قبل اثني عشر عاماً، وجد ديفيد ميدان، ضابط الاستخبارات الإسرائيلي، نفسه واقفاً على بُعد أمتار قليلة من أحمد الجعبري، نائب القائد العام للجناح العسكري لحركة حماس وأحد أبرز المطلوبين لدى الاحتلال الإسرائيلي آنذاك. كان اللقاء في القاهرة، والمناسبة هي المفاوضات المباشرة لإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط الذي أسرته حماس في عام 2006. وكان ضباط المخابرات المصرية هم من يتناقلون الرسائل بين غرفته وغرفة الوفد الفلسطيني في الجوار.
ماذا يقول كبير المفاوضين الإسرائيليين عن خبرات التفاوض مع حركة حماس على الأسرى؟
تقول مجلة The Economist البريطانية إن حركة حماس كانت قد أسرت شاليط خمس سنوات حين تسلَّم ميدان ملف التفاوض للإفراج عنه في أبريل/نيسان 2011. وقد انقطعت السبل بعملاء الاستخبارات الإسرائيلية وهم يحاولون معرفة مكان شاليط، أو أفراد المجموعة التي تحتجزه في غزة. وكانت محاولة سابقة للتفاوض بشأن إطلاق سراح شاليط بمشاركة وسطاء ألمان قد باءت بالفشل.
وحين بدأ ميدان مهمته، سأل المخابرات المصرية عن مسؤولي حماس الذين ينبغي أن يتحدث إليهم، فنصحوه بالتركيز على الجعبري. وأدرك ميدان بعد ذلك أن الجعبري صاحب القرار في الأمر، ثم علم آخر الأمر أن الجعبري هو من كان يحتجز شاليط. وفي غضون ستة أشهر، أُطلق سراح الجندي الإسرائيلي مقابل 1027 أسيراً فلسطينياً.
يقول ميدان للمجلة البريطانية إن التعامل مع جماعة تعمل بسرية شديدة مثل حماس يقتضي أول شيء أن تعثر على قناة الاتصال المناسبة للتواصل معهم، "عليك أن تجد الوسطاء المناسبين لكي تكسب اهتمام حماس".
ترك ميدان العمل بجهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلي (الموساد) في عام 2012، واشتغل بشركات الأمن الخاصة. ولكنه تطوع بالعودة بعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول للمساعدة في تحرير الأسرى. فالدبلوماسيون الأمريكيون، الذين يحاولون استعادة مواطنيهم، يتواصلون معه باستمرار. وزملاؤه القدامى في جيش الاحتلال والموساد يطلبون منه المشورة. أما مهمته الأبرز في الوقت الحالي فهي العمل مستشاراً غير رسمي لعائلات الأسرى.
يؤمن ميدان بأن إسرائيل يقع عليها واجب أخلاقي يُلزمها العمل على استعادة أي مواطن يُؤسر منها. وقبل الأزمة الحالية، كان يشارك بلا مقابل في حملة معارضة لنتنياهو تطالب بتحرير مواطن إسرائيلي من أصول إثيوبية احتُجز في قطاع غزة منذ عام 2014.
يرى ميدان أن على إسرائيل أن تستعيد الأسرى الذين احتجزتهم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول "مهما كان الثمن"، و"حتى لو كان على إسرائيل أن تدفع ثمناً باهظاً ومؤلماً يتضمن فتح سجونها وإطلاق سراح جميع أسراها الفلسطينيين (البالغ عددهم 6 آلاف)".
لكن هذا الموقف الحاد يُخالف موقف حكومة بنيامين نتنياهو، فرئيس الوزراء الإسرائيلي لم يلتقِ عائلات الأسرى إلا بعد مرور ثلاثة أسابيع على الأزمة. ولم يُعلن أن إطلاق سراح الأسرى أولوية له إلا بعد الضغط العلني من عائلات الأسرى والإلحاح غير العلني من مسؤولين أمنيين سابقين.
"عليك الذهاب فوراً إلى القدس"
على الرغم من أن ميدان ونتنياهو عملا معاً من قبل، فإن هناك خلافاً قائماً بينهما. ففي وقت سابق من هذا العام، شارك ميدان في حشد الاحتجاجات المناهضة لما يُعرف بتعديلات "الإصلاح القضائي" التي يرى معارضوها أنها تُضعف السلطة القضائية في إسرائيل، ويعدُّها ميدان خطراً على الديمقراطية الإسرائيلية المزعومة. وهو يلوم نتنياهو على فشله في منع كارثة 7 أكتوبر/تشرين الأول؛ وينشر كل أسبوع منشورات تسخر من نتنياهو على وسائل التواصل الاجتماعي، ويقول في إحداها: "إنه مراوغ ومخادع، ويرفض تحمل المسؤولية، الناس يتملكَّهم الغضب منه".
ولد ميدان في القاهرة عام 1955، وكان والده اليهودي المصري يدير مصنع منسوجات يزوِّد الجيش المصري بربطات العنق. لكن بعد أن وصل جمال عبد الناصر إلى السلطة، وانتشر العداء لإسرائيل والغرب، قرر والدا ميدان الانتقال إلى تل أبيب. وقال ميدان: "لم يطلب أحد منا المغادرة، إلا أننا كنا مثل كثير من اليهود الذين شعروا أن البلاد تضيق بهم. وكانت الأحوال من حولنا متوترة وبغيضة".
درس ميدان اللغة العربية في المدرسة الثانوية، وأتقنها بعد ذلك في جامعة تل أبيب، فقد تخصص في آداب اللغة العربية ودراسات الشرق الأوسط، ولهجته المصرية شديدة الوضوح حتى إن بعضهم يظنه مصرياً عند الحديث بالعربية.
لما كان ميدان ضابط مخابرات شاباً في الثمانينيات، أُرسل إلى قبرص، وشارك في زرع عملاء لجمع المعلومات عن منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات. وأسهم في إحباط هجوم لمنظمة التحرير الفلسطينية على شاطئ تل أبيب في عام 1985. وبعد نجاحه في إدارة عملاء للموساد في جميع أنحاء الشرق الأوسط طيلة 20 عاماً، أُسند إليه منصب كبير في جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، وأشرف على مبادرات سرية لكسب صداقة الأنظمة العربية في الخليج (مثل صفقات تزويد بوسائل تكنولوجية متقدمة، وبرامج تجسس إسرائيلية).
في صباح أحد الأيام من شهر أبريل/نيسان 2011، كان ميدان يحضر حفل تخريج لعملاء الموساد، ثم همس رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي في أذنه بأن عليه "الذهاب فوراً إلى القدس"، لأن نتنياهو يريد منه أن يتولى ملف تحرير شاليط.
الوصول الشاق إلى الجعبري
يقول ميدان إن المصاعب التي كابدها في التفاوض لتحرير أسير واحد تكشف قدراً من الصعوبات التي يُتوقع أن تعترض الإفراج عن أكثر من 200 أسير لدى حماس حالياً. ويروي ميدان أنه شرع في عمله عام 2011 بالبحث عن قناة فعالة للتفاوض مع حماس، ولم يستفد كثيراً من المعلومات التي جمعتها الاستخبارات الإسرائيلية بشأن قادة حماس، إذ لم تعاونه في إدراك سماتهم النفسية ولا استيعاب طبيعة الأشخاص الذين يتفاوض معهم. وفي أول يوم له في العمل، طلب ناشط سلام إسرائيلي يُدعى غيرشون باسكن لقاءه. وقال باسكن إن لديه جهة اتصال في حماس يمكن أن تربط ميدان بالقيادة العسكرية للحركة.
كان باسكن قد تواصل مع المبعوثيْن السابقين اللذين أشرفا على ملف الإفراج عن شاليط، لكنهما رفضا مساعدته، وعدُّوه غرّاً حالماً. أما ميدان، فكان أكثر تقبلاً لهذا التعاون لأنه يؤمن بأن "ضابط المخابرات الجيد عليه أن يحسن المراقبة والاستماع والتذكر وعدم الانقياد إلى التحيز العاطفي". ثم بدأ ميدان يتبادل الرسائل عبر الوسيط الذي قدَّمه باسكن، حتى وصلت الرسائل عبر الوسيط إلى الجعبري، نائب القائد العسكري لحماس. وفي البداية، كانت الرسائل مجرد نصوص وجيزة، ثم تطورت واتسع نطاق التواصل، حتى صار باسكن ينقل الرسائل باستخدام جهاز فاكس، على حد وصفه.
وأسهم الاتصال عبر قناة باسكن في توطيد اقتناع حماس بأن الإسرائيليين جادون في مبادرة التفاوض. وقال ميدان: "ازدادت الثقة تدريجياً بخطوة صغيرة تلو الأخرى".
وبعد ذلك بوقت قصير، طلب ميدان من المصريين ترتيب اجتماع مع الجعبري في القاهرة. وكان الجعبري يخشى أن يقتله الإسرائيليون وهو يقود سيارته عبر صحراء سيناء إلى الحدود المصرية، فطلبَ ضمانات بحمايته.
لم تكن أجواء الاجتماع مبشرة في البداية. فالجعبري كان قد أمضى 13 عاماً من عمره في سجون إسرائيل، ومن ثم كان عنيداً ومتشدداً في التفاوض، و"مطالبه لا نهاية لها"، على حد تعبير ميدان. وسعى المصريون إلى تلطيف الأجواء بمبادرات صغيرة. وفي هذه الأثناء عمل ميدان على بث الثقة للمصريين بأنه شخص جدير بالاعتماد عليه في "التزام التفاهمات والاتفاقات التي يجري التوصل إليها". وبعد عدة جلسات، تقدمت جهود الوساطة من التفاوض على المبادئ الأولية للصفقة إلى مناقشة أسماء الأسرى الذين سيجري الإفراج عنهم في مقابل شاليط.
يقول ميدان إن هذه المرحلة كانت الأصعب في عملية التفاوض، لأن كثيراً من الرجال الذين أدرجتهم حماس في القائمة كانوا قد شاركوا في عمليات استهداف إسرائيليين ومطلوبين كبار. ويزعم ميدان أنه كان لديه أفضلية على الطرف الفلسطيني، وأنه كان يعرف ما سيطلبه الجعبري قبل الإفصاح عنه، بحسب تعبيره.
هكذا رضخ نتنياهو
في ذلك الوقت، كان نتنياهو يتعرض لضغوط كبيرة من الداخل الإسرائيلي، فقد اندلعت احتجاجات غير مسبوقة لارتفاع تكاليف المعيشة في إسرائيل في ذلك الصيف. ومن ثم وفرت له الصفقة مخرجاً من تلك الضغوط، وتوصل ميدان إلى صفقة تتضمن الإفراج عن ألف أسير فلسطيني (منهم بعض الأسرى الذين أثار الإفراج عنهم جدلاً كبيراً، مثل يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في قطاع غزة حالياً) في مقابل شاليط. وهكذا، سافر ميدان إلى القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول لتوقيع الصفقة.
وبعد أسبوع، اصطحب الجعبري وضباط المخابرات المصرية شاليط إلى معبر رفح الحدودي بين غزة ومصر. وكان ميدان وفريقه ينتظرونه في سيارة عسكرية إسرائيلية. ونُقل شاليط وميدان في مروحية عسكرية إسرائيلية إلى قاعدة جوية. وتعجَّب ميدان لما فُتح باب المروحية فوجد نتنياهو ينتظر الجندي الشاب ومعه طاقم صحفي. فقد كانت تلك فرصة سانحة لالتقاط بعض الصور التي تستجلب التأييد الشعبي، ولم يكن نتنياهو يفوت فرصة كهذه.
في أكتوبر/تشرين الأول 2012، تحدث ميدان في ندوة عُقدت في جامعة تل أبيب عن تجربته في العمل مفاوضاً للإفراج عن الأسرى، وأخبر الطلاب آنذاك أن الأزمات السياسية الداخلية التي كان نتنياهو يواجهها أسهمت في دفعه إلى القبول بمطالب حماس التي كانت باهظة. وبطريقةٍ ما، سجل أحد الحاضرين تصريحات ميدان، وسرَّبها إلى الصحافة، فأغضبت نتنياهو. وعلى الرغم من أن ميدان كان مرشحاً لتولي رئاسة الموساد، فإن نتنياهو لم يوافق على ترشيحه. وأدرك أنه لم يعد لديه فرصة للتقدم في مناصب جهاز الاستخبارات، فاستقال وأنهى مسيرته في الجهاز.
"اغتيال الجعبري كان خاطئاً"
بعد عام من إطلاق سراح شاليط، اغتالت إسرائيل أحمد الجعبري بضربة صاروخية وهو يقود سيارته في مدينة غزة. ويرى ميدان أن هذا "كان قراراً خاطئاً".
في الوقت الحالي، تُشرف جهات مختلفة على المساعي التي ترمي إلى تحرير أسرى السابع من أكتوبر/تشرين الأول، منها جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي يجمع المعلومات الاستخبارية، ويتولى التخطيط لعمليات الإنقاذ، ويتبادل المعلومات مع أقارب الأسرى.
وقد شكل أهالي الأسرى لجنة حتى يتمكنوا من العمل معاً لترويج مطالبهم والضغط على الحكومة. ويريد أغلبهم أن تتوقف الهجمات على غزة لاستعادة أبنائهم، غير أن قلة منهم تؤيد استمرار القصف. وعيَّن نتنياهو مسؤولاً عن ملف الأسرى. وتشارك كل من قطر ومصر في مساعي التوسط للإفراج عن الأسرى.
قال ميدان إن بعض الأشخاص الذين يعرضون المساعدة في إخراج الأسرى "صادقون ونيتهم حسنة"، لكن بعضهم ليسوا إلا "دجَّالين" يستغلون مخاوف الأهالي. ويرى ميدان أن عامل الوقت شديد الأهمية إن كان مكتوباً لبعض الأسرى أن يظلوا على قيد الحياة، ومن ثم فإن استهلاك الكثير من الوقت والجهد في قنوات تواصل خاطئة قد يكون مكلفاً. وقال ميدان إن أهالي الأسرى عليهم أن "يركزوا جهودهم ويعثروا على الوسطاء المناسبين، سواء كانت قطر أو مصر أو تركيا".
لطالما عارض ميدان تقسيمَ صفقة التبادل حين تفاوض على الإفراج عن شاليط، أما الآن فإنه يرى أن عدد الأسرى الكبير يقتضي إجراء الأمور بطريقة مختلفة، و"إذا لم نتمكن من التوصل إلى اتفاق شامل فلنفعل ذلك تدريجياً، بحيث نُفرج -مثلاً- عن النساء والأطفال أولاً، لبناء الثقة".
على الرغم من الدماء التي أُريقت في الأسابيع الثلاثة الماضية، يرى ميدان أن الثقة ممكنة، بل لا بد من بنائها بين المفاوضين من إسرائيل وحماس للتفاوض من أجل الأسرى. ويقول يوفال ديسكين، الرئيس السابق لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي شين بيت، إن هذه القدرة على "الإبداع في التفكير" هي التي تجعل ميدان مفاوضاً ناجحاً، "فهو محيط بالثقافة العربية، وأهم من ذلك كله أنه رجل جدير بالثقة".
أوقف ميدان حملاته العامة في معارضة نتنياهو، لكنه يعتزم استئنافها بمجرد انتهاء الحرب. ولما سأله مراسل "الإيكونومست" عن أهم عبرة استخلصها من مشاركته في مفاوضات الإفراج عن شاليط، أجاب: "توصل إلى اتفاق بأسرع ما يمكنك، لأنك إن تأخرت، فربما يفوت الأوان".