عادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث، ليس في المنطقة فقط، ولكن حول العالم، منذ بدأت عملية "طوفان الأقصى" التي زلزلت دولة الاحتلال كما لم يحدث من قبل، فهل يخرج قطار التطبيع بين إسرائيل والدول العربية عن مساره هذه المرة؟
"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على العملية العسكرية الشاملة، التي بدأت فجر السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، رداً على "الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني". في تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسر العشرات من جنود من جيش الاحتلال والمستوطنين وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وفي اليوم الثالث لطوفان الأقصى، لا تزال المقاومة الفلسطينية تشتبك مع جيش الاحتلال في عدة مواقع في محيط غلاف غزة، وتأسر مزيداً من جنود الاحتلال، بينما يتواصل القصف العشوائي والهستيري للمنشآت المدنية في القطاع المحاصر، وهو ما أدى إلى ارتقاء 493 شهيداً فلسطينياً منهم أكثر من 70 طفلاً، وإصابة أكثر من 2750 آخرين، وأرسلت إسرائيل 4 فرق قتالية جنوباً.
التطبيع مع إسرائيل
هناك ما يشبه الإجماع بين المراقبين والمحللين وحتى المسؤولين الغربيين، وبخاصة الأمريكيين منهم، على أن انفجار الأوضاع بهذه الصورة قد يتسبب في وقف قطار التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، وبخاصة المملكة العربية السعودية، والتي يعتبرها بنيامين نتنياهو وجو بايدن انتصاراً سياسياً يحتاجه كلاهما بشدة.
وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، عبّر عن ذلك صراحة، الأحد 8 أكتوبر/تشرين الأول، في مقابلة مع شبكة CNN الأمريكية، بقوله إن "عرقلة التطبيع المحتمل للعلاقات بين إسرائيل والسعودية ربما يكون بالتأكيد من دوافع الهجوم الذي شنته حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) على إسرائيل".
والزاوية نفسها جاءت عنواناً لمقال تحليلي في الشبكة الأمريكية أيضاً يرصد كيف أن هجوم المقاومة الفلسطينية غير المسبوق كانت له أهداف استراتيجية وتكتيكية متعددة، لا تتوقف فقط عند الحدود العسكرية بل تتخطاها إلى أهداف سياسية أبعد وأكثر شمولاً.
العدد الكبير وربما غير المسبوق من الأسرى، من جنود جيش وشرطة الاحتلال والمستوطنين، يمثل هدفاً كبيراً حققت فيه المقاومة نجاحاً لم يكن أحد يتوقعه، لكن الواضح أن هناك هدفاً أكبر من ضمان صفقة يتم بموجبها تحرير جميع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين لدى إسرائيل، وهذا الهدف هو "محاولة إنهاء التقارب بين إسرائيل والدول العربية، أو ما يعرف بمسيرة تطبيع العلاقات التي كانت قد بدأت في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وتسعى إدارة جو بايدن لاستكمالها"، بحسب شبكة CNN الأمريكية.
كانت الإمارات والبحرين والمغرب والسودان قد انضمت إلى ما سماها ترامب وصهره ومستشاره الأبرز، غاريد كوشنر، باتفاقيات أبراهام لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهي الاتفاقيات التي رفضها الفلسطينيون ونددوا بها، معتبرين أنها "مكافأة مجانية" للاحتلال الذي يواصل التنكيل بهم وابتلاع أراضيهم المحتلة دون احترام للقرارات الدولية أو الاتفاقيات الموقعة معهم (أوسلو).
إذ جاء توقيع تلك الاتفاقيات مع إدارة ترامب التي قررت نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس المحتلة واعترفت بالضم الإسرائيلي لهضبة الجولان السورية، في انتهاك صارخ لجميع القرارات بل، وحتى ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية ذاتها بشأن الصراع العربي الإسرائيلي، والتي تظهر -على الأقل من خلال التصريحات- أنها تعتبر إقامة دولة فلسطينية جنباً إلى جنب مع إسرائيل هدفاً يمكن أن يؤدي إلى حل الصراع حلاً جذرياً.
وخلال السنوات الثلاث الماضية، منذ بدأت مسيرة التطبيع بين إسرائيل والدول العربية عام 2020، شهدت المنطقة تكثيفاً لافتاً من جانب دولة الاحتلال في اعتداءاتها على الفلسطينيين، عبر الاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى والتهجير في القدس الشرقية والضفة الغربية والمداهمات والاعتقالات والقتل والتنكيل، ما يجعل من "اتفاقيات أبراهام" سراباً حقيقياً لن يؤدي إلى أي اعتراف إسرائيلي بالقرارات الدولية والحقوق الفلسطينية حتى في حدها الأدنى.
هل تلقَّى مسار التطبيع ضربة قاصمة؟
يخوض الرئيس الأمريكي جو بايدن حملة مكثفة وشاقة للتوصل إلى "اتفاق سلام تاريخي بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، لكن هذه الحملة تعرضت لضربة عنيفة من خلال غزو حماس لإسرائيل"، هذا ما جاء في تقرير لموقع Axios الأمريكي، رغم استخدام مصطلح "غزو" للإشارة إلى طوفان الأقصى، وكأن المقاومة الفلسطينية "تغزو" أرضها المحتلة، لكن بات واضحاً للجميع أن "المعايير المزدوجة" أصبحت العنوان الرسمي للإعلام الأمريكي والغربي عندما يتعلق الأمر بالصراع بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال.
ونقل الموقع الأمريكي عن مسؤول رفيع في إدارة بايدن "تقليله" من التأثير المحتمل للأزمة الحالية على جهود إدارة بايدن لتوقيع "اتفاق هائل" بين السعودية وإسرائيل، قائلاً للصحفيين إن "الإدارة لا تزال ترى أن هناك فرصة لتحقيق هذا الاتفاق على أية حال".
لكن حقيقة الأمر هنا هي أن الأحداث التي زلزلت إسرائيل والمنطقة قد ألقت بظلال قاتمة بالفعل على عملية التطبيع في المنطقة، فحتى على المستوى الرسمي أجرى وزير الخارجية بلينكن اتصالات مكثفة مع نظرائه في دول عربية لديها "اتفاقيات سلام" مع إسرائيل، وطلب منهم أن "يدينوا" هجوم حماس، إلا أن أحداً منهم لم يفعل ذلك، بحسب تقرير أكسيوس.
لكن ربما تكون وزارة الخارجية في دولة الإمارات هي الوحيدة التي استجابت لطلب بلينكن، حيث أصدرت، الأحد 8 أكتوبر/تشرين الأول، بياناً "يدين" الهجمات التي تشنها حركة حماس على المدن والقرى الإسرائيلية القريبة من قطاع غزة، ويعتبرها تشكل "تصعيداً خطيراً وجسيماً".
وأعربت الوزارة في بيان عن استيائها الشديد إزاء التقارير التي تفيد باختطاف مدنيين إسرائيليين من منازلهم كرهائن. وأكدت على ضرورة أن "ينعم المدنيون من كلا الجانبين بالحماية الكاملة بموجب القانون الإنساني الدولي، وضرورة ألا يكونوا هدفاً للصراع". كما عبّرت الوزارة عن أسفها العميق للخسائر في الأرواح من الجانبين نتيجة لاندلاع أعمال العنف، ودعت الطرفين إلى وقف التصعيد وتجنب تفاقم العنف وما يترتب على ذلك من عواقب مأساوية تؤثر على حياة المدنيين والمنشآت.
على أية حال، منذ اللحظة الأولى لانطلاق طوفان الأقصى في الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، انتفضت الشعوب العربية دعماً لفلسطين وللمقاومة، وذلك عبر منصات التواصل الاجتماعي، وشهدت عدة مدن عربية تظاهرات داعمة، حيث أعاد الزلزال القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث بعد أن كان التطبيع مع إسرائيل هو الحدث الأكثر حضوراً.
ونشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تقريراً عنوانه "الدعم لغزة يجتاح الشرق الأوسط"، يرصد هذا الدعم والتعاطف الشعبي الذي يجتاح المنطقة عموماً والدول العربية خصوصاً، وهو ما يشير بوضوح إلى أن مسألة التطبيع برمتها، وبخاصة التطبيع بين السعودية وإسرائيل، قد تلقّت بالفعل ضربة ربما تكون قاصمة، خصوصاً في ظل استمرار الصراع واحتمالات توسعه إذا ما أقدمت دولة الاحتلال على محاولة اجتياح قطاع غزة برياً، والمؤشرات تصب في ذلك الاتجاه.
لماذا التطبيع السعودي "حلم" لبايدن ونتنياهو؟
على الرغم من الإجراءات القمعية والاستفزازية والعدوان اليومي وغير المسبوق منذ تولي الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة نتنياهو ورموز الاستيطان والتطرف، من أمثال وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش وغيرهما، إلا أن جهود التوصل إلى اتفاق التطبيع بين إسرائيل والسعودية بوساطة أمريكية مكثفة كانت تشهد "خطوات صغيرة ولكنها مهمة" خلال الأشهر الماضية.
وشهدت الأسابيع الماضية مؤشرات على أن الإعلان عن هذا الاتفاق، الذي يريده بايدن بشدة لأسباب انتخابية ونتنياهو لأسباب سياسية داخلية، قد أصبح قاب قوسين أو أدنى. إذ عينت السعودية سفيراً لها لدى السلطة الفلسطينية خلال أغسطس/آب الماضي، للمرة الأولى، وتحدث ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، عن المسألة خلال مقابلة له مع شبكة Foxnews الأمريكية في سبتمبر/أيلول الماضي. قال ولي العهد إنه كانت هناك "مفاوضات جيدة حتى الآن"، مضيفاً: "كل يوم نقترب أكثر وأكثر"، ومشدداً على أنه "بالنسبة لنا، القضية الفلسطينية مهمة للغاية. نحن بحاجة إلى حل هذا الجزء".
وبالنسبة لبايدن، يعتبر تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية هدفاً رئيسياً للسياسة الخارجية، بعدما مهّد ترامب لاتفاقيات أبراهام مع الإمارات والبحرين ثم مع السودان والمغرب، إذ يسعى بايدن الآن إلى التوصل إلى اتفاق مماثل بين السعودية وإسرائيل. وهذا ستكون له أهمية رمزية أكبر حتى من الاتفاقات التي تم التوصل إليها حتى الآن مع الدول الأخرى، وذلك نظراً لأهمية وثقل السعودية.
وبالنسبة لنتنياهو، الذي يرأس أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية، فإن اتفاقاً للتطبيع مع السعودية سيكون بمثابة الدفعة الهائلة لصورته داخلياً، وهو ما يساعده على مواجهة المعارضة الشرسة والانقسام الداخلي الذي تسببت فيه التعديلات القضائية أو الانقلاب القضائي كما تصفه المعارضة.
لكن الآن، بعد الهزيمة المنكرة التي تعرض لها جيش الاحتلال وشرطته واستخباراته ومستوطنوه على أيدي المقاومة من خلال "طوفان الأقصى"، يواجه نتنياهو وبايدن مأزقاً مركباً. فالضربات الجوية الوحشية التي تقوم بها طائرات وصواريخ الاحتلال بحق قطاع غزة، والتي توقع الآلاف من الشهداء والمصابين وتهدم الأسواق والمنازل ومدارس الأونروا على رؤوس من فيها وتحرق الأراضي الزراعية، تزيد من اشتعال الغضب في نفوس العرب والمسلمين في المنطقة وحول العالم، وتجعل من أية خطوة تطبيعية تجاه دولة الاحتلال انتحاراً سياسياً لمن يقدم عليها.