تواصل إسرائيل استهداف المدنيين في غزة، لكن جانباً كبيراً من وسائل الإعلام والصحفيين الغربيين اختاروا الانحياز المطلق لدولة الاحتلال ويروّجون قصصاً لا دليل عليها لتشويه صورة المقاومة، فإلى أين قد يقود ذلك؟
ومنذ فجر السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول، عندما شنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عملية "طوفان الأقصى" وردّ الاحتلال بقصف عشوائي غير مسبوق على قطاع غزة المحاصر، اتخذ الغرب، مسؤولين وإعلاميين، موقفاً جماعياً داعماً لإسرائيل، وهو موقف ليس جديداً بطبيعة الحال، لكن ربما يكون الجديد هذه المرة هو التضليل غير المسبوق للرأي العام الغربي بشأن حقيقة ما يجري على الأرض في فلسطين المحتلة.
"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته "حماس" على العملية العسكرية الشاملة، رداً على "الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني". ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
مزاعم إسرائيل يرددها الإعلام الغربي دون تدقيق
ما تعرّضت له إسرائيل هزيمة عسكرية على مستوى غير مسبوق منذ 50 عاماً، باعتراف كثير من المراقبين والخبراء الإسرائيليين أنفسهم، و"طوفان الأقصى" ليست فعلاً بل هي رد فعل على ما يرتكبه الاحتلال بحق الفلسطينيين في القدس والضفة المحتلتين، وقطاع غزة المحاصَر منذ أكثر من 16 عاماً، وبالتالي لم يأتِ هجوم المقاومة من فراغ، بنص تقرير لموقع Vox الإخباري الأمريكي، عنوانه "هجوم حماس لم يأتِ من فراغ".
ويُعد إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "حالة الحرب" للمرة الأولى منذ 50 عاماً مؤشراً على مدى عمق الصدمة التي سببها هجوم المقاومة، والذي كشف عن مدى هشاشة جيش الاحتلال ومؤسساته الأمنية، وانطلقت الجهود الإسرائيلية للتغطية على الفشل غير المسبوق على عدة محاور.
المحور الأول تمثل في "الانتقام" من قطاع غزة المحاصَر أصلاً منذ أكثر من 16 عاماً، وذلك عبر شن هجمات جوية عشوائية ومكثفة تستهدف مباني وأراضي وأسواقاً، ومنشآت القطاع الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم، حيث يقطنه نحو 2.2 مليون فلسطيني. وأعلن وزير الدفاع يوآف غالانت حصاراً كاملاً على القطاع "لا ماء لا كهرباء لا طعام"، وهي تصريحات ترقى إلى "جريمة حرب"، بحسب القوانين الدولية.
وبالتزامن مع هذا المحور الانتقامي، شنّت دولة الاحتلال حملة تضليل واسعة النطاق من خلال الزعم بأن المقاومين الفلسطينيين ارتكبوا "مذابح" بحق "المدنيين"، ووصلت إلى حد الزعم بأن المقاومين الفلسطينيين "قطعوا رؤوس الأطفال"، وهي الكذبة التي أطلقتها قناة i24 العبرية.
اللافت هنا هو أن وسائل إعلام غربية، منها صحف بريطانية مثل الصن والتايمز والإندبندنت وتليغراف وميل ومترو وأكسبريس وغيرها، نقلت هذا الزعم الإسرائيلي ووضعته في عناوين رئيسية "حماس تقتل 40 طفلاً"، دون أي دليل أو صورة أو مقطع فيديو أو حتى تأكيد رسمي من جانب جيش الاحتلال عندما طلبت ذلك منه مؤسسات إعلامية غربية أخرى، مثل قناة سكاي نيوز البريطانية، التي رفضت، على مدى 3 أيام، نشر القصة انتظاراً لرد من جيش الاحتلال.
كشف تناول كثير من الإعلام والصحفيين الغربيين هذه القصة المفبركة تماماً، والتي تناقض عشرات الصور ومقاطع الفيديو وشهادات مستوطنين إسرائيليين تؤكد على أن تعامل مقاتلي المقاومة الفلسطينية مع أعدائهم اتسم في مجمله باحترام قواعد الاشتباك والقوانين الدولية والقيم الإنسانية، عن مدى الانحياز الأعمى لإسرائيل والتضليل للرأي العام بشأن حقيقة ما يحدث على الأرض.
ففي زمن التواصل الاجتماعي والإنترنت المنتشر في كل مكان، أصبح التضليل والمعلومات المغلوطة سلاحاً رئيسياً في حشد الرأي العام، وهو ما توظفه إسرائيل المهزومة والفاشلة منذ بدأت عملية "طوفان الأقصى" تبريراً لما ترتكبه في غزة من استهداف متعمّد حتى للمستشفيات والطواقم الطبية وعربات الإسعاف التي تنقل المصابين، وهو ما يرقى إلى "جريمة حرب" موثقة بالصوت والصورة.
لكن الإعلام الغربي، في معظمه، يستغل الانحياز المطلق لمنصات التواصل الاجتماعي، وبخاصة فيسبوك وإكس (تويتر سابقاً)، للرواية الإسرائيلية والتضييق التام على الحسابات والمواقع التي تسعى لنقل الجانب الفلسطيني مما يحدث، ويقوم بالترويج للأكاذيب الإسرائيلية التي تصور المقاومة ورجالها على أنهم "وحوش" لا يحترمون المدنيين ويقتلون الأطفال.
التضييق على الرواية الفلسطينية
في ظل الانتشار المريب لرواية قتل الأربعين طفلاً، أصدرت حركة حماس، الأربعاء 11 أكتوبر/تشرين الأول، بياناً أكدت فيه "بشكلٍ قاطع كذب الادعاءات الملفقة التي تروّج لها بعض وسائل الإعلام الغربية التي تتبنى الرواية الصهيونية وآخرها الزعم بقتل الأطفال وقطع الرؤوس واستهداف المدنيين"، مضيفة أن "القسام (الجناح المسلح لحركة حماس) والمقاومة استهدفت المنظومة العسكرية والأمنية، وهي هدف مشروع، والمقاطع المصورة من الميدان وشهادات المستوطنين تؤكد على تجنب المدنيين والأطفال".
وفي هذا السياق، كانت القناة 12 الإسرائيلية قد نشرت مقابلة مع إحدى المستوطنات، روت فيها ما حدث معها ومع طفليها عندما اقتحم 6 من المقاومين منزلها، وكيف أنها احتمت مع طفليها بالملجأ في المنزل، وعندما اقتحمه المقاومون وقالت لهم باللغة الإنجليزية إن معها طفليها رد عليها أحد شباب المقاومة "لا تقلقي، نحن مسلمون لا نؤذي النساء والأطفال"، وغادروا المنزل دون التعرض لها أو لطفليها.
كيف يمكن تصوّر أن من "يسترون" مستوطنة ويتمنى أحدهم لو أنه يجيد العبرية كي يطمئنها ويطمئن أطفالها، يمكن أن "يقطعوا رؤوس أطفال؟ وكيف يمكن التغاضي عما يرتكبه جيش الاحتلال والمستوطنين أنفسهم بحق الفلسطينيين المدنيين العزل، أطفالاً ونساءً وكبار سن، نهاراً جهاراً وأمام عدسات الكاميرات؟ وكيف يمكن التغاضي عن استهداف الصحفيين الذين يقومون بعملهم بالرصاص الحي، وما جريمة اغتيال مراسلة قناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، برصاص جيش الاحتلال ببعيدة؟
لكن الإعلام الغربي، الذي يرفع شعار التحقق مما يُنشر، ويرفع شعارات المهنية والموضوعية في التغطية الصحفية للصراعات، يتغاضى عما يرتكبه جيش الاحتلال، ويروّج للروايات الإسرائيلية التضليلية حتى تكون مبرراً لما يتم ارتكابه من جرائم بحق قطاع غزة المحاصر وتوظيف الآلة العسكرية الغاشمة لإيقاع أكبر عدد ممكن من الشهداء والمصابين في صفوف الفلسطينيين للتغطية على الإذلال العسكري الذي تعرض له جيش يتفاخر بأنه الأقوى في المنطقة.
ومنذ السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول، تفرد الشبكات الغربية الكبرى، الأمريكية والبريطانية والألمانية والفرنسية وغيرها من الشبكات الغربية، مساحات ممتدة وتغطية حية لما تشهده فلسطين المحتلة، ويتصدر تلك التغطية عناوين ملهبة للمشاعر تلعب فيها دولة الاحتلال دور "الضحية" التي تتعرض لهجوم "من منظمة إرهابية"، ويبثون أكاذيب عن "قتل الأطفال واغتصاب النساء وقتل المدنيين العزل" دون اعتبار لأي معايير مهنية أو قانونية أو حتى أخلاقية.
الإعلام الغربي صدى بايدن وسوناك وماكرون وغيرهم
اللافت في رواية "قتل الأطفال وقطع رؤوسهم" هو أنه حتى جيش الاحتلال الإسرائيلي نفسه خرج الأربعاء بتصريحات ينفي فيها وجود "معلومات لدينا تؤكد ذلك"، لكن الإعلام الغربي الذي نشر الرواية في صدر تغطيته لم يكلف نفسه عناء نفيها، رغم أنه في زمن التضليل الإعلامي، ربما لا يكون للنفي تأثير يُذكر على الرأي العام الغربي.
وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً بشأن هذا التضليل الإعلامي الغربي، من المهم التوقف عند الخطاب الرسمي الصادر عن العواصم الكبرى – حجماً بطبيعة الحال – مثل واشنطن ولندن وباريس وبرلين، والذي يمكن اختصاره في تحميل المقاومة المسؤولية كاملة وإعطاء إسرائيل "شيكاً على بياض" لترتكب ما تشاء من جرائم بحق الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال والحصار.
ففي البيت الأبيض، وصف بايدن هجمات "حماس" بأنها "شر مطلق"، وقال إن واشنطن تسارع بتقديم مساعدات عسكرية إضافية لإسرائيل، بما في ذلك الذخيرة والصواريخ الاعتراضية لدعم نظام القبة الحديدية للدفاع الجوي. وأضاف للصحفيين أن الولايات المتحدة "عززت وضع قوتنا العسكرية في المنطقة لتعزيز قدرتنا على الردع"، عن طريق وسائل منها تحريك مجموعة حاملة طائرات هجومية وطائرات مقاتلة.
"نحن على استعداد لنقل أصول إضافية حسب الحاجة… دعوني أقول مرة أخرى لأي دولة، وأي منظمة، وأي شخص يفكر في الاستفادة من الوضع، لدي كلمة واحدة: لا تفعلوا ذلك"، في إشارة من الرئيس الأمريكي إلى إيران، رغم أن المسؤولين الأمريكيين يقولون إنه ليس لديهم أدلة على أن إيران كان لها دور في "طوفان الأقصى".
رسائل الدعم المطلق لإسرائيل ترددت أيضاً على لسان رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، بل وجّهت وزيرة الثقافة في حكومته اللوم إلى هيئة الإذاعة البريطانية BBC لأن الأخيرة لا تصف، في تغطيتها المنحازة بالكلية إلى الرواية الإسرائيلية، حماس بأنها "منظمة إرهابية". وفي باريس، رفضت حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون التصريح بالتظاهر نصرة لفلسطين وسمحت فقط بالتظاهرات المؤيدة لإسرائيل، وأعلن ماكرون دعمه المطلق لتل أبيب. والموقف نفسه أكد عليه المستشار الألماني، أولاف شولتز.
يأتي ذلك رغم مواصلة إسرائيل القصف العشوائي على غزة لليوم الخامس على التوالي وارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في القطاع إلى أكثر من 1055، 60% من الأطفال والنساء، بحسب ما أعلنته وزارة الصحة الفلسطينية، وتجاوزت أعداد المصابين 5500، نتيجة لما يصفه أغلب المراقبين والمحللين في المنطقة بأنه "حالة من حالات الجنون العسكري والسياسي"، وصلت إلى حد مطالبة نائبة في الكنيست (برلمان الاحتلال) بضرب قطاع غزة بالسلاح النووي.
هذا الانحياز الغربي الأعمى، إعلامياً ورسمياً، يطرح سؤالاً مهماً: إلى أين قد يؤدي كل ذلك؟ هل سيقف العالم مكتوف الأيدي أمام توظيف دولة الاحتلال لترسانتها من الأسلحة الفتاكة، والتي ترسل إليها واشنطن المزيد منها، لإبادة 2.2 مليون فلسطيني في قطاع غزة على أمل استعادة جزء من صورة جيشها كأقوى جيش في المنطقة؟! وكيف يمكن محاسبة من يقومون بالتغطية الإعلامية المضللة لما يجري على الأرض؟ لا شك أن هذه الأسئلة وغيرها سيأتي دورها لاحقاً.