انخفض تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى الصين إلى أقل مستوى منذ ربع قرن، في مؤشر على أن الشركات الأجنبية بدأت ما يمكن وصفه بالخروج العظيم من الصين بعدما جنت أرباحاً طائلة من هذا البلد، فكيف سيؤثر تراجع الاستثمارات الأجنبية في الصين على اقتصاد البلاد، وهل هذا نعمة أم نقمة؟
وانخفض أحد قياسات الاستثمار الأجنبي الجديد في الصين إلى أدنى مستوى له منذ 25 عاماً في الربع الثاني، مما أثار المخاوف بشأن مدى تأثير التوترات الجيوسياسية وتباطؤ انتعاش الاقتصاد على ثقة الأعمال، حسبما ورد في تقرير لوكالة Bloomberg.
قبل بضع سنوات، كان أحد أكبر موضوعات الاستثمار العالمية هو كيف أصبحت الأسواق المالية الصينية قابلة للاستثمار بشكل متزايد وجذابة للمستثمرين الدوليين، حسبما ورد في تقرير لمجلة Financial Times البريطانية.
فلسنوات حقق الاقتصاد الصيني نمواً كبيراً، مع التحرير المالي، والاندماج في مجموعة من مؤشرات السندات والأسهم الكبيرة المؤثرة التي تديرها مؤسسات غربية أمثال MSCI، وFTSE Russell، وBloomberg، كل هذا يعني أن الجميع كانوا يتوقعون تدفق استثمارات غزيرة إلى الصين على المدى الطويل.
وتحول السرد من "الاستثمار في الصين ربما يكون أمراً ذكياً" إلى "عدم الاستثمار في الصين أمر غبي".
في الأغلب لم يتكن هناك شركة عالمية كبرى ليست لها استثمارات كبيرة في الصين، وشركات مثل آبل وجنرال موتورز الأمريكيتين، وفولكس فاغن أهم أو من أهم أسواقها ومنطقة الإنتاج الرئيسية لديها، وبعضها كان يعتبر الصين أهم من أسواقه الوطنية.
نتيجة لذلك، تلقت الصين تدفقات قياسية بلغت 576 مليار دولار في عام 2020 على الرغم من التأثير المنهك لفيروس كورونا، وفقاً لمذكرة من بنك جيه بي مورغان في ذلك الوقت.
انقلاب في شكل تدفق الاستثمار الأجنبي إلى بكين
ولكن هذا الوضع يشهد ما يشبه الانقلاب، إذ انخفضت التزامات الاستثمار المباشر- وهو مقياس للاستثمار الأجنبي المباشر في الصين- إلى 4.9 مليار دولار فقط في الفترة من أبريل/نيسان إلى يونيو/حزيران من العام الجاري، وفقاً للأرقام الصادرة عن إدارة الدولة للنقد الأجنبي يوم الجمعة.
ويمثل هذا انخفاضاً بنسبة 87% عن الفترة نفسها من العام الماضي، وكان أصغر مبلغ في أي ربع في البيانات التي تعود إلى عام 1998.
ويمكن لبيانات إدارة الدولة للنقد الأجنبي الصينية، التي تقيس صافي التدفقات، أن تعكس الاتجاهات في أرباح الشركات الأجنبية، فضلاً عن التغيرات في حجم عملياتها بالصين، وفقاً للخبراء الاقتصاديين.
الخروج العظيم من الصين
ولكن تقريراً جديداً صادراً عن جويس تشانج، رئيس قسم الأبحاث في بنك جيه بي مورغان، يكشف مدى التقلب في التدفقات الاستثمارية على الصين بالفعل، من خلال أرقام تبدو مذهلة، حسب وصف Financial Times.
فالأمر لا يتعلق فقط بتراجع تدفق الاستثمارات الأجنبية الجديدة إلى الصين، بل بدء ما يمكن وصفه بالخروج العظيم لهذه الاستثمارات.
يقدر بنك جيه بي مورغان أن نصف ما يقرب من 250 مليار دولار إلى 300 مليار دولار من الأموال الدولية التي تدفقت إلى السندات الصينية بسبب إدراجها في مؤشرات مختلفة منذ عام ،2019 قد خرجت الآن. وانخفضت ملكية الأجانب للأسهم الصينية بما يزيد على 100 مليار دولار.
اتجاهات السوق الخاصة متشابهة. يقدر بنك جيه بي مورغان أن الاستثمارات الصينية المملوكة من قبل شركات الأسهم الخاصة الدولية ورأس المال الاستثماري- التي لعبت دوراً رئيسياً في تطوير كثير من شركات التكنولوجيا الصينية المهمة- انهارت بنسبة تزيد على 50%.
أسباب تراجع تدفق الاستثمارات إلى الصين.. الضعف العالمي في التمويل
يكاد يكون من المؤكد أن بعضاً من هذه التوجهات مرتبط بتراجع الاستثمار في كل مكان بالعالم، وانخفاض التمويل، لكن من المرجح أن ينخفض الاستثمار الأجنبي أكثر في الصين، وفقاً لبنك جيه بي مورغان.
انخفض الاستثمار الأمريكي في الأسهم الخاصة ورأس المال الاستثماري بشكل حاد منذ عام 2021، ومن المرجح أن ينخفض أكثر مع إصدار الأمر التنفيذي لإدارة بايدن الذي صدر في 9 أغسطس/آب 2023، والذي يستهدف الاستثمار الأمريكي الخارجي في تقنيات ومنتجات الأمن القومي بالبلدان التي يصفها الأمر بـ"المثيرة للقلق" والتي تشمل الصين، وما سيترتب على ذلك من قيود على القطاعات الإستراتيجية الصينية- أشباه الموصلات والإلكترونيات الدقيقة، وتكنولوجيات المعلومات الكمومية، وبعض أنظمة الذكاء الاصطناعي- وذلك بدعوى أن تطوير وتوطين هذه القطاعات مع الصين من شأنه أن يؤثر على الأمن القومي الأمريكي.
والأمر الأكثر دلالة هو أن الاستثمار الأجنبي المباشر آخذ في الانكماش أيضاً. وفي الربع الثاني من عام 2023، بلغ تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر 4.9 مليار دولار، وهو أدنى مستوى خلال الأعوام الـ26 الماضية، وفقاً لبنك جيه بي مورغان.
وأظهرت أرقام حكومية منفصلة أن الاستثمار الأجنبي المباشر انخفض بنسبة 2.7% في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى يونيو/حزيران من هذا العام مقارنة بالعام الماضي، وهو أول انخفاض منذ ثلاث سنوات، وفقاً لبيانات سابقة نشرتها وزارة التجارة، والتي تحسب إجمالي التدفقات الداخلة.
وقد ترك ذلك إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر عند نحو 41 مليار دولار في الربع الثاني، وفقاً لحسابات بلومبرغ للبيانات الرسمية. ولا تشمل أرقام وزارة المالية الصينية الأرباح المعاد استثمارها للشركات الأجنبية القائمة، كما أنها أقل تقلباً بكثير من بيانات سلط النقد الأجنبي.
وقالت ميشيل لام، خبيرة الاقتصاد الصيني الكبرى في بنك سوسيتيه جنرال: "إن الانخفاض في مقياس الاستثمار الأجنبي المباشر أمر مثير للقلق". وأضافت: "قد يعني ذلك أنه لا تزال هناك استثمارات جديدة قادمة، لكن بعض الشركات تعيد استثمار قدر أقل من أرباحها الحالية، حيث تتحدث الشركات أكثر عن "تنويع سلسلة التوريد".
التوتر مع أمريكا
وقد تضررت جاذبية الصين للشركات الأجنبية كمكان للاستثمار في السنوات الأخيرة. تسببت التعريفات الجمركية الأمريكية خلال الحرب التجارية في ارتفاع التكاليف، وأدى الوباء إلى تقييد الوصول إلى البلاد لمدة ثلاث سنوات تقريباً، كما دفعت التوترات الجيوسياسية المتزايدة الشركات إلى إعادة التفكير في مخاطرها.
كان المزيج الذي يتألف من تباطؤ الاقتصاد الصيني، وارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، وإعادة التوطين لسلاسل التوريد، والتوترات السياسية المتزايدة (والمخاوف من أن يؤدي أي غزو صيني لتايوان إلى استبعاد على الطريقة الروسية من النظام المالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة) قد أدى إلى انعكاس هائل في الاقتصاد العالمي.
وأدى تراجع انتعاش الاقتصاد هذا العام إلى إضعاف الثقة بين الشركات الأجنبية، التي شهدت انخفاض أرباحها بمعدلات تزيد على 10% وسط ضعف الطلب الاستهلاكي في البلاد.
كثير من الشركات الأجنبية لم تعد قادرة على منافسة نظيراتها الصينية
إضافة إلى ذلك، أصبحت الشركات الصينية العاملة في صناعة السيارات قادرة على المنافسة بشكل متزايد؛ مما أدى إلى تقليص مبيعات وأرباح الشركات الأجنبية. وتعد شركات صناعة السيارات الأجنبية من أكبر المستثمرين في الصين.
وفي يوليو/تموز 2023، قررت شركة ميتسوبيشي موتورز اليابانية تعليق عملياتها في الصين بعد سنوات من تباطؤ المبيعات.
وقال ماساهيرو مورو، الرئيس التنفيذي لشركة مازدا موتور، إن الأعمال من المرجح أن تعاني في الصين بسبب المنافسة الشديدة في أكبر شركة كهربائية في العالم، سوق المركبات.
في العام الماضي، أغلقت شركة Stellantis NV مصنعها الوحيد لسيارات جيب في الصين وأعلنت أن علامتها التجارية أوبل أوقفت مؤقتاً التوسع المخطط له.
فزع من تشديد القبضة الأمنية
وقال بعض المديرين التنفيذيين في الخارج أيضاً، إنهم يشعرون بالفزع من إظهار الحكومة لتشديد القبضة على الأمن، مثل التحقيق الذي أجري في وقت سابق من هذا العام، في الاستشارات المتخصصة التي تستخدمها الشركات للعمل في الصين.
وحاول كبار المسؤولين، ومن ضمنهم الرئيس الصيني شي جين بينغ، اتباع لهجة أكثر إيجابية مع الشركات الأجنبية في الأشهر الأخيرة كجزء من الجهود الرامية إلى تعزيز النمو الاقتصادي، واجتمعوا في بكين بقادة الأعمال العالميين ومن ضمنهم جيمي ديمون وإيلون ماسك. ومع ذلك، يبقى أن نرى مدى فعالية هذا في تغيير التشاؤم بشأن ممارسة الأعمال التجارية في البلاد.
التغير في سلاسل التوريد
وقال بيكيان ليو، الخبير الاقتصادي الآسيوي في شركة فيديليتي إنترناشيونال: "تظهر مجموعتا البيانات تباطؤاً تدريجياً في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الصين في السنوات الأخيرة، وهو ما يتوافق مع ترقية سلسلة التوريد الصناعية طويلة المدى في الصين وتنويع سلسلة التوريد العالمية".
الشركات الأجنبية تصنع ثلث صادرات الصين
ويؤثر تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر على التجارة الصينية أيضاً، وفقاً للو تينغ، كبير الاقتصاديين الصينيين في شركة نومورا القابضة، نظراً إلى أن الصادرات من الشركات الأجنبية العاملة في الصين تمثل نحو 30% من إجمالي صادرات البلاد. وأضاف أنه يقدر أن صادرات الشركات الأجنبية تقلصت بنسبة 14.4% على أساس سنوي في النصف الأول من هذا العام، وهو أسوأ بكثير من انخفاض إجمالي الشحنات الخارجية بنسبة 3.2%.
وقد يكون تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر أعمق بكثير في الواقع مما تظهره مجموعتا البيانات، حسبما كتب محللون، من بينهم لوجان رايت من مجموعة روديوم، في تقرير صدر في شهر يوليو/تموز. ويرجع ذلك إلى أن البيانات تقيس بشكل متزايدٍ المعاملات المالية البحتة، وضمن ذلك تلك التي تقوم بها الشركات الصينية المملوكة للدولة، بدلاً من قرارات الشركات الأجنبية.
وكتبوا: "ونتيجة لذلك، قد لا يعرف صناع القرار في الصين متى يحتاجون إلى تعديل السياسات بشكل أكثر قوة لمحاولة استعادة ثقة الأعمال". "وسط التباطؤ الهيكلي الأوسع في الاقتصاد الصيني، يمكن أن تساهم ردود الفعل المتأخرة في مزيد من الخسائر في الإنتاجية والنمو الاقتصادي".
ما مستقبل الاستثمارات الأجنبية في الصين؟
ستتزايد وتتضاءل تدفقات أسواق رأس المال المتقلبة وفقاً لمعنويات المستثمرين- ومن الواضح أن الصين ليست في وضع جيد اقتصادياً في الوقت الحالي- ولكن حقيقة أن الاستثمار الأجنبي المباشر يتراجع أيضاً بشكل كبير أمر لافت للنظر.
وكما كتب بنك جيه بي مورغان: "تستجيب التدفقات التجارية بشكل أبطأ كثيراً للتغيرات في التعامل الأجنبي مع الاقتصاد الصيني، وهناك اعتراف واضح بأن (فك الارتباط) مع الصين ليس ممكناً ولا مرغوباً فيه، لا تزال أهمية الصين في التجارة العالمية بلا منازع، حيث تظل الشريك التجاري الأول لـ120 دولة، وعادت ظروف سلسلة التوريد العالمية إلى مستويات ما قبل الوباء… ومع ذلك، فإننا نشهد العلامات الأولى على الاتجاه التنازلي في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الصين، مما يثير المخاوف بشأن احتمال تسريع نقل سلسلة التوريد العالمية".
إلى أي مدى سيتضرر اقتصاد الصين من التراجع في تدفق الاستثمارات الأجنبية؟
من المؤكد أنَّ تراجع التدفقات الاستثمارية للصين، سيلحق ضرراً باقتصادات البلاد، ولكن يجب ملاحظة أن هذا يأتي في وقت مواتٍ، فلقد بات للصين أكبر محفظة في العالم، وهي كانت أكبر مسثمر في الأصول المالية الحكومية الأمريكية لسنوات، وأكبر مقرض منفرد للعالم الثالث، وكان لديها ضخ استثمارات كبيرة في أوروبا، ولكن مع موجة العداء الغربي للصين، فإن هذه الاستثمارات يمكن أن تذهب للصين لتحل محل الاستثمارات الأجنبية الخارجة أو الممتنعة عن الدخول.
وفيما يتعلق بدور الاستثمارات الأجنبية في نقل التكنولوجيا، فمن المعروف أن استثمارات الشركات الأجنبية هي المصدر الأول للتكنولوجيا بالنسبة للصين، حيث كانت سياسة الحكومة تقوم على توفير تسهيلات هائلة فيما يتعلق بالأرض والتمويل والعمالة، مقابل إلزام الشركات في الأغلب بنقل التكنولوجيا للشركاء المحليين، وبالتالي فإن عمالة التكنولوجيا الصينيين مثل شركات هواوي وأوبو وشاومي، وكذلك شركات السيارات الصينية هم تلاميذ نجباء للشركات الغربية، لاسيما الأمريكيين والألمان.
وتراجع تدفق الاستثمارات الأجنبية والقيود الفنية المفروضة غربياً على نقل التكنولوجيا، من شأنه تأخير مسيرة التطور التكنولوجي الصيني.
ولكن يبدو أن هذا يأتي في وقت متأخر نسبياً، فلقد قطعت الشركات الصينية خطوات طويلة في تطوير تكنولوجيتها، بالطبع ما زال ينقصها بعض الجوانب الصعبة مثل محركات الطائرات والرقائق المتقدمة، ولكنهم يعملون بدعم حكومي على ردم هذه الفجوة، ويُظهر هاتف هواوي الأخير الذي قيل إنه يعتمد على معالج من إنتاج الشركة الصينية المعاقبة أمريكياً، والذي تزامن طرحه مع قرار غير رسمي للحكومة الصينية بمنع الموظفين من استخدام هواتف "آيفون" في مؤسسات الدولة والشركات التابعة لها، أن الصين يبدو أنها تستطيع تطوير تقنيات بديلة لتلك التي تريد أمريكا حرمانها منها، بل إنها قادرة عبر قرارها بحق آبل، على رد الصاع الذي وجهته واشنطن لـ"هواوي"، صاعين حتى لو بعد حين.