أعلنت إثيوبيا أنها أكملت المرحلة الرابعة والأخيرة من ملء خزان سد النهضة، وهو ما نددت به مصر، فما حقيقة هذا الإعلان من جانب أديس أبابا؟
مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، كتب الأحد 10 سبتمبر/أيلول، على منصة التواصل الاجتماعي إكس: "تهانينا للجميع على الملء الرابع "والأخير" لسد النهضة الإثيوبي. لقد أثمرت مثابرتنا الوطنية في مواجهة كل الصعاب".
وأثار هذا الإعلان غضباً مصرياً، لكنه يثير أيضاً عدداً من التساؤلات الهامة بشأن حجم المياه التي تم تخزينها بالفعل ودوافع الإعلان في هذا التوقيت، الذي يأتي بعد أيام قليلة من اتفاق القاهرة وأديس أبابا على "استئناف" المفاوضات بشأن سد النهضة، الذي تعتبره مصر تهديداً وجودياً.
ما كمية المياه في خزان سد النهضة الإثيوبي؟
في ظل تضارب التصريحات الصادرة من إثيوبيا بشأن سد النهضة وعمليات الملء، التي بدأت قبل 3 سنوات، من الصعب الجزم بما يحدث فعلياً على الأرض. لكن المفترض أن المستهدف هو تخزين 74 مليار متر مكعب في بحيرة سد النهضة، وبالتالي فإن الملء الرابع، الذي أعلن آبي أحمد الانتهاء منه، إذا كان الأخير فعلاً، فهذا يعني أن تلك الكمية من المياه قد تم تخزينها بالفعل.
والبديهي هنا أن تنطلق محاولات الإجابة عن هذا التساؤل بشأن الملء الرابع لسد النهضة من خلال الملء الثالث، الذي قامت به إثيوبيا الصيف الماضي، وتحديداً في يوليو/تموز وأغسطس/آب 2022.
فقد كانت السلطات الإثيوبية قد أعلنت في ذلك الوقت عن انتهاء الملء الثالث لسد النهضة وتخزين كميات تصل إلى 22 مليار متر مكعب، وهو إجمالي ما تم تخزينه خلال الملء الأول والثاني والثالث.
لكن صورة فضائية تم التقاطها للسد وقتها وتداولتها وسائل الإعلام العالمية، أظهرت أن كميات التخزين الإجمالية، والتي جرت على مدار 3 سنوات (2020 حتى 2022) لا تتجاوز 17 مليار متر مكعب. كما أظهرت تلك الصور أن التخزين الثالث بمفرده بلغ 9 مليارات متر مكعب فقط.
وبحسب تصريحات للخبير المصري، الدكتور عباس شراقي، أظهرت الصور الفضائية وصول بحيرة سد النهضة إلى قاعدة سد السرج وعدم وصولها إلى جسم السد نفسه، كما كشفت عبور المياه أعلى الممر الأوسط، وهو ما يعني أن التخزين الثالث استمر لمدة شهر كامل من 11 يوليو/تموز وحتى 11 أغسطس/آب عند منسوب 600 متر فوق سطح البحر وبكمية مياه بلغت 9 مليارات متر مكعب وإجمالي التخزين خلال السنوات الثلاث الماضية بلغ 17 مليار.
لكن حتى بافتراض دقة الرواية الإثيوبية، أي أن الملء الثالث رفع حجم المياه التي تم تخزينها في بحيرة السد إلى 22 مليار متر مكعب، فإن هذا يعني أن الملء الرابع وحده، إذا ما كان الأخير بالفعل، كما جاء في تغريدة مكتب آبي أحمد طبقاً للنص الإنجليزي الذي نقله موقع VOA الأمريكي، قد نتج عنه تخزين 52 مليار متر مكعب دفعة واحدة، وذلك حتى تكتمل عملية تعبئة السد بإجمالي 74 مليار متر مكعب.
ماذا قالت إثيوبيا؟
جاءت تصريحات آبي أحمد، الموجهة إلى الشعب الإثيوبي، بمثابة إعلان انتصار في معركة مصيرية، حيث قال عبر منصة إكس (تويتر سابقاً): "واجهنا الكثير من التحديات، واضطررنا مراراً إلى التراجع. واجهنا تحدياً داخلياً وضغوطات خارجية"، لكنه أكد أن بلاده "ستنجز ما تعهدت به".
كما أشاد المكتب الاعلامي للحكومة الإثيوبية في رسالة على المنصة نفسها بما اعتبره "هدية للأجيال"، مضيفاً أن "الجيل البطل الحالي سيبني إثيوبيا الغد القوية على أسس صلبة".
من الوارد بطبيعة الحال أن تكون تصريحات آبي أحمد موجهة إلى الداخل الإثيوبي، الممزق والمضطرب، وتهدف إلى محاولة توحيد الإثيوبيين حول مشروع السد الضخم كمشروع قومي تقول أديس أبابا إنه يمثل حجر الأساس في التنمية المرجوة للبلاد.
كانت إثيوبيا قد شرعت في وضع حجر الأساس للسد منذ عام 2011، لكن عملية بناء السد نفسها شهدت تعثرات متكررة حتى وقعت أديس أبابا والقاهرة والخرطوم إعلان المبادئ بشأن سد النهضة، في مارس/آذار 2015، لتنطلق عملية تشييد السد فعلياً وبصورة متسارعة.
وخلال أكثر من 10 سنوات من المفاوضات، وبخاصة مع وصول آبي أحمد لرئاسة الوزراء في إثيوبيا، تحولت قضية السد إلى صراع ينذر باندلاع حرب المياه الأولى في إفريقيا، وجعل آبي أحمد من السد، الذي تبلغ تكلفته نحو 4 مليارات دولار أمريكي ويستهدف توليد 6500 ميغاواط من الكهرباء (جرى تخفيضها إلى 5 آلاف ميغاواط فقط بحسب التصريحات الإثيوبية)، قضية قومية تتخطى أبعادها الجوانب الاقتصادية.
وكانت صحيفة The Independent البريطانية قد تناولت "النزاع الخطير بشأن السد الإثيوبي على النيل"، في تقرير لها رصد ما وصلت إليه الأمور، في ظل تنفيذ إثيوبيا لسياسة فرض الأمر الواقع وكيف أن "مصر قد تخسر النزاع وتفقد مستقبلها".
وانطلق تقرير الصحيفة من أنه لا يبدو أن "المفاوضات الدائمة"، كما يسميها الكثيرون في مصر والسودان، مع إثيوبيا على وشك الانتهاء. ومع استمرار ارتفاع منسوب المياه ببطء خلف سد النهضة الإثيوبي الضخم على النيل الأزرق، يتزايد الإحباط بين المسؤولين في عاصمتَي دولتَي المصب.
كما تناول موقع Al Monitor الأمريكي الموقف بعد إعلان إثيوبيا بشأن الملء الثاني (عام 2021) في تقرير بعنوان "مصر تدرس خطواتها التالية بعد أن أكملت إثيوبيا الملء الثاني"، رصد المعلومات المتاحة بشأن الملء الثاني وما يعنيه ذلك لخيارات مصر في المرحلة المقبلة.
الآن وقد وصلت الأمور إلى الملء الرابع والأخير، كما وصفه آبي أحمد، لا يمكن استبعاد التوقيت من المعادلة. فالمفترض أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وآبي أحمد اتفقا خلال يوليو/تموز الماضي على استئناف المفاوضات بشأن ملء وتعبئة السد، وانطلقت تلك المفاوضات بالفعل يوم 29 أغسطس/آب الماضي، ثم جاءت "قنبلة" إثيوبيا (الإعلان عن انتهاء الملء الرابع والأخير) لتنسف أي أمل ضعيف في التوصل لاتفاق بشأن السد.
لماذا غضبت مصر؟ وماذا تريد من المفاوضات؟
الإعلان الإثيوبي أغضب القاهرة، وقالت وزارة الخارجية المصرية الأحد إن "نهج" إثيوبيا "يضع عبئاً على مسار المفاوضات المستأنفة… والمعقود الأمل في أن تشهد جولتها القادمة… انفراجة ملموسة وحقيقية".
وربما يكون السؤال البديهي هنا: لماذا غضبت القاهرة من هذا الإعلان الإثيوبي إذا كانت عملية الملء الرابع كانت قد بدأت منذ يوليو/تموز، أي قبل الإعلان عن استئناف المفاوضات؟ وماذا يضير تلك المفاوضات إذا انتهت عملية الملء الرابع التي كانت قد بدأت بالفعل؟
المتحدث باسم وزارة الموارد المائية والري، محمد غانم، قال لوسائل إعلام محلية إن جولة التفاوض المنتهية بالقاهرة (عقدت يومي 27 و28 أغسطس/آب الماضي) لم تشهد تغيرات ملموسة في مواقف الجانب الإثيوبي.
وأكد غانم على أن "مصر تستمر في مساعيها الحثيثة للتوصل في أقرب فرصة إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، على النحو الذي يراعي المصالح والثوابت المصرية بالحفاظ على أمنها المائي والحيلولة دون إلحاق الضرر به، ويحقق المنفعة للدول الثلاث، وهو الأمر الذي يتطلب أن تتبنى جميع أطراف التفاوض ذات الرؤية الشاملة التي تجمع بين حماية المصالح الوطنية وتحقيق المنفعة للجميع، وبما ينعكس إيجاباً على جولات التفاوض القادمة بهدف التوصل لاتفاق بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة طبقاً للبيان الصادر عن اجتماع قيادتي مصر وإثيوبيا في هذا الشأن".
تسعى مصر إلى توقيع اتفاق قانوني ملزم بشأن تشغيل سد النهضة وإدارته، حتى تتجنب فقدان جزء أو حتى كل حصتها المالية البالغة 55 مليار متر مكعب من المياه، وهو ما تراوغ إثيوبيا بشأنه وترفض التوقيع على أي اتفاق ملزم لها، وهو ما لم يتغير حتى اليوم، بحسب التصريحات الصادرة عن القاهرة.
وزير الخارجية المصري، سامح شكري، قال في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية يوم 6 سبتمبر/أيلول، إن بند سد النهضة أصبح خلال رئاسة مصر لمجلس الجامعة العربية بنداً دائماً على جدول أعمال الاجتماع للحفاظ على مصالح مصر والسودان الذى يحمل مخاطر لا يمكن القبول بها. وأشار إلى أن القاهرة استضافت مؤخراً اجتماعاً مصرياً إثيوبياً لإيجاد حل لمشروع سد النهضة، ولكن إثيوبيا لم تظهر أي توجه بشأن الحلول المطروحة لأزمة سد النهضة.
فهل يكون إعلان إثيوبيا أن الملء الرابع لسد النهضة هو "الأخير" مجرد استمرار للمناورات الهادفة إلى إحباط أي محاولات مصرية للتوصل إلى اتفاق بشأن تعبئة وتشغيل السد؟
إذ إنه من المستحيل أن تكون إثيوبيا قد خزنت 52 مليار متر مكعب من المياه دفعة واحدة؟ وهذا ما قاله الدكتور شراقي، خبير المياه المصري لوسائل إعلام محلية إن كمية التخزين في بحيرة سد النهضة في شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب و8 أيام من سبتمبر/أيلول، بلغت نحو 24 مليار متر مكعب عند منسوب 625 متراً فوق سطح البحر، مضيفاً أنها تعادل نحو 50% من المتوسط السنوي لتدفق نهر النيل.
وأشار أستاذ الجيولوجيا إلى أن إثيوبيا انتهت من الملء الرابع لسد النهضة مساء الجمعة 8 سبتمبر/أيلول، وفق ما كشفت عنه أحدث صور التقطتها الأقمار الاصطناعية، مصرحاً بأن غلق إثيوبيا البوابة الغربية أول سبتمبر/أيلول الجاري تزامن مع عمليات الملء الرابع ونقص في كمية الأمطار هذا العام على معظم أنحاء السودان، مشيراً إلى أنه خلال الأيام القليلة الماضية ظهرت بعض آثار الملء الرابع لسد النهضة ومنها انخفاض منسوب النيل وظهور الجفاف في بعض المناطق في السودان.
ولفت أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية إلى أن مصر لديها وضع مختلف مع كل متر مكعب يحجز من حصتها، متوقعاً أن تفقد مصر في هذه المرحلة ما يقرب من 12 مليار متر مكعب من المياه، وهذا لن يتأكد إلا بنهاية العام المائي.