زيارة إلى روسيا واستقبال مسؤولين من أمريكا، الأولى تقدم دعماً والثانية تهدد بفرض عقوبات، وما بين هذا وذاك، يبدو أن خليفة حفتر يسير في حقل ألغام بعد كارثة درنة، فماذا يحدث؟
كان قائد قوات الشرق الليبي خليفة حفتر قد قام بزيارة إلى روسيا بعد أقل من أسبوع من استقباله قائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم" مايكل لانجلي، في مدينة بنغازي، وهو ما يعكس حجم الضغوط الممارسة على الرجل من أكبر قوتين عسكريتين في العالم لاستقطابه في صراعهما على النفوذ والهيمنة في القارة السمراء، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
في الوقت نفسه، كانت مدينة درنة في شرق ليبيا قد شهدت كارثة مروعة منتصف سبتمبر/أيلول، عندما انهار سدان تحت وطأة السيول والفيضانات الناجمة عن إعصار دانيال، حيث تدفقت كمية ضخمة من المياه جرفت في طريقها أحياءً بأكملها، مساء الأحد 10 سبتمبر/أيلول، ليفقد الآلاف حياتهم، ولا يزال الأحياء يعانون من التداعيات الكارثية للأزمة حتى الآن.
بين مطرقة أمريكا وسندان روسيا
يوم 26 سبتمبر/أيلول الماضي، وصل حفتر إلى موسكو، وكان في استقباله نائب وزير الدفاع الروسي يونس بيك يوفكيورف، وأجريت له مراسم استقبال "رسمية" عزف خلالها النشيد الوطني للدولتين ترحيباً بالزيارة. وتمكن حفتر من لقاء كبار الشخصيات السياسة والعسكرية وعلى رأسها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووزير دفاعه سيرغي شويغو، ما يعكس الأهمية التي توليها موسكو لتعزيز نفوذها في ليبيا.
وقبلها، في يوم 21 سبتمبر/أيلول، استقبل حفتر بمكتبه في منطقة الرجمة ببنغازي (شرق) قائد أفريكوم، الذي التقى أيضاً عدداً من قادة قوات الشرق الليبي. واللافت أن هذه الزيارة سبقتها زيارة نائب وزير الدفاع الروسي ذاته إلى بنغازي في 22 أغسطس/آب، قبل يوم من مقتل زعيم مجموعة فاغنر العسكرية يفغيني بريغوجين.
ولا يمكن أن ننسى الزيارة النادرة لمدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز، إلى ليبيا منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، ولقائه السريع بحفتر. وهذه اللقاءات المكثفة للمسؤولين الروس والأمريكيين مع حفتر، تعكس رغبة كل طرف كسب قائد قوات الشرق الليبي إلى صفه، في ظل حرب بالوكالة مشتعلة بينهما في أوكرانيا، وتمدد الروس في الساحل الأفريقي مقابل تراجع النفوذ الغربي بالمنطقة.
والجدير بالذكر هنا هو أن الوجود في جنوب ليبيا كان يمثل حلماً روسياً قديماً، وبدا أنه قد تحول إلى واقع قبل نحو 4 سنوات عبر وجود ميليشيات فاغنر الداعمة لحفتر. وتسعى واشنطن بأكثر إصرار من ذي قبل على تجفيف الوجود العسكري لفاغنر في أفريقيا، وبالأخص في ليبيا، التي تعد مربط الفرس بين قواعد موسكو في سوريا ومناطق انتشار فاغنر وحلفائها في كل من السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى ومالي، مع رغبتها في التمدد في بوركينا فاسو والنيجر، لمحاصرة قلعة النفوذ الفرنسي في تشاد.
وليس سراً أن واشنطن مارست ضغوطاً على حفتر، الذي يحمل جنسيتها، لطرد عناصر فاغنر من مناطق سيطرته في شرق وجنوب ليبيا، ولكن أخطر من ذلك ما نقله موقع "orientxxi" عن وكالة "أسوشيتد برس" الأمريكية عن مصادر مقربة من حفتر، أن "بيرنز، طلب منه وضع حد لنشاط فاغنر على الأراضي الليبية، وحذره من العقوبات؛ ما قد يؤثر عليه وعلى ضباطه". ونقل المصدر نفسه عن مسؤول ليبي، لم يسمه، أن "مسؤولين أمريكيين طالبوا بانسحاب المرتزقة من منشآت النفط الليبية".
ويُتابَع حفتر بالمحاكم الأمريكية في قضايا جنائية تتعلق بـ"جرائم حرب" رفعتها ضده عائلات ليبية مقيمة في الولايات المتحدة، لكن الإدارة الأمريكية لم تمنحه حصانة "رئيس جمهورية" التي طلبها، وبالمقابل لم تتابعه في أية قضايا متعلقة بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، كما تطالب بذلك هيئات وعائلات ليبية.
ورغم الضغوط الأمريكية حتى على حلفائها في مصر والإمارات والسودان للتخلي عن التعاون مع فاغنر في ليبيا، إلا أن حفتر لم يتخلّ عن الدعم الروسي، ويطلب مقابل ذلك ثمناً، ليس أقله الاعتراف بشرعيته وتزويده بأسلحة ثقيلة ومتطورة مثل الطائرات القتالية والمسيرات وأنظمة الدفاع الجوي.
واشنطن ترفض دفع هذا الثمن، لكن روسيا سبق لها أن زودت حفتر بأسلحة ثقيلة، وما زالت مستعدة لتقديم مزيد من الأسلحة والتدريب لجنوده، وصيانة المعدات العسكرية مقابل تثبيت وجودها العسكري من الجبهة الجنوبية لحلف شمال الأطلسي (الناتو).
وهذا ما يصعب على حفتر الاختيار بين العقوبات الأمريكية، وبين الدعم العسكري والدبلوماسي الروسي. ناهيك أن حفتر، قد لا يستطيع طرد عناصر فاغنر من ليبيا، لأنه قد يضطر لخوض معركة ضدهم، رغم أن أعدادهم تقلصت لأقل من ألف عنصر، بسبب الحرب في أوكرانيا، بعدما وصل عددهم لأكثر من ألفي عنصر، بحسب بعض التقديرات.
لكن قوة فاغنر في ليبيا ليست بعدد أفرادها، وإنما بوقوف روسيا خلفها، وقدرتها على تجنيد أعداد من المرتزقة الأفارقة الذين يجوبون الصحراء الكبرى بحثاً عن المال، بالإضافة إلى مرتزقة جندتهم في سوريا، بل وحتى تنظيم انقلابات وتمردات على حفتر ذاته أو دعم خصومه في المنطقة الغربية.
روسيا تريد قواعد عسكرية في ليبيا
بعد تمرد فاغنر ثم مقتل زعيمها بريغوجين، تسعى موسكو لوضع يدها على المجموعة العسكرية ونشاطاتها في الخارج، وإعادة هيكلتها، وتنظيم انتشارها في أفريقيا، وعلى رأسها ليبيا. وتحاول روسيا الخروج من التطويق الاستراتيجي الذي تسعى واشنطن وحلفاؤها فرضها عليها، من خلال تعزيز تمركزها في ليبيا. وتتيح ليبيا ميزتين على الأقل لروسيا، فموانئها لا تبعد سوى نحو ساعة طيران عن السواحل الأوروبية، وقواعدها الجوية في الجنوب قريبة جداً من السودان ودول الساحل الإفريقي.
ورغم انتشار عناصر فاغنر في عدة قواعد جوية ليبية في الشرق والجنوب مثل الجفرة (وسط) والخروبة (شرق) وبراك الشاطئ وتمنهنت (جنوب)، إلا أنها لم تتمكن بعد من أن يكون لها قاعدة بحرية مستقلة في سرت، ولا قاعدة جوية في الجفرة (شرق طرابلس)، مثلما هو الحال بالنسبة لقاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية في سوريا، بسبب الضغوط الأمريكية على حفتر.
لذلك يتوقع مراقبون، أن تسعى موسكو لافتكاك أكثر من قاعدة عسكرية في ليبيا، وربطها بخط إمدادها الجوي من روسيا إلى سوريا مروراً بليبيا ومنها إلى حلفائها في السودان ودول الساحل الأفريقي، وصولاً إلى جمهورية أفريقيا الوسطى.
وأشارت صحيفة "وول ستريت جورنال الأمريكية"، في مقال لها نشر في 15 سبتمبر/أيلول، إلى أن الروس يريدون حقوق رسو طويلة الأمد لسفنهم في موانئ شرق ليبيا، وبالأخص ميناءي طبرق وبنغازي.
بينما تسعى واشنطن عبر "أفريكوم" إلى منع ربط روسيا نقاط نفوذها في أفريقيا ببعضها، وهذا ما يفسر موقفها الحذر من الانقلابين في النيجر والغابون، حتى لا يضطر الحكام الجدد إلى الارتماء في أحضان موسكو، مثلما حدث في مالي وبوركينا فاسو.
لكن ما يريده حفتر هو السلاح والاعتراف بشرعيته وشرعية الحكومة الموالية له في الشرق والمكلفة من مجلس النواب، وواشنطن ما زالت ترفض تزويده بالسلاح، وموقفها منه متذبذب.
يقابل ذلك دعم روسي صريح لحفتر، حيث زودته سابقاً بأسلحة نوعية مثل طائرات سوخوي24 الهجومية، ومقاتلات ميغ29 متعددة المهام، بالإضافة إلى مضادات أرضية من نوع بانتسير، ناهيك عن توفير التدريب والصيانة.
والضغط على حفتر لا يأتي فقط من واشنطن، بل إن مصر، الداعمة لرئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، لا تنظر بعين الرضا لاستخدام فاغنر الأراضي الليبية لتزويد قوات الدعم السريع السودانية بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) بالأسلحة.
والصراع الخفي بين مصر وروسيا في السودان سيدفع ثمنه حفتر، فكلا البلدين حليف مهم له، وتضارب مصالحهما سيدفعهما للضغط عليه في اتجاهين متضادين. لكن حفتر يجيد لعبة التوازنات، فهو لا يريد إغضاب واشنطن ولا إزعاج موسكو ولا استفزاز القاهرة.
فمنذ 2014 حافظ حفتر على دعم الروس والمصريين وحتى الفرنسيين، دون أن يتعرض لعقوبات أمريكية، إلا أن الوضع تغير بعد الحرب الأوكرانية واشتداد الصراع بين أكبر قوتين عسكريتين، ما سيضطره للاختيار بينهما.
تأجيل مؤتمر إعمار درنة
في الوقت نفسه، لا يزال أهالي درنة يعانون من تداعيات كارثة الفيضانات وانهيار السدين، وتم الإعلان عن تأجيل مؤتمر إعمار درنة حتى مطلع نوفمبر/تشرين الثاني المقبل لأسباب "لوجستية". بينما تسبب الضرر الذي شهدته المؤسسات التعليمية بسبب الفيضانات التي ضربت مناطق شرق ليبيا وعلى رأسها مدينة درنة، بعدم تمكن الطلاب من الالتحاق بمقاعد الدراسة مع بداية العام الدراسي الجديد.
وأعلنت حكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة أن 95% من المؤسسات التعليمية شرقي البلاد تضررت بفعل السيول والفيضانات التي ضربت المنطقة في 10 سبتمبر/أيلول المنصرم. وكشفت أن "المدارس المتضررة في المناطق المنكوبة بلغت 114، موزعة على 15 بلدية". ولفتت الحكومة في مؤتمر صحفي عقده وزير التعليم موسى المقريف في 18 سبتمبر/أيلول، أن "الفرق الفنية تعكف على إعداد المقايسات الفنية للمؤسسات التعليمية المتضررة، ورصد التقديرات المالية اللازمة لأعمال الصيانة".
وفي السياق ذاته، أصدر رئيس حكومة الوحدة، قراراً يمنح بموجبه مصلحة المرافق التعليمية الإذن بالتعاقد لصيانة عدد من المدارس بالمناطق المنكوبة، وتخصيص 92 مليون دينار (نحو 19 مليون دولار) لصيانة 117 مدرسة ومرفقاً تعليمياً بالمدن المتضررة جراء الفيضانات. ووفق قراره الذي نشرته منصة "حكومتنا"، ألزم الدبيبة مصلحة المرافق التعليمية بوضع جدول زمني محدد للانتهاء من مشروعات الصيانة المكلفة بها.
وبعد تعليقها لعشرة أيام، مراعاة للظروف المأساوية للبلديات المنكوبة، وفق بيان للدبيبة، استؤنفت الدراسة من جديد في 24 سبتمبر/أيلول، في جميع أنحاء البلاد، باستثناء بعض المدن المتضررة.
عبد العزيز عيسى، مدير مكتب الإعلام بوزارة التربية، قال للأناضول إن "الدراسة لم تستأنف في درنة وعدد من البلديات المجاورة لعدم الانتهاء من تقييم جهوزية المؤسسات التعليمية في درنة، أما في غيرها من البلديات يعود لعدم الانتهاء من تنظيف المدارس من آثار السيول، وحاجة عدد من المدارس إلى صيانة خفيفة".
وأشار عيسى أيضاً إلى "وجود أطقم طبية وإغاثية وإنقاذ ونازحين في بعض المؤسسات التعليمية"، كاشفاً أن "استئناف الدراسة في درنة وغيرها من المناطق المتضررة سيتم الأسبوع المقبل (الجاري)". وهذا ما أكده إعلان وزارة التربية والتعليم في حكومة الوحدة الوطنية، الأحد، استئناف الدراسة في 15 بلدية تضررت جراء الفيضانات التي اجتاحت البلاد في سبتمبر/أيلول.
وقالت الوزارة إنه "تم استئناف الدّراسة في جميع المؤسسات التعليمية في بلديات الأبيار، وجردس العبيد، والمرج، ووردامة، والقبة، وعمر المختار، ومعظم المؤسسات التعليمية في بلديات أم الرزم، والأبرق، وسوسة، وشحات، والساحل، والمليطانية، والبيضاء، والقيقب، شرقي البلاد.