي الجراحة والطوارئ.
وبعد أكثر من 10 ساعات من اقتحام مستشفى الشفاء، أعلنت هيئة البث الإسرائيلية أنه "لم يتم العثور على أي من الأسرى الذين تحتجزهم حماس"، مضيفة أن "عمليات تمشيط المستشفى لا تزال مستمرة".
وعلى مدى أكثر من شهر، زعمت إسرائيل أن حماس لديها مركز قيادة تحت مستشفى الشفاء، وتستخدم المستشفى والأنفاق الموجودة تحته في العمليات العسكرية واحتجاز الرهائن، بينما نفت حماس ذلك، ووجهت الدعوة للهيئات الأممية والمنظمات الصحية الدولية لزيارة المستشفى والتأكد بنفسها من كذب المزاعم الإسرائيلية.
وكان جيش الاحتلال قد أصدر بياناً يقول إن قواته تعمل ضد حماس في مستشفى الشفاء "حيث تستند هذه العملية إلى معلومات استخباراتية وحاجة عملياتية".
وقال الجيش الإسرائيلي في بيان "تعمل قوات الجيش ضد منظمة حماس الإرهابية في جزء معين من مجمع الشفاء الطبي؛ حيث تستند هذه العلمية إلى معلومات استخباراتية وحاجة عملياتية".
وصرح متحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، اللفتنانت كولونيل بيتر ليرنر، لشبكة سي.إن.إن بأن المستشفى والمجمع كانا بالنسبة لحماس "محوراً مركزياً لعملياتها، وربما حتى القلب النابض، وربما حتى مركز الثقل".
واتساقاً مع موقفها المنحاز بشكل مطلق لإسرائيل، قالت الولايات المتحدة الثلاثاء إن لديها معلومات مخابراتية تدعم ما تقوله إسرائيل.
أما حماس، فقد أصدرت بياناً الأربعاء، قالت فيه إن "تبني البيت الأبيض والبنتاغون لرواية الاحتلال الكاذبة والزاعمة باستخدام المقاومة لمجمع الشفاء الطبي لأغراض عسكرية كان بمثابة الضوء الأخضر للاحتلال لارتكاب المزيد من المجازر بحق المدنيين". وأضافت "نحمّل الكيان المحتل وقادته النازيين الجدد والرئيس بايدن وإدارته كامل المسؤولية عن تداعيات اقتحام جيش الاحتلال لمجمع الشفاء الطبي"، بحسب رويترز.
ماذا يقول القانون الدولي عما يجري في غزة؟
ينص القانون الإنساني الدولي، بحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر التابعة للأمم المتحدة، على أن "المنشآت الطبية بأنواعها والعاملين في المجال الصحي يخضعون للحماية في فترات الصراع والحروب بموجب بنود القانون الإنساني الدولي وأي استهداف لأي من هذه المنشآت أو العاملين فيها من جانب أي من الأطراف المتصارعة أو المتحاربة يمثل جريمة حرب".
وفي ضوء ما اقترفته وتقترفه إسرائيل بحق مجمع الشفاء الطبي في غزة، أعلنت منظمة هيومان رايتس ووتش الحقوقية أن ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي من استهداف واقتحام لمستشفى الشفاء في غزة يرقى إلى "جريمة حرب" يجب التحقيق فيها ومحاسبة المسؤولين عنها.
اللافت هنا هو أن متحدثاً باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، طلب عدم الكشف عن اسمه، قال لرويترز: "لا نؤيد ضرب المستشفيات جواً، ولا نريد أن نرى قتالاً في المستشفى ليقع الأبرياء والأشخاص العاجزون والمرضى الذين يحاولون الحصول على الرعاية الطبية التي يستحقونها في مرمى النيران". وتابع "يجب حماية المستشفيات والمرضى".
والشفاء عبارة عن مجمع كبير من المباني والأفنية، يقع على بُعد بضع مئات من الأمتار من ميناء صيد صغير في مدينة غزة، وينحصر بين مخيم الشاطئ للاجئين وحي الرمال. وتشمل المباني الواقعة على الجانب الغربي من المجمع، والتي شهدت عملية الاقتحام الإسرائيلية، قسمي الطب الباطني وغسيل الكلى.
وتقول حماس إن 650 مريضاً، وما بين 5 آلاف إلى 7 آلاف مدني آخرين محاصرون داخل المستشفى تحت نيران متواصلة من القناصة والطائرات المسيرة الإسرائيلية. وأضافت الحركة أن 40 مريضاً لقوا حتفهم في الأيام القليلة الماضية في ظل نقص الوقود والمياه والإمدادات. وبقي 36 طفلاً من جناح الأطفال حديثي الولادة بعد وفاة 3 منهم. وبدون وقود للمولدات اللازمة لتشغيل الحضانات، تُبذل أقصى الجهود الممكنة للحفاظ على أجسام الأطفال دافئة مع وضع كل 8 معاً على سرير. وقال أشرف القدرة إن المحاصَرين في المستشفى حفروا مقبرة جماعية الثلاثاء لدفن المرضى الذين توفوا، وإنه لا توجد خطة لإجلاء أطفال خدج (ناقصي النمو).
هناك إجماع إذاً على أن ما تقترفه إسرائيل في مجمع الشفاء الطبي هو "جريمة حرب" متكاملة الأركان تجري تحت سمع وبصر العالم أجمع، وتضاف إلى جرائم الإبادة الجماعية والعشرات من المجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق الفلسطينيين في غزة على مدى أكثر من 40 يوماً متواصلة، ليرتقي أكثر من 11200 شهيد فلسطيني، الغالبية الساحقة منهم أطفال ونساء، لكن يظل السؤال قائماً: متى تدفع إسرائيل ثمن جرائمها المستمرة؟