اُغتيل هارديب سينغ نيجار، الهندي الكندي الذي كان يدعو علناً لانفصال السيخ وكان مطلوباً بموجب قانون "منع الإرهاب" الهندي، في كمين نصبه له مسلحان ملثمان في موقف للسيارات خارج معبده في ساري بكولومبيا البريطانية، في 18 يونيو/حزيران 2023.
وقال رئيس الحكومة جاستن ترودو، أمام البرلمان الكندي، إن "أي تورط لحكومة أجنبية في مقتل مواطن كندي على الأراضي الكندية انتهاك غير مقبول لسيادتنا"، وقال إنه تحدث بالفعل مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي عن هذا الحادث في اجتماع قمة العشرين هذا الشهر.
ونفت دلهي هذه المزاعم نفياً قاطعاً، ووصفتها بالـ"سخيفة"، لكن هذه القضية أثارت الفضول حول جناح البحث والتحليل الهندي R&AW (الاستخبارات الخارجية الهندية) وأساليبه وأهدافه. فما حقيقة الاستخبارات الخارجية الهندية؟ وهل تحولت إلى آلة قتل عالية التجهيز تطارد الخصوم خارج الحدود مثل "الموساد الإسرائيلي"؟
ما حقيقة جهاز الاستخبارات الخارجية الهندية؟
تقول صحيفة The Times البريطانية إن البعض يرى أن الحقيقة بين هذا وذاك، في المنطقة الرمادية التي تعمل فيها الاستخبارات الخارجية الهندية. فخلال تاريخ الهند المضطرب، كانت الاستخبارات الهندية تعمل وفقاً لمعتقدات وسياسات القادة السياسيين في البلاد.
وبعد الاستقلال عن الحكم البريطاني عام 1947، رفض جواهر نهرو، أول رئيس وزراء للهند، إنشاء وكالة استخبارات خارجية، جراء التجربة المريرة مع الاستعمار والرغبة في سياسة خارجية قائمة على المبادئ.
على أن ابنته وخليفته، أنديرا غاندي، ارتأت أن هذا التوجه المعرقل أعمى الهند عن التهديدات الأمنية. وفي سبتمبر/أيلول عام 1968 تأسست "الاستخبارات الخارجية الهندية" بأمر تنفيذي، لتتولى مسؤولية توفير المعلومات الاستخباراتية والحفاظ على النفوذ في البلدان المجاورة، خاصة باكستان. وخلال ولايتيها، وولاية ابنها راجيف غاندي، تلقت الوكالة رعاية سياسية قوية. ومع ذلك، لم يتوفر لها قط ميثاق واجبات قانوني. وبالتالي، ظل اختصاص الوكالة معتمداً على معتقدات وسياسات رئيس الوزراء.
وسعى بعض القادة إلى تقييد عمليات الوكالة؛ وكان للآخرين موقف أكثر حيادية. على أن ناريندرا مودي، منذ أصبح رئيساً للوزراء عام 2014، دعم الوكالة بقوة في معركتها مع ما سماها "التهديدات الأمنية للهند".
اغتيالات سرية
ورغم الاختلافات بين الساسة، كانوا جميعهم ضد الاغتيالات. ونتيجة لذلك، باتت الوكالة، المستاءة من هذه القيود، تلجأ إلى أساليب مبتكرة، وتخترق الجماعات والمنظمات التي تعارضها، وتعمل بمبدأ "فرِّق تسُد" للقضاء على أعدائها بطرق غير مباشرة. لكن العامل الرئيسي وراء هذه الاغتيالات السرية هو أنه لن يُعرف أبداً أن الوكالة هي الجاني الفعلي.
كان التوسع الخارجي لشبكات الاستخبارات الهندية يركز في البداية على التهديدات العسكرية من باكستان والصين. وسيطرت تدريجياً على التهديدات من الجماعات الانفصالية التي حاولت تفكيك "أكبر دولة ديمقراطية في العالم".
وبحلول عام 1970، كانت مكاتب الاستخبارات الهندية في الدول المجاورة للهند، وكذلك باريس وبون وإسطنبول وهانوي وبنوم بنه وموريشيوس وفيجي وترينيداد، تراقب التطورات العسكرية في باكستان والصين.
ومع تنامي الإرهاب الذي ترعاه الدولة في البنجاب وكشمير وتهديد نمور التاميل خلال الثمانينيات، مدت الاستخبارات الهندية شبكاتها إلى أمريكا الشمالية وجنوب شرق آسيا وأستراليا ودول الخليج. وأدى الدعم القوي للانفصالية بين المغتربين السيخ والكشمير والتاميل إلى توسع الاستخبارات الهندية. لكن عملياتها اقتصرت على المراقبة والعمل السياسي ولم تمتد إلى القتل.
اقتباس التجربة الإسرائيلية
تقول صحيفة ذي تايمز إنه مع تصاعد تهديد الجماعات المسلحة في أوائل التسعينيات، كان إعجاب الاستخبارات الهندية بنجاح دولة الاحتلال الإسرائيلي في الاغتيالات يزداد يوماً بعد آخر، إذ نجحت تل أبيب في اغتيال قائمة طويلة ومتنوعة من الشخصيات، مثل مجرمي حرب نازيين، ومهندسي أسلحة وعلماء مصريين بالرصاص، أو برميهم من الشرفات أو مسمومين، من بلجيكا إلى البرازيل.
لكن غياب الدعم السياسي للفكرة أضعف حماس وكالة الاستخبارات الخارجية الهندية لها. وبعد تفجيرات عام 1993، بدأت الوكالة في اختراق العصابات. ورغم أن هذا النهج ليس مسجلاً، فهو يعود في الأصل إلى فكر استراتيجي هندي قديم. وكانت الأسلحة التي استعانت بها هي الإقناع، والرشوة، ومبدأ "فرِّق تسُد"، والعنف المباشر. وباستخدام الوسائل الثلاث الأولى، نجحت الاستخبارات الهندية في وأد عدد من حركات التمرد الداخلية، واستمالة القادة الانفصاليين إلى السياسة السائدة في الهند.
ومن منظور الاستخبارات الهندية، كانت سياسة فرِّق تسد مثالية لأنها تؤدي إلى قتل أهدافها دون الكشف عن تورطها. وبما أن الاغتيالات هي القاعدة السائدة في هذه البيئات الإجرامية، فلم يكن على الوكالة إلا استغلال ذلك لصالحها.
التعاون الهندي مع الموساد
واتبعت الاستخبارات الهندية هذه السياسة في البلدان المجاورة. فتجارة العملات المزيفة في نيبال تفاقم الإرهاب في الهند، وتتسبب خصومة العصابات المتنافسة على السيطرة على هذه التجارة المربحة في اغتيالات متبادلة. وهذه الحروب بين العصابات وفرت لها وسائل يمكن إنكارها لتفكيك شبكات الإرهاب، وهذا لا يتطلب دوماً موافقة سياسية.
على أن الحوادث المميتة مثل الهجمات في مومباي عام 2008 التي قُتل فيها 175 شخصاً بعد سلسلة من الهجمات المنسقة التي شنتها جماعة لشكر طيبة الباكستانية، أفسحت المجال للتشكيك في التحفظ السياسي تجاه الاغتيالات المباشرة. وبعد ذلك، عززت المخابرات الهندية تعاونها مع الموساد لتعلم المهارات المطلوبة لتنفيذ الاغتيالات في الخارج. ومع ذلك، بدا هذا بمثابة رد فعل غير محسوب في أعقاب هجوم مروع، ولم يسفر عن نتائج فورية.
وعام 2014، حين عين مودي أجيت دوفال (الرئيس السابق لمكتب الاستخبارات، هيئة مكافحة التجسس الهندية) مستشاراً للأمن القومي، أثارت سمعته بين العامة باعتباره جيمس بوند الهند تطلعات جامحة بأن تصبح الهند "إسرائيل الجديدة". على أنه في خضم هذه النشوة ضاعت حقيقة أن دوفال ينتمي إلى ثقافة الاستخبارات التي نجحت في تنفيذ تكتيك فرِّق تسُد في الماضي.
وقد عزَّز مودي ودوفال الاستخبارات الهندية من الناحية التشغيلية بإمدادها بمزيد من العاملين والمهارات. على أن الإجابة على سؤال إن كان المبدأ القديم الذي يعتمد على استغلال الانقسامات بين الأهداف لا يزال قائماً، أو إن كانت الهند تبنت نهجاً يشبه نهج الموساد في التورط المباشر في عمليات الاغتيال في الخارج، تكمن في الأدلة التي تزعم كندا أنها تمتلكها. ولو نشرت كندا أدلة موثوقة تثبت تورط الاستخبارات الهندية في اغتيال نيجار، فسيبتهج مؤيدو مودي أخيراً بأن الهند باتت بالفعل "إسرائيل الجديدة"، كما تقول الصحيفة البريطانية.