"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على العملية العسكرية الشاملة فجر السبت، 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، رداً على "الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني"، فكيف أدت سياسات حكومة نتنياهو إلى "الحرب"؟
في تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وتقارير عن أسر العشرات من جنود من جيش الاحتلال والمستوطنين وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
لماذا "طوفان الأقصى" الآن؟
يدور الحديث في الصحافة العبرية والعالمية عن أن ما تشهده الساحة الفلسطينية منذ فجر السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، هو "مفاجأة" متكاملة الأركان و"فشل ذريع" لأجهزة الاستخبارات ولجيش الاحتلال الإسرائيلي، لكن حقيقة الأوضاع في فلسطين منذ مطلع العام الجاري ربما "تنفي" تماماً صفة "المفاجأة" عن عملية "طوفان الأقصى"، حتى وإن جاءت بمثابة "الصدمة والرعب" للإسرائيليين جميعاً، مواطنين ومسؤولين على السواء.
ربما تكون الرسالة الصوتية لمحمد الضيف، القائد العام لكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، والتي أعلن فيها "بدء عملية طوفان الأقصى"، دليلاً تفصيلياً على أنه يمكن وصف العملية الفلسطينية بأنها "رد منطقي بل ومتوقع"، في ظل سير الأحداث على الأرض.
فماذا قال محمد الضيف؟ بدأ الضيف رسالته بسرد تفصيلي لما وصفها بأنها "الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني وتنكره للقوانين الدولية، وفي ظل الدعم الأمريكي والغربي والصمت الدولي".
تحدث القائد العام عن الأوضاع غير الإنسانية التي يعاني منها الآلاف من الأسرى الفلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية، والتي أودت بحياة المئات منهم، ذاكراً كيف "رفضت حكومة الاحتلال مراراً عقد صفقة إنسانية لتبادل الأسرى وتحسين أوضاع الأسرى الفلسطينيين".
وتطرق الضيف في رسالته إلى ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية الحالية من توسع في المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي يعترف العالم كله بأنها أراض محتلة، وطرد الفلسطينيين من بيوتهم وبلداتهم في القدس والضفة الغربية الواقعتين تحت الاحتلال.
"في كل يوم تقتحم سلطات الاحتلال بيوتنا وقرانا وبلداتنا ومدننا على امتداد الضفة الغربية (المحتلة)، وتعيث فيها فساداً، وتداهم بيوت الآمنين، تقتل وتصيب وتهدم وتعتقل، حيث ارتقى المئات من الشهداء والجرحى في هذا العام جراء هذه الجرائم. وفي الوقت نفسه، تصادر الآلاف من الدونمات وتقتلع أهلنا من بيوتهم وأراضيهم ومضاربهم، وتبني مكانه المستوطنات وتحمي قطعان المستوطنين وهم يعربدون ويحرقون ويسرقون ويهلكون الحرث والنسل، في الوقت الذي تستمر فيه سلطات الاحتلال بفرض الحصار المجرم على قطاعنا الأبي (غزة)".
كما سرد الضيف ما يتعرض له المسجد الأقصى من اعتداءات متكررة من المتطرفين في حماية شرطة وجيش الاحتلال ومسؤوليه ووزرائه، في إشارة إلى وزير الأمن الداخلي في الحكومة الإسرائيلية، إيتمار بن غفير.
"وفي ظل عربدة الاحتلال وتنكره للقوانين والقرارات الدولية، وفي ظل الدعم الأمريكي والغربي والصمت الدولي، فقد قررنا أن نضع حداً لكل ذلك بحول الله"، بحسب نص كلمة الضيف.
رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، أكد على الرسالة نفسها في تصريح صحفي: "لقد خطط العدو الذي يحاصر غزة إلى مباغتتها وتصعيد العدوان على شعبنا في القطاع، فضلاً عن الاستيطان والعدوان المستمر كل لحظة في الضفة، الذي يسعى لاقتلاع شعبنا وطرده من أرضه وجرائم الاحتلال ضد شعبنا في الـ48 حيث يقف وراء كل عمليات القتل والاغتيال هناك، واستمرار الاحتلال في احتجاز أسرانا عشرات السنين، ونكثه بالاتفاقات عندما أعاد اعتقال المحررين من صفقة وفاء الأحرار".
ماذا فعلت حكومة نتنياهو؟
حقيقة الأمر هنا هي أن "طوفان الأقصى" ليست "مفاجأة"، في ظل السياسات التي تتبعها حكومة إسرائيل الحالية، منذ تشكيلها أواخر العام الماضي. فهذه الحكومة، التي توصف بأنها الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية، تضم في عضويتها بعضاً من غلاة المتطرفين والمستوطنين الذين يعلنون صراحة عن "قتل الفلسطينيين" ويدعون إلى إبادتهم.
ومنذ اللحظة الأولى لتشكيل "حكومة السوابق" برئاسة نتنياهو، وضعت تلك الحكومة الاستيطان في طليعة ملفاتها المهمة، وقبل أن تكمل تلك الحكومة، التي توصف بأنها الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية، برئاسة بنيامين نتنياهو وعضوية إيتمار بن غفير، شهرها الأول، اقتربت الأمور من حافة الانفجار حرفياً، وارتفعت فرص اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة ضد الاحتلال.
وكانت صحيفة The New York Times الأمريكية قد نشرت تقريراً منذ مطلع العام، يرصد كيف أن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تزيد من خطر التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظل تصاعد اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية المحتلة، وشرعنة الحكومة للبؤر الاستيطانية وإعلانها مخططات لبناء المزيد من المستوطنات لابتلاع الضفة بالكامل.
وخلال مايو/أيار الماضي، أطلقت دولة الاحتلال وابلاً من طائراتها ومسيّراتها القاتلة، استهدفت النائمين في قطاع غزة، فاستُشهد 13 شخصاً منهم 4 أطفال و4 نساء و3 من قادة حركة الجهاد الإسلامي، وذلك في "حيلة" اعتادها نتنياهو للهروب من أزماته الداخلية.
إذ كانت تلك الجولة من التصعيد الإسرائيلي قد جاءت في ظل مرور الداخل الإسرائيلي بانقسامات حادة هي الأخطر منذ تأسيس دولة الاحتلال قبل 75 عاماً، بسبب سعي حكومة نتنياهو إلى القضاء بشكل نهائي على حل الدولتين وابتلاع كامل الأراضي الفلسطينية، من خلال التوسع في ملف الاستيطان وتهجير الفلسطينيين من القدس الشرقية تماماً، لإكمال عملية التهويد، التي تشمل المسجد الأقصى.
لكن التصعيد ضد الفلسطينيين ليس السبب في الانقسام داخل دولة الاحتلال، بل يتعلق هذا الانقسام بالمشهد السياسي وإصرار نتنياهو، أكثر من شغل منصب رئيس الوزراء في الدولة العبرية، على البقاء في منصبه بأي ثمن، تفادياً لانتهاء حياته السياسية خلف القضبان، إذ يواجه نتنياهو محاكمات جارية في ثلاث قضايا فساد وخيانة أمانة وتلقي رشوة، لذلك تحالف مع الأحزاب الدينية المتطرفة وزعماء المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، لينضم إلى الحكومة شخصيات مدانة بالإرهاب والاحتيال المالي، من أمثال إيتمار بن غفير وزير الأمن الداخلي، وبتسلئيل سموتريتش وزير المالية، وغيرهما، ولهؤلاء أجندتهم المعلنة فيما يتعلق بالقضاء تماماً على الفلسطينيين عن طريق إبادتهم ما لم يقبلوا بالعيش عبيداً داخل إسرائيل.
لكن إسرائيل تواجه حالةً من التوتر الداخلي وتظاهرات غير مسبوقة كانت تنذر بوقوع حرب أهلية، على خلفية التعديلات القضائية التي يصر نتنياهو وحلفاؤه في الحكومة وزير الأمن الداخلي ووزير المالية، وياريف ليفين وزير العدل على تمريرها. وخلال أبريل/نيسان، أجبرت المعارضة الداخلية والخارجية نتنياهو على تأجيل تمرير التعديلات القضائية، التي تصفها المعارضة بأنها "انقلاب" قضائي، وهو ما أغضب حلفاءه في الائتلاف الحكومي، فقدم تنازلاً خطيراً للغاية إلى بن غفير يتمثل في تشكيل ميليشيات مسلحة تتبع الوزير المتطرف، وهو ما أثار حفيظة وانتقادات الأجهزة الأمنية والعسكرية.
إسرائيل تعلن "حالة الحرب" للمرة الأولى منذ 50 عاماً
في ظل الواقع المنقسم داخلياً بشدة، كان نتنياهو قد قرر انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار مع فصائل المقاومة الفلسطينية، واستهدف جيش الاحتلال قادة حركة الجهاد الإسلامي لتحقيق هدفين رئيسيين، الأول الهروب من المأزق الداخلي وتحويل الأنظار عن التشققات داخل إسرائيل نفسها. والثاني شق صف المقاومة بالتركيز على أن المواجهة ضد فصيل بعينه وهو حركة الجهاد الإسلامي، وليس باقي الفصائل، وخاصة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي تدير قطاع غزة.
وهذه الاستراتيجية ليست جديدة، بحسب مقال تحليلي نشره موقع ميدل إيست آي البريطاني عنوانه "لماذا ستفشل استراتيجية فرِّق تسُد في شق صف المقاومة في غزة؟"، رصد كيف أن العدوان على غزة هذه المرة كان مخططاً له من قبل، وهو ما أوردته صحف إسرائيلية مثل هآرتس وغيرها، رغم التوقعات بأن الهجمات الصاروخية ستوقع ضحايا مدنيين وليس فقط القادة المستهدفين.
وبعد إطلاق الغارات على غزة، أعلنت إسرائيل حالة التأهب القصوى وأوقفت الدراسة في المستوطنات المتاخمة للقطاع، فيما يعرف بغلاف غزة، وسط توقعات برد صاروخي من الجانب الفلسطيني، وفي الوقت نفسه سارع مكتب نتنياهو بالتواصل مع مصر والأردن للتدخل وإقناع الفصائل الفلسطينية بعدم الرد، في محاولة لعدم انفجار الموقف.
حسابات نتنياهو تبدو واضحة تماماً، فهي ليست جديدة من الأساس، ويمكن إجمالها في عدة نقاط: الأولى هي استرضاء حلفائه في الحكومة، وبخاصة بن غفير الذي هدد بمقاطعة اجتماعات الحكومة اعتراضاً على عدم حضوره جلسات المجلس الوزاري الأمني المصغر، والنقطة الثانية هي توحيد الداخل الإسرائيلي، ولو مؤقتاً، أما النقطة الثالثة فهي شق صف المقاومة، من خلال الرهان على استبعاد حماس من الرد وإلا فسيتم استهداف قادتها أيضاً، وهذا ما عبَّر عنه تحليل لصحيفة جيروزاليم بوست عنوانه "مئات الصواريخ أطلقت من غزة، فما الذي لم يحدث؟".
فشلت استراتيجية نتنياهو في شق الصف الفلسطيني، فغرفة العمليات المشتركة لحركات المقاومة في غزة أعلنت أن الفصائل موحدة وجاهزة للرد على الهجمات الإسرائيلية، أي أن استراتيجية الاحتلال القائمة على الفصل المادي بين أوصال فلسطين، في القدس والضفة الغربية وغزة، لم تنجح إلا في توحيد الفلسطينيين، بمن فيهم عرب 1948، في مواجهة العدوان بأشكاله المختلفة.
ومع استمرار السياسات الاستفزازية من جانب الحكومة الإسرائيلية، جاء الرد الفلسطيني "نوعياً ومزلزلاً وغير مسبوق"، لتجبر إسرائيل على إعلان "حالة الحرب" للمرة الأولى منذ هزيمة السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973، أي أن المثل العربي القائل "على نفسها جنت براقش" ينطبق اليوم على حكومة نتنياهو.
فعملية "طوفان الأقصى"، التي اندلعت كنتيجة منطقية للعدوان المستمر من جانب حكومة الاحتلال الحالية، تمثل "تطوراً نوعياً" في أدائها قياساً على الحروب والعمليات السابقة ضد دولة الاحتلال، كما قال الخبير العسكري والاستراتيجي اللواء فايز الدويري، في تصريحات لقناة الجزيرة، مضيفاً أن أنواع الصواريخ وطريقة استخدامها من جانب المقاومة الفلسطينية "يشيران إلى أن هناك تغيراً في فكر وإدارة المعركة على أرض الواقع".
وعبّر الدوري عن اعتقاده بأن من يقودون العمل العسكري من المقاومة الفلسطينية أصبحوا أكثر نضجاً، مقارنة بالحروب السابقة، حيث باتوا يوظفون الإمكانات بالاتجاه الصحيح، خاصة بعد نجاح الهجمات في شل الحركة بمطار بن غوريون الدولي.
ومن جانبه، قال المتحدث باسم "حماس" حازم قاسم، للأناضول: "هذا يوم فخر للشعب الفلسطيني حينما تطلق القسام عملية عسكرية للرد على الجرائم الإسرائيلية بحق الأسرى وجرائم القتل في الضفة"، مضيفاً: "هذا سلوك الشعب الفلسطيني للرد على الاحتلال وجرائمه، ومحاولة إنهاء القضية الفلسطينية، فنحن مع مرحلة نضال جديدة".