أثارت الفيضانات وانهيار السدين في درنة بليبيا مخاوف خبراء من تكرار السيناريو الكارثي على مستوى أضخم بشأن سد النهضة الإثيوبي، وما قد يعنيه ذلك من خراب للسودان ومصر، فما احتمالات ذلك فعلاً؟
كانت مدينة درنة في شرق ليبيا قد شهدت كارثة مروعة عندما انهار سدان تحت وطأة السيول والفيضانات الناجمة عن إعصار دانيال، حيث تدفقت كمية ضخمة من المياه جرفت في طريقها أحياءً بأكملها، مساء الأحد 10 سبتمبر/أيلول، ليفقد الآلاف حياتهم، وسط تباين حاد في أرقام الضحايا حتى الآن.
وأثارت الكارثة مخاوف في مصر والسودان بشأن مدى سلامة سد النهضة الإثيوبي ومخاطر انهياره ووقوع "الكارثة الكبرى"، واعتبر عدد من الخبراء في البلدين أن مثل هذا السيناريو يظل ماثلاً ويجب أن يؤخذ على محمل الجد، بينما اعتبرت مصادر إثيوبية أن السد آمن، وأن هناك "محاولات لشيطنة مشروع سد النهضة وإثيوبيا"، فأين الحقيقة؟
سد النهضة الإثيوبي.. قنبلة موقوتة؟
الجيولوجي وخبير المياه المصري عباس شراقي حذر من خطر تكرار سيناريو درنة في سد النهضة، وذلك في منشور له على صفحته في فيسبوك، قارن خلاله بين انهيار السدين في درنة الليبية وما نجم عنه من فيضانات كارثية أوقعت آلاف القتلى ودماراً هائلاً في البنى التحتية، وبين مخاطر أن تتكرر المأساة في المشروع الإثيوبي المائي العملاق، الذي شيدته أديس أبابا على مجرى النيل الأزرق وأثار أزمة كبرى بين مصر والسودان وإثيوبيا.
وكتب شراقي في منشوره: "سد النهضة يدخل السودان ومصر دائرة الطوفان: سد النهضة دخل بالفعل دائرة الخطر الكارثى على كل من السودان ومصر بعد إنتهاء التخزين الرابع وحجز حوالى 41 مليار م3، وطبقا لمقاييس تقسيم السدود الخطرة فهو يعد من اشد السدود خطورة على حياة الانسان (HIGH HAZARD POTENTIAL).
"يعتمد تصنيف مخاطر السدود ليس على حالة السد الهندسية أو سعتة، ولكن أساساً على مدى الضرر الذى قد يحدث فى اتجاه المصب فى حالة إنهيار السد، من حيث العدد المحتمل للخسائر فى الأرواح، والأضرار الجسيمة فى الممتلكات للمنازل والمبانى الأخرى من سدود ومصانع وكبارى ومطارات وموانئ، والثروة الحيوانية، والتسبب فى فيضانات الطرق الرئيسية والجسور والمنشآت.
إنهيار سد بوط الذين كان يخزن 5 مليون م3 فقط، والذى يقع على أحد الروافد الفرعية فى حوض النيل الأزرق بالسودان فى 2 أغسطس 2020، دمر أكثر من 600 منزل وتشريد الآلاف، غير فكر الكثيرين فى السودان الذين كانوا يؤيدون سد النهضة، كما أن إنهيار سدى وادى درنة وأبو منصور فى ليبيا 10 سبتمبر 2023 وهما يخزنان حوالى 28 مليون م3، أديا إلى مقتل أكثر من 11 ألف وتشريد عشرات الآلاف وتدمير ثلث مدينة درنة، لفت انتباه العالم كله الآن نحو تقييم السدود الكبيرة والتى يتجاوز عددها 50 ألف سد."
وحلل شراقي ما حدث في ليبيا من تراكم لعدة عوامل بشرية وأيضاً طبيعية ساهمت في وقوع الكارثة، موضحاً أن "سد النهضة أكبر من السدين (الليبيين) معاً بحوالي 3000 مرة، ومنطقة سد النهضة تزيد عن درنة في خطورة الفيضانات السنوية والانحدارات الشديدة والنشاط الزلزالي الأكبر في القارة الأفريقية".
جاءت التصريحات بعد مأساة ليبيا وبعد إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، قبل أيام من اكتمال عملية تعبئة سد النهضة الضخم على النيل الأزرق، والذي يُقدّم على أنه الأكبر في أفريقيا، وهو ما نددت به مصر مؤكدة أن هذا الإجراء يشكل "مخالفة قانونية".
كان مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، قد كتب الأحد 10 سبتمبر/أيلول، على منصة التواصل الاجتماعي إكس: "تهانينا للجميع على الملء الرابع "والأخير" لسد النهضة الإثيوبي. لقد أثمرت مثابرتنا الوطنية في مواجهة كل الصعاب". وهو اليوم نفسه الذي وقعت فيه كارثة انهيار سدي درنة.
وبالنسبة لأديس أبابا، يعتبر سد النهضة مشروعاً قومياً حيوياً، وبلغت تكلفته أكثر من 3.7 مليار دولار، لكن المشروع في قلب صراع إقليمي منذ أن بدأت إثيوبيا العمل فيه في 2011.
وكان خبير المياه المصري عباس شراقي، في دراسة علمية سابقة له كانت قد نشرت في مايو/أيار 2011 عن هذا المشروع، قد كشف عن بعض ما يمثله السد، وخصوصاً المخاطر على المنطقة. ومن أبرز ما ورد في تلك الدراسة أن من أضرار سد النهضة: "زيادة فرص تعرض السد للانهيار نتيجة العوامل الجيولوجية وسرعة اندفاع مياه النيل الأزرق، والتي تصل في بعض الأيام (سبتمبر/أيلول) إلى ما يزيد عن نصف مليار متر مكعب يومياً، ومن ارتفاع يزيد على 2000 متر نحو مستوى 600 متر عند السد، وإذا حدث ذلك فإن الضرر الأكبر سوف يلحق بالقرى والمدن السودانية، خاصة الخرطوم، التي قد تجرفها المياه بطريقة تشبه التسونامي الياباني عام 2011".
وأضافت الورقة البحثية التي أشرف عليها شراقي: "هناك فرص أكبر لحدوث زلزال بمنطقة الخزان (سد النهضة) نظراً لوزن المياه التي تم استقدامها إلى هذه المنطقة، والتي هي عبارة عن بيئة صخرية متشققة".
وأوضح شراقي في تصريح لموقع فرانس24 الفرنسي بأن "سد النهضة معرض للانهيار لأسباب جيولوجية بشكل رئيسي. حيث إن زيادة سعة الاستيعاب جاء لعوامل سياسية، وتم دون وجود دراسات علمية دقيقة، رغم أن إثيوبيا هي من منطقة زلزالية نشطة، وتقع في منطقة الأخدود الأفريقي، وهي أيضاً منطقة بركانية، وهي مكونة من صخور بازلتية نارية بركانية تتحلل بمياه الأمطار، والتي تتساقط بكميات غزيرة خلال فصل الصيف، خصوصاً شهري أغسطس/آب وحتى سبتمبر/أيلول".
وأضاف شراقي: "إضافة إلى ذلك كله توجد أيضاً انحدارات كبيرة؛ حيث إن السد يقع على علو حوالي 500 متر عن سطح البحر، فيما أن البحيرات أعلى ما يوجد انحدارات شديدة تكون عالية الخطورة في حال وقوع فيضانات".
وضرب شراقي مثلاً بتجربة إثيوبيا السابقة مع تشييد السدود، مثلما حدث في عام "2007 لسد تاكيزي الذي شهد انهياراً جزئياً أودى بحياة 47 من عمال الشركة الصينية التي كانت تعمل عليه نتيجة فيضان المياه من أعلى السد. كما أن هناك تجربة نهر أومو الذي يصب في بحيرة تركانا، وقد سعت إثيوبيا لإقامة مشاريع عليه مثل مشروع نفق جيبا 2 الذي انهار نتيجة فيضان محمل بالطمي، وقد تم افتتاحه في 10 يناير/كانون الثاني لكنه انهار لاحقاً".
الجيولوجي المصري أضاف أيضاً أن "عوامل الانهيار المحيطة بسد النهضة الإثيوبي هي غير موجودة في منطقة السد العالي بمصر، والتي هي غرانيتية ولا توجد فيها فوالق كبيرة أو جبال أو انحدارات شديدة، كما أنها تفتقر إلى التساقطات المطرية ولا تشهد حدوث فيضانات. كما أنها منطقة مستقرة من ناحية الزلازل".
وبالنسبة إلى السعة الآمنة من المياه التي ينبغي أن يكتفى بها لجعل سد النهضة آمناً، قال شراقي: "المطلوب خفض السعة التخزينية لسد النهضة إلى سعة أقل من 40 مليار متر مكعب حتى يكون آمناً بشكل أفضل".
هل تختلف حالة ليبيا عن إثيوبيا؟
محمد خليفة صديق، أستاذ العلوم السياسية بجامعة أفريقيا العالمية في السودان، يرى من جانبه أنه "مع التأكيد على أن الحالة الليبية في درنة تختلف عن حالة سد النهضة جيولوجياً ومناخياً، لكن سيناريو انهيار سد النهضة يظل ماثلاً. خاصة أن هناك سدوداً انهارت من قبل في إثيوبيا مثل مشروع سد جيبا 2 الذي انهار 3 مرات، وكان اَخر انهيار بعد افتتاحه بـ10 أيام فقط".
وبحسب صديق، قد يكون الإشكال في سد النهضة نفسه والسد الركامي؛ لأن مسألة أمان السد لا تجد اهتمام إثيوبيا رغم النص عليها في اتفاق إعلان المبادئ في الخرطوم في مارس/آذار 2015 البند الثامن: مبدأ أمان السد، لأن السد حال انهياره لن تتضرر منه إثيوبيا لأنه يقع قريباً من الحدود السودانية، ومنطقة السد أصلاً كانت أراضي سودانية حتى 1906″.
"لكن حتى لو تمت مسألة الأمان بأفضل المواصفات، فلا توجد أي ضمانات بعدم وجود كوارث طبيعية، مثل الزلازل، خاصة أن السد يقع بمنطقة الأخدود الأفريقي العظيم، بجانب الفيضانات الشديدة والأعاصير المدمرة في ظل التغير المناخي الذي يجتاح العالم، في ظل التعنت الإثيوبي واستمرار المفاوضات اللولبية بين الأطراف بلا طائل منذ أكثر من عشر سنوات"، بحسب الخبير السوداني.
وفي هذا الإطار، قال صديق لفرانس24: "لا بد أن يتعامل السودان مع تهديدات سد النهضة بجدية ويبحث طرقاً علمية ومعالجات غير تقليدية للتعامل مع تهديد انهيار سد النهضة، مثل حفر ترعتين شمال سد النهضة داخل إثيوبيا، واحدة في اتجاه شمال شرق وواحدة في اتجاه الغرب؛ لاستيعاب أي مياه تنجم عن انهيار السد، أو حفر ترعتي كنانة والرهد داخل الأراضي السودانية. توجد أفكار أخرى طرحها متخصصون يجب أن تؤخذ على محمل الجد".
ولا يبدو هذا القلق غير مبرر في حقيقة الأمر، في ظل ما سببته الكارثة في درنة من مأساة استرعت انتباه العالم أجمع، وألقت الضوء على مسألة السدود بشكل عام. فقد أعرب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) عن مخاوفه بشأن سدين آخرين في ليبيا هما سد وادي جازة -بين مدينتي درنة وبنغازي المدمرتين جزئياً- وسد وادي القطارة بالقرب من بنغازي. ولكن، وفقاً للمكتب، هناك "تقارير متناقضة" بشأن استقرار السدين.
ولا تقتصر التقارير المتضاربة حول استقرار السدود في ليبيا، إذ كانت هناك تقارير متضاربة في البرازيل قبل انهيار سد شيدته شركة التعدين ساماركو في ولاية ميناس جيرايس، مطلع عام 2019، ما دمر قرية بشكل شبه كامل وأسفر عن مقتل 270 شخصاً. وقبل الكارثة، خرجت تقييمات تقول إن السد آمن.
ويعد السد وسيلة لجمع وتخزين المياه، فيما تكون المياه المجمعة طبيعية أو مياه صرف في حالة تشييد سد قرب منجم، لكن المياه المجمعة في حالة السدود قرب المناجم تحتوي على مخلفات تلك المناجم، التي قد تكون مزيجاً من المواد والمعادن والمواد الكيميائية والنفايات السائلة بعد استخراج المواد الخام.
وبشكل عام تشيَّد السدود بهدف تخزين المياه للزراعة وتربية الحيوانات ومكافحة التلوث وتوليد الكهرباء. وتنقسم السدود الاصطناعية بشكل رئيسي إلى نوعين هما "السدود الترابية أو الركامية"، و"السدود الخرسانية". وتعد السدود الترابية أو الركامية الأكثر شيوعاً؛ إذ يمكن إنشاؤها باستخدام النفايات الناتجة عن عمليات التعدين وتكون مادتها الإنشائية الأساسية هي الحصى أو الركام والرمال. وتعتمد قدرة السدود الترابية أو الركامية في مقاومة ضغط المياه على وزن كتلتها وقوتها ونوع المواد المستخدمة في البناء.
أما السدود الخرسانية فتنقسم إلى السدود الخرسانية الثِّقلية والسدود المدعمة والسدود المقوسة، وتعد السدود الخرسانية الثقلية هي الأكثر شيوعاً بينها، حيث تُصنع من كتل خرسانية عمودية مع إحكامها بمفاصل مرنة. هذه السدود تكون ثقيلة الوزن وقادرة على مقاومة ضغط الماء الذي يضرب جدار السد بشكل أفقي من ناحية المنبع.
ماذا تقول إثيوبيا عن تلك المخاوف؟
لكن على الجانب الآخر يرى الإثيوبيون الأمر بصورة مغايرة تماماً، وقال ياسين أحمد بعقاي رئيس المعهد الإثيوبي للدبلوماسية الشعبية للموقع الفرنسي: "بالنسبة إلى سد النهضة وتصريحات د. عباس شراقي، فليست هناك أوجه تشابه بين انهيار السدين في مدينة درنة الليبية والتنبؤ بانهيار سد النهضة في إثيوبيا، أولاً بالنظر إلى الأسباب التي أدت إلى انهيار السدين في ليبيا، حيث إن الكارثة وقعت بسبب إعصار دانيال، وكثير من الخبراء الليبيين منهم رمضان حمزة والمتحدث باسم جهاز الإسعاف الليبي أسامة علي، يؤكدون على أن عدم صيانة السدين في درنة كان له تأثير واضح في حدوث الفيضانات".
ويفسر بعقاي الأمر بأن الأسباب الرئيسية لكارثة درنة تتعلق بأن السدود في مناطق النزاعات أو الحرب قد يتم إهمال صيانتها بشكل دوري، وهو حال ليبيا منذ 2011 وحتى الآن.
"أما فيما يتعلق بسد النهضة فهناك دراسات أجريت على أمان وموقع السد، وهو آمن بالنسبة إلى الزلازل، وبني على أساس دراسات ومعدل أمان في مستوى عالٍ، أشرفت عليه الشركة الإيطالية وي بيلد Webuild المعروفة باسم ساليني Salini، والتي بنت العشرات من السدود في العالم. وكذلك كان هناك لجنة من الخبراء متكونة الدول الثلاث إثيوبيا ومصر والسودان، إضافة إلى لجان أخرى دولية من فرنسا وهولندا، هذه اللجان الفنية المكونة من الخبراء قدمت دراسات حول سلامة وأمان السد"، بحسب رئيس المعهد الإثيوبي للدبلوماسية الشعبية.
واستطرد بعقاي قائلاً: "هنا أستشهد بعالمين في الجيولوجيا، المصري فاروق الباز الذي أكد مراراً وتكراراً أن منطقة بناء السد آمنة من الزلازل ومبنية على أسس علمية، والعالم السوداني سلمان محمد أحمد سلمان الذي أكد أيضاً وقال إن سد النهضة مبني على أسس علمية وليس في منطقة زلزالية، وبني على أسس تكنولوجية وتقنية عالية".
ويرى الرجل أن "هناك الآن حملة إعلامية مصرية لتوظيف هذه الكوارث الطبيعية مثل ليبيا والمغرب وسوريا وتركيا في تخويف الشعوب العربية وخلق فزاعة حول انهيار سد النهضة. لكن لماذا يتنبؤون بانهيار سد النهضة وليس السد العالي؟ علماً بأن الأخير بني قبل 60 سنة بتكنولوجيا وخبراء فنيين من الاتحاد السوفييتي سابقاً وفق معايير وجودة ذلك الوقت. لماذا تهدد الكوارث الطبيعية فقط سد النهضة؟ هناك محاولات لشيطنة مشروع سد النهضة وإثيوبيا".
كان الخبير المصري أسامة الباز قد قال في تصريحات سابقة إن احتمال انهيار سد النهضة قد يكون ضعيفاً، مفسراً ذلك بأن الشركات العالمية والجهات المساهمة في بناء السد والتي أنفقت الملايين، ما كانت لتفعل ذلك إلا وهي على يقين من أن أموالها في محلها، وأن دراسات السد سليمة.