جاء إعلان فرنسا سحب سفيرها وقواتها من النيجر بمثابة المفاجأة، فهل استسلم الرئيس إيمانويل ماكرون أخيراً للأمر الواقع؟ ولماذا رفعت باريس الراية البيضاء في غرب أفريقيا؟
كانت النيجر، الدولة الواقعة في غرب أفريقيا والمستعمرة الفرنسية السابقة، قد شهدت انقلاباً عسكرياً يوم 26 يوليو/تموز الماضي أطاح بالرئيس محمد بازوم، وأعلن قادة الانقلاب وقف اتفاقيات التعاون الأمني والعسكري والاقتصادي مع باريس وأمهلوا سفير باريس 48 ساعة لمغادرة البلاد.
لكن فرنسا رفضت تنفيذ القرارات وقالت إن قادة الانقلاب العسكري لا يتمتعون بالشرعية، وبدا واضحاً أن باريس لا تنوي الاستسلام للأمر الواقع حتى وإن وصلت الأمور إلى حد السعي لهزيمة الانقلاب بالقوة المسلحة وإعادة الرئيس بازوم إلى منصبه، فلماذا تراجع ماكرون فجأة عن هذا المسار الآن؟
ماكرون يتراجع ويقرر الانسحاب من النيجر
في لقاء تلفزيوني مساء الأحد 24 سبتمبر/أيلول، أعلن الرئيس ماكرون أن السفير الفرنسي في النيجر سيعود "في الساعات المقبلة" إلى فرنسا وأن القوات الفرنسية ستغادر الدولة الأفريقية بحلول نهاية العام، بحسب موقع فرانس24 الفرنسي.
وبعد شهرين من إصرار باريس على رفض قرار قادة الانقلاب في النيجر مغادرة السفير، قال ماكرون إن "فرنسا قررت إعادة سفيرها" من النيجر، و"سنضع حداً لتعاوننا العسكري مع النيجر"، موضحاً أن الجنود الفرنسيين الـ1500 سيغادرون "في الأسابيع والأشهر المقبلة" على أن يتم الانسحاب الكامل "بحلول نهاية العام".
كان ماكرون قد أعلن خلال زيارة إلى منطقة سومور-أون-أوكسوا (وسط شرق فرنسا) أن المجلس العسكري الحاكم في النيجر "يحتجز" سفير بلاده، سيلفان إيتيه، وموظفين دبلوماسيين "رهائن" في السفارة.
"في النيجر، وفي الوقت الذي أتحدث إليكم فيه، لدينا سفير وموظفون دبلوماسيون تم احتجازهم رهائن في سفارة فرنسا"، وأضاف الرئيس الفرنسي وقتها أن العسكريين الذين أطاحوا بالرئيس محمد بازوم "يمنعون (عن هؤلاء) الطعام، والسفير يتناول حصصاً غذائية عسكرية".
ولدى سؤاله حينها عن احتمال عودة السفير إلى باريس، قال ماكرون: "سأفعل ما سنتفق عليه مع الرئيس بازوم، لأنه هو صاحب السلطة الشرعية وأنا أتحدث معه كل يوم".
الإعلان المفاجئ من جانب ماكرون يثير التساؤلات بطبيعة الحال عن الأسباب التي دفعته للتراجع، وماذا يعني هذا الانسحاب لما تبقى من نفوذ لفرنسا، ليس فقط في النيجر ولكن في منطقة الساحل وغرب أفريقيا بالكامل، وهي المنطقة التي كانت تعتبر ملعباً فرنسياً خالصاً حتى ما قبل سنوات قليلة مضت.
ويوم 25 أغسطس/آب 2023، أمهلت القيادة العسكرية في النيجر السفير الفرنسي في نيامي سيلفان إيتي 48 ساعة لمغادرة، إلا أن فرنسا رفضت ذلك، بل استنكرت طرد سفيرها، وقالت السلطات الفرنسية إن المجلس العسكري النيجري لا يملك سلطة المطالبة برحيل السفير الفرنسي.
وعلى إثر ذلك، أعلنت وزارة خارجية النيجر في مذكرة أرسلتها إلى وزارة الخارجية الفرنسية في 31 أغسطس/آب، رفع الحصانة عن السفير إيتي، وأنه سيتم ترحيله. وبعد هذه المذكرة، تم اتخاذ إجراءات أمنية مشددة حول السفارة الفرنسية في نيامي وبدأت قوات الأمن النيجرية في فحص المركبات الداخلة والخارجة من السفارة.
كما تم تعزيز الإجراءات الأمنية حول القاعدة الجوية المسماة "نيامي 101" في العاصمة، حيث يتمركز جنود فرنسيون. وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في بيان أصدره يوم 15 سبتمبر/أيلول الحالي، إن السفير إيتي "احتُجز كرهينة" ولم يُسمح بدخول الطعام إلى السفارة.
وكانت النيجر آخر دول منطقة غرب أفريقيا التي تنعم باستقرار نسبي، قبل أن تشهد انقلاباً خلط الأوراق، فالنيجر كانت تُرى أكثر الدول استقراراً في المنطقة، ولم يمر سوى بضعة أشهر على وصف وزير خارجية الولايات المتحدة، أنتوني بلينكن، لها بأنها "نموذج للديمقراطية". واستند هذا الرأي حينها إلى نجاح رئيسها محمد بازوم، الوسطي والمؤيِّد للغرب، في الفوز بانتخابات عام 2021 الرئاسية بأكثر من 55% من الأصوات، ليصبح أول زعيم للبلاد يتولى السلطة سلمياً منذ الاستقلال عن فرنسا في عام 1960.
ما الموقف من فرنسا في النيجر؟
أثار إعلان ماكرون سحب سفير بلاده وقواتها فرحة عارمة في النيجر، عكستها التظاهرات الحاشدة في العاصمة نيامي، وهو مؤشر على مدى تراجع شعبية فرنسا في الدولة التي كانت نالت استقلالها عن باريس عام 1960، بعد أكثر من قرن من الاستعمار المباشر، وظلت تحت النفوذ الفرنسي حتى الانقلاب الأخير.
المجلس العسكري الحاكم في النيجر رحب بالإعلان الفرنسي، معتبراً أن ذلك (الانسحاب) "خطوة جديدة باتجاه السيادة". وقال المجلس في بيان تُلِي عبر التلفزيون الوطني: "ستغادر القوات الفرنسية وكذلك السفير الفرنسي أراضي النيجر بحلول نهاية العام. هذه لحظة تاريخية تشهد على تصميم الشعب النيجري وإرادته. أي شخص أو مؤسسة أو كيان يهدد وجوده مصالح بلدنا سيتعين عليه مغادرة أرض أجدادنا شاء ذلك أم أبى".
ويتسق هذا الإعلان مع الموقف العدائي مع فرنسا منذ اللحظة الأولى، فمنذ توليه السلطة، ألغى الجيش بقيادة الجنرال عبد الرحمن تشياني اتفاقات التعاون الدفاعي بين باريس ونيامي، قائلين إن القوة الفرنسية موجودة "بشكل غير قانوني" في النيجر.
وخلال إعلانه عن الانسحاب، قال ماكرون إن التواجد العسكري لبلاده في النيجر "كان استجابة لطلب من الحكومة المطاح بها"، وأضاف ماكرون أنه أبلغ الرئيس المعزول بازوم، الأحد، أن بلاده قررت سحب سفيرها.
وعلى الرغم من رفض الرئيس الفرنسي الاعتراف بالمجلس العسكري باعتباره السلطة الشرعية في النيجر، لكنه قال إن باريس ستنسق سحب القوات مع قادة الانقلاب، وقال ماكرون: "سنتشاور مع الانقلابيين لأننا نريد أن تسير الأمور بهدوء".
وبهذا التطور، تقلّص نفوذ فرنسا في مستعمراتها السابقة بغرب أفريقيا في السنوات الأخيرة، فيما تزايد الانتقاد الشعبي اللاذع لها. إذ طُردت القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو المجاورتين منذ الانقلاب الذي وقع في كل منهما، الأمر الذي قلص كثيراً من نفوذ باريس في المنطقة.
إذ ظلت النيجر شريكاً أمنياً رئيسياً لفرنسا والولايات المتحدة اللتين استخدمتاها قاعدة لمحاربة التمرد في منطقة الساحل بغرب أفريقيا ووسطها إلى أن وقع بها الانقلاب، حيث أصبحت القاعدة العسكرية الفرنسية في نيامي عاصمة النيجر مركزاً للاحتجاجات المناهضة لفرنسا منذ الانقلاب.
كما تنظم مسيرات بانتظام في الشوارع المحيطة بالقاعدة للمطالبة بطرد القوات المتمركزة في العاصمة. ونظم عشرات الآلاف احتجاجاً على فرنسا هذا الشهر وحملوا خلاله نعوشاً ملفوفة بالعلم الفرنسي. كما لوح متظاهرون مؤيدون للانقلاب في نيامي بالأعلام الروسية، مما زاد مخاوف الدول الغربية من أن النيجر يمكن أن تحذو حذو مالي وتستعيض عن قواتها بمقاتلي فاغنر الروسية.
لماذا رفع ماكرون "الراية البيضاء"؟
لا شك أن هذه المعطيات لم تكن غائبة عن الرئيس الفرنسي، فلماذا قرر الاستسلام، إن جاز التعبير؟ ولماذا استغرق الأمر شهرين حتى يتم اتخاذ قرار سحب السفير والقوات الفرنسية من النيجر، علماً بأن الموقف العدائي تجاه باريس من جانب قادة الانقلاب كان واضحاً منذ اللحظة الأولى؟
بحسب أغلب الخبراء والمراقبين، وبصفة خاصة الفرنسيين أنفسهم، الواضح أن السبب الرئيسي وراء قرار ماكرون هو فقدان الأمل في هزيمة انقلاب النيجر عبر التدخل العسكري من جانب المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، والتي كانت قد هددت بالفعل بالتدخل العسكري وبدا الأمر وشيكاً.
كانت إيكواس، المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، قد أمهلت قادة الانقلاب في النيجر مهلة حتى 6 أغسطس/آب الماضي للتراجع، وإلا فالحرب ستندلع لا محالة. لم يتراجع قادة الانقلاب، بل أعلنوا عن محاكمة بازوم بتهمة "الخيانة العظمى"، فاجتمع قادة جيوش إيكواس لاتخاذ قرار الحرب، وهو ما تم الإعلان عنه بالفعل في قمة إيكواس الطارئة في غانا، التي اختتمت أعمالها الجمعة، 18 أغسطس/آب.
لكن اتخاذ قرار الحرب شيء وتنفيذه شيء آخر، خصوصاً أن إيكواس نفسها تضم أعضاء يرفضون قرار الحرب، ليس هذا فحسب بل أرسلت مالي وبوركينا فاسو بالفعل طائرات عسكرية إلى النيجر، وذلك تعبيراً عن الاستعداد للمشاركة في "الدفاع" عنها في وجه أي هجوم محتمل.
وفي هذا السياق، ومع مرور الوقت وتثبيت الموقف على الأرض في النيجر وتزايد المشاعر العدائية الشعبية تجاه فرنسا، تراجعت تماماً، بل ربما تلاشت فكرة التدخل العسكري من جانب إيكواس لإعادة بازوم إلى السلطة ودحر الانقلاب، مما أسقط في يد باريس وأفقدها أهم ورقة ضغط كانت تعول عليها.
وفي الإطار نفسه أيضاً، جاء انقلاب الغابون نهاية أغسطس/آب بمثابة ضربة قاصمة لأي احتمالات تدخل عسكري من جانب إيكواس، بدعم من باريس، في النيجر، حيث بات واضحاً أن المشاعر العدائية تجاه فرنسا في المنطقة قد وصلت إلى نقطة الغليان، ومن يغامر من رؤساء أو حكام دول المنطقة بالظهور كما لو كان يتبنى المواقف الفرنسية ربما يفقد سلطته من خلال انقلاب عسكري، فعدوى الانقلابات تفشت في المنطقة بصورة لم يكن أحد يتخيلها.
ومن ناحية أخرى، يرى كثيرون أن الموقف الأمريكي أيضاً لعب دوراً في استسلام ماكرون وتسليمه بالأمر الواقع. ففي حين أدانت الولايات المتحدة وأوروبا الانقلاب، فإنَّ السياسة الواقعية أخذت الأسبقية، حتى الآن، على حساب النزعة المثالية، إذ تبنت الولايات المتحدة والقوى الأوروبية نهجاً أكثر براغماتية؛ إدراكاً منهما للأهمية الاستراتيجية للنيجر، خصوصاً في سياق جهود مكافحة الإرهاب والاستقرار الأوسع نطاقاً في منطقة الساحل. وبدلاً من فرض عزلة على المجلس العسكري ودفعه لروسيا كخيار وحيد، يبدو أن الانخراط في الحوار، بهدف ضمان عدم تعريض مصالحها الأمنية في المنطقة للخطر، أصبح الحل الوحيد المتاح أمام تلك القوى.
الخلاصة هنا هي أن السلطات الفرنسية كانت تعول على تدخل عسكري سريع وحاسم من جانب إيكواس، وكانت ستدعمه بالطبع ولو بشكل غير معلن، لكن تراجع احتمالات هذا السيناريو والنجاح الظاهر لقادة الانقلاب في النيجر في تثبيت أقدامهم في السلطة، إضافة إلى الموقف الإقليمي والدولي غير المستعد لصراع دموي ومفتوح في منطقة غرب أفريقيا، كلها عوامل تجمعت لتجبر ماكرون على الاستسلام للأمر الواقع وإعلان الانسحاب من النيجر.