استغرق الدبلوماسيون الهنود المنهكون 200 ساعة من المفاوضات المتواصلة، و300 اجتماع ثنائي، و15 مسودة، حتى تتوصل دول مجموعة العشرين في النهاية إلى إعلان بالإجماع بشأن الحرب في أوكرانيا، وهو الإعلان الذي ينحصر إلى حد كبير في مبادئ عامة بدلاً من الإدانة المحددة لروسيا، التي اتفقت عليها نفس المجموعة من الزعماء عندما التقت في بالي قبل عام.
علاوة على ذلك، لم تُوجَّه أية دعوة إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإلقاء كلمة أمام التجمع، بينما كانت روسيا ممثلةً بوزير خارجيتها سيرغي لافروف.
وتشيد الهند بالفعل بالإعلان المتوافق عليه باعتباره انتصاراً دبلوماسياً، وهو الإعلان الذي كان مُعلّقاً قبل 24 ساعة على الأقل من اختتام القمة.
فقبل انعقاد القمة لم يكن أمام الزعماء سوى ثلاثة خيارات، وهي: اتفاق القاسم المشترك الأدنى (وهي النتيجة النهائية)، أو بيان به حواشٍ يسمح لبعض الدول بالتنصل من أجزاء من الاتفاق، أو عدم إصدار إعلان ختامي للقمة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
البيان يخلو من الفقرة التي صدرت عن قمة إندونيسيا بأن أغلب البلدان تدين الغزو الروسي
يعترف إعلان قمة مجموعة العشرين بكل صراحة بوجود تقييمات مختلفة للموقف، لكنه يدعم مبادئ السيادة الوطنية، وميثاق الأمم المتحدة، وقرارات الأمم المتحدة السابقة بشأن أوكرانيا، ويصف استخدام الأسلحة النووية بأنه غير مسموح به. وأهم ما فيه هو أنَّ الإعلان لا يكرر البيان الذي صدر في بالي (قمة العشرين لعام 2022)، بأنَّ أغلب البلدان تدين الغزو الروسي، أو مطالبة القوات الروسية بالانسحاب الفوري وغير المشروط.
ومن الواضح أنَّ النتيجة تعكس تصميم الهند الصارم على عدم الانحياز إلى أي طرف في الحرب، لكن من غير العادي أن تكون أغلبية الدول في مجموعة العشرين، التي تعارض الغزو الروسي، على استعداد تام لإسكات أفواهها من الأقلية التي تفضل تجاهل الحرب.
وقال مسؤول بريطاني إنَّ الإعلان المشترك، الذي يُنظَر إليه على نطاق واسع على أنه هزيل، كان فعالاً في الواقع في الضغط على موسكو. وأضاف المسؤول: "من خلال التوصل إلى توافق في نيودلهي، أجبرت مجموعة العشرين (فلاديمير) بوتين على الالتزام بوقف الهجمات على البنية التحتية، وانسحاب القوات، وعودة الأراضي".
ومن غير المستغرب ألا يشارك لافروف هذا التفسير. وقال الدبلوماسي الروسي المخضرم: "لقد تمكنا من منع محاولات الغرب لإضفاء الطابع الأوكراني على جدول أعمال القمة"، واصفاً الاجتماع الذي استمر يومين بالناجح. وحول الإعلان الختامي للقمة أشار: "النص لا يذكر روسيا إطلاقاً".
العلاقة الأهم على الكوكب.. لماذا تنازل بايدن في قضية أوكرانيا لصالح الهند؟
لكن على مستوى آخر، يعد تخفيف اللهجة في تناول الحرب إشارة أخرى إلى أنَّ أوكرانيا تتراجع بشكل ملحوظ على قائمة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، في الوقت الذي يواجه فيه جو بايدن عاماً انتخابياً، وتزداد الحاجة إلى رعاية التحالفات الدولية لاحتواء الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وعلى نحو متصل، لم تدفع الولايات المتحدة قضية أوكرانيا إلى طريق مسدود من باب الاحترام لحاجة ناريندرا مودي إلى تحقيق نصر دبلوماسي واضح خلال القمة.
ومن الصعب التقليل من مدى الأهمية التي تمثلها الهند، المنافس القوي للصين، للإدارة الديمقراطية الأمريكية. ويصفها الدبلوماسي الأمريكي كيرت كامبل، الذي غالباً ما يُلقَب بأنه قيصر بايدن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بأنها "العلاقة الأهم على هذا الكوكب، وليس سراً أنَّ الهند هي واحدة من أكثر الفاعلين المطلوبين على المسرح العالمي".
وادعى لافروف أنَّ بايدن يعلم أنه لا يستطيع تحمل إقصاء مودي، الذي نصّب نفسه زعيماً للجنوب العالمي، وأنَّ موقفهم كان حرجاً. وقال مودي بإطراء: "لقد تمكنت الهند بالفعل من توحيد أعضاء مجموعة العشرين من الجنوب العالمي".
أمريكا حاولت دق إسفين بين الصين ودول الجنوب خلال قمة مجموعة العشرين
من جانبها، تشعر واشنطن بأنها إذا أرادت عزل بكين فعليها أن تتحلى بالصبر. وطوال فترة القمة حاول المسؤولون الأمريكيون، مثل نائب مستشار الأمن القومي جون فاينر، دق إسفين من خلال الإشارة إلى جنوب إفريقيا والهند والبرازيل باعتبارها "الأعضاء الديمقراطيين الثلاثة في مجموعة البريكس" والقول إنها والولايات المتحدة ملتزمة بنجاح مجموعة العشرين. وقال فاينر: "وإذا لم تكن الصين كذلك فهذا أمر مؤسف للجميع، وبالأخص للصين".
والأمر الآن متروك لمودي لمعرفة ما إذا كانت الأطراف ستلتزم بالأجندة الأوسع التي أراد الدفع بها في القمة، والتي تتعلق بالديون وأزمة المناخ والتعددية. وتشير دعوته لعقد قمة افتراضية إضافية لمجموعة العشرين تحت رئاسته، خلال شهرين، إلى أنه يعتقد أنَّ هناك أفكاراً مطروحة على الطاولة يمكنه العمل عليها.
وتجعل من طريق الهند الجديد منافساً لطريق الحرير الصيني
وربما كان الاقتراح الأكثر إثارة للاهتمام، برغم غموضه، هو خط الطاقة والنقل المقترح مدّه بين الهند وأوروبا، الذي يمر عبر مراكز القوة الرئيسية في الشرق الأوسط، وهو المنافس من حيث المفهوم لطريق الحرير الجديد في الصين، أو مبادرة الحزام والطريق التي تفقد مصداقيتها أكثر فأكثر. واستخدم بايدن مؤتمرات القمة المتعاقبة لمحاولة إعادة صياغة البديل الغربي القديم لمبادرة الحزام والطريق، ويبدو هذا الخيار أكثر إقناعاً حتى الآن.
ومن المتوقع أن يتوصل المسؤولون في البلدان المعنية، بما في ذلك إسرائيل والمملكة العربية السعودية، في غضون 60 يوماً، إلى جدول زمني للمشروعات، التي تشمل ربط شبكات الطاقة، ومد الكابلات البحرية والبرية، وتوفير المزيد من الاتصالات الرقمية. وتشمل بعض المهام تركيب خطوط أنابيب الهيدروجين من إسرائيل إلى أوروبا، التي يأمل مسؤولو الإدارة أن تعزز أهداف الطاقة النظيفة.
وفي هذا الصدد، علّق راجيش راجاغوبالان، أستاذ السياسة الدولية في جامعة جواهر لال نهرو، قائلاً إنَّ نطاق الممر الممتد بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا يمكن أن "يعيد تشكيل الخطاب حول المساعدة في التنمية والبنية التحتية، وينقل المعركة إلى بكين على المسرح الدولي".