حدث ما حذر منه الخبراء طويلاً؛ "انتفاضة عربية" ضد قوات سوريا الديمقراطية المعروفة باسم قسد التي يقودها الأكراد اندلعت في شمال شرق سوريا خاصة في محافظة دير الزور.
ودارت الأسبوع الماضي اشتباكات بين "قوات سوريا الديمقراطية" التي يقودها المقاتلون الأكراد المدعومون أمريكياً وبين مقاتلين عشائريين عرب في محافظة دير الزور في شرق سوريا، بسبب القبض على زعيم عشائري عربي.
وأعادت قوات الأكراد سيطرتها على معظم المناطق التي سيطر عليها المنتفضون العرب، وتحدث نشطاء بالمنطقة عن انتهاكات من قبل قوات قسد ضد المدنيين، وفي مرحلة من المراحل طردت العشائر قوات قسد (معظمها بالمنطقة تتشكل من مقاتلين عرب وليسوا أكراداً) من كثير من مناطق محافظة دير الزور، خاصة في ريف المحافظة الشرقي باستثناء المناطق النفطية.
كما شهدت دير الزور وقفات احتجاجية ضد سياسة قسد، التي تسيطر على منطقة شمال شرق سوريا ذات الأغلبية العربية.
الاشتباكات تمتد من دير الزور لمناطق المعارضة الحليفة لتركيا
الاشتباكات توسعت عندما قام مقاتلون عشائريون عرب بمحاولة تحرير مدينة منبج من القوات الكردية، وهي منطقة تقع في ريف حلب بعيداً عن دير الزور، والمقاتلون فيها أقرب لتركيا منهم للمجموعات العشائرية العربية الموجودة في دير الزور، وذلك في مؤشر على حالة غضب عربي عامة في شمال وشمال شرق سوريا، بصرف النظر عن المكان.
إذ اتسعت رقعة القتال في دير الزور خلال الأيام الأخيرة، بعدما فتحت العشائر العربية عدة جبهات انطلاقاً من مناطق السيطرة التركية في الحسكة والرقة وحلب. وتدخلت روسيا بطيرانها الحربي لمصلحة الفصائل الكردية، بينما تسعى واشنطن لفض الاشتباك، وذلك للمحافظة على المكون العربي داخل قوات سوريا الديمقراطية في مواجهة تنظيم "داعش"، كما في مواجهة النفوذ الإيراني المتجذر غربي الفرات.
وكانت العشائر العربية في مناطق سيطرة "الجيش الوطني السوري" المعارض الحليف لأنقرة، قد بدأت بحشد مقاتلين لها الخميس الماضي، في منطقة جرابلس القريبة من حدود تركيا، وإرسالهم لخطوط المواجهة مع "قسد" بهدف تخفيف الضغط عن عشائر دير الزور، علماً أن المنطقة تشهد اشتباكات منذ الأحد الماضي بين الطرفين.
وكان اللافت أنه رغم الخلافات المزعومة بين الأكراد والنظام السوري وحليفيه روسيا وإيران تدخلت موسكو وقوات النظام وقصفت المجموعات العربية التي هاجمت منبج، رغم حديث الأكراد عن عدائهم للنظام السوري، في محاولة لمغازلة الولايات المتحدة وضمان استمرار دعمها، إلا أنه من المعروف أن أكراد سوريا لديهم علاقة وثيقة مع النظام السوري وروسيا وإيران، وكثيراً ما احتموا بها في مواجهة أي عمل عسكري للجيش التركي.
اعتقال أبو خولة هو الشرارة التي أشعلت الاشتباكات، ولكن الأمر أعمق
الاشتباكات نشبت بسبب إلقاء قوات سوريا الديمقراطية القبض على أحمد خبيل، المعروف بـ"أبو خولة"، قائد مجلس دير الزور العسكري التابع لها. وأعلنت لاحقاً عزله، متهمة إياه بالتورط بـ"جرائم جنائية والاتجار بالمخدرات وسوء إدارة الوضع الأمني"، وبالتواصل مع النظام.
وأثار توقيفه غضب مقاتلين عرب محليين مقربين منه ما لبثوا أن نفّذوا هجمات ضد قوات "قسد" تطوّرت لاحقاً إلى اشتباكات في بضع قرى. وأسفرت المواجهات خلال أسبوع عن مقتل 71 شخصاً غالبيتهم مقاتلون بينهم 9 مدنيين، وفق "المرصد السوري لحقوق الإنسان".
ولكنّ سكان المنطقة وزعماء العشائر، والفاعلين والمراقبين يقولون إن أغلب المنتفضين والمحتجين ليست مشكلتهم مسألة القبض على أبو خولة، ويقر الكثيرون بالاتهامات الكردية له، ولكن يقولون إن الإدارة الكردية هي التي أتاحت له هذه الممارسات.
ويقول نشطاء بالمنطقة وخبراء معنيون بها إن قسد تحاول استغلال ما حدث لتعزيز سيطرتها الكاملة على محافظ دير الزور الغنية بالنفط، وذات الموقع الاستراتيجي على الحدود مع العراق.
وارتفعت وتيرة التصعيد بعد عبور عناصر موالية لقوات النظام نهر الفرات، باتجاه مناطق الاشتباك، وفق "المرصد" و"قسد".
ولا تعيش محافظة دير الزور شرقي سوريا أجواءً من الرعب فقط بسبب العنف الدائر فيها، بل تعقدت الأمور أكثر من ذلك، حيث أصبحت المنطقة تعيش بلا خبز منذ أكثر من أسبوع بسبب القتال.
قسد تحاول القضاء على الانتفاضة العربية
وقالت القيادة العامة لقوات قسد في بيان السبت الماضي، إن محاولات تصوير الأمر على أنه قتال مع العشائر، لا يهدف إلا لخلق "الفتنة"، وأعلنت حظراً للتجول في المنطقة يومي السبت والأحد.
وسيطر مقاتلو العشائر في البداية على العديد من البلدات والقرى، بعد خروج "قسد" منها، إلا أن الأخيرة بدأت حملة مضادة، واستعادت الأحد الماضي بلدة البصيرة بعد حصارها بقوات كبيرة، وفق شبكات إعلامية أشارت إلى أن هذه القوات بدأت عمليات تمشيط في المنطقة.
وقال المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية فرهاد شامي، الإثنين، لوكالة "فرانس برس": إن هذه القوات تسعى إلى "حسم" الوضع في ذبيان، آخر بلدة يتمركز فيها المقاتلون المحليون، بعد أن مشّطت نهاية الأسبوع الماضي معظم القرى التي شهدت اشتباكات.
وأضاف شامي: "وجّهنا نداءً لخروج المدنيين" من ذبيان، مضيفاً أن هناك توجهاً نحو "الحسم وإنهاء التوتر".
وتتمتع قوات قسد بتفوق عسكري نوعي وتنظيمي كبير، فجذورها تعود لميليشيات حزب العمال الكردستاني التي تحارب تركيا منذ سنوات، كما أنها تلقت دعماً أمريكياً وأوروبياً بالأسلحة والتدريب منذ سنوات، حيث اعتبرت رأس الحربة في المواجهة مع داعش، وشمل ذلك تزويدها بعربات مدرعة وصواريخ متطورة مضادة للدبابات، إضافة إلى أنه شوهدت صور يمتطي فيها مقاتلوها دبابات.
في المقابل، فإن العشائر العربية مسلحة تسليحاً خفيفاً ومتوسطاً، وغير منظمة، بعد أن قضت داعش والحزب الكردي ونظام الأسد وإيران على قوى المعارضة السورية في المنطقة قبل سنوات.
الأمريكيون يتدخلون
وأعلنت السفارة الأمريكية في دمشق الأحد عن لقاء في شمال شرق سوريا جمع نائب مساعد وزير الخارجية في مكتب شؤون الشرق الأدنى المعني بملف سوريا إيثان غولدريتش، وقائد التحالف الدولي ضد تنظيم داعش اللواء جول فاول بقوات سوريا الديمقراطية، ووجهاء عشائر من محافظة دير الزور.
واتفق المجتمعون على "ضرورة معالجة شكاوى سكان دير الزور"، والتشديد على "مخاطر تدخّل جهات خارجيّة" في المحافظة، و"الحاجة لتفادي سقوط قتلى وضحايا مدنيّين"، وضرورة "خفض العنف في أقرب وقت ممكن".
وأضافت أن الجانب الأمريكي أكد "أهمية الشراكة الأمريكية القوية مع "قوات سوريا الديمقراطية" في جهود دحر تنظيم داعش".
وأكد الشيخ مصعب الهفل شيخ قبيلة العكيدات في تصريح لـ"الجزيرة نت" أنه اجتمع بالسفارة الأمريكية بالدوحة مع ممثل وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) ورئيس القسم السياسي بالسفارة مع بداية الاشتباكات في دير الزور شرقي سوريا، لإيصال مطالب العشائر في شرق سوريا والعمل على تهدئة الوضع.
ونفى الشيخ مصعب وجود أية علاقة لحراك العشائر العربية بالنظام السوري أو إيران، مشيراً إلى أن تحركهم جاء للمطالبة بحقوقهم وكف يد "قوات سوريا الديمقراطية" عن ممارساتها في المنطقة، كما أكد أنه لا يوجد أي تواصل مع تركيا أو دعم من أنقرة لحراك العشائر.
وطالب التحالف الدولي بوقف القتال عبر الضغط على "قوات سوريا الديمقراطية"، مشيراً إلى أن "قسد" لا تلقي بالاً لأية دعوة للتهدئة، ومؤكداً في الوقت ذاته على أن العشائر لن تتخلى عن "كرامتها" قائلاً: "نموت بشرف أو نحيا بعزة، ولا نخاف من تهديدات أحد".
إليك الوضع الميداني الغريب في شمال شرق سوريا
تنقسم سوريا حالياً إلى نحو 4 أجزاء من حيث السيطرة العسكرية والسياسية: منطقتين خاضعتين لسيطرة المعارضة السورية الحليفة لتركيا، الأولى والأكبر في محافظ إدلب بشمال غربي البلاد، ومنطقة في الشمال الأوسط في ريف حلب بالأساس، وهناك عدة مناطق كردية أبرزها المنطقة الواقعة في شمال شرق سوريا (شرق الفرات)، فيما يسيطر النظام على باقي البلاد سيطرة متفاوتة مع مناطق نفوذ متعددة موزعة بين روسيا وإيران.
ومنطقة شمال شرقي سوريا التي يسيطر عليها الأكراد تعادل نحو ثلث مساحة البلاد، ويوجد بها أغلب النفط ومناطق الزراعة المروية التي تزرع بها محاصيل مهمة مثل القمح.
وهذه المنطقة ذات وضع شاذ، فهي منطقة ذات أغلبية عربية، ولكن تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الحزب الديمقراطي الكردي السوري، وهو حزب تؤكد مراكز الأبحاث الغربية أنه بمثابة فصيل سوري لحزب العمال الكردستاني التركي المصنف إرهابياً في تركيا والدول الغربية، ومع ذلك فإن هذا الحزب الكردي يحظى بدعم أمريكي وأوربي كبير بدعوى محاربته لداعش رغم أنه ليس القوة الوحيدة التي حاربت داعش، رغم أنه يقيم دويلة انفصالية عنصرية تقود فيها أقلية كردية أغلبية عربية.
ودمجت قوات سوريا الديمقراطية مقاتلين عشائريين عرباً في قواتها دون أن يكون لهم دور محوري في القيادة السياسية أو العسكرية.
وتوجد قوات التحالف الدولي، وأبرزها القوات الأمريكية، في المنطقة، وخصوصاً في قاعدة في حقل العمر النفطي، وحقل كونيكو للغاز.
وتسيطر قوات النظام السوري على الضفة الغربية للفرات التي تُعد أبرز مناطق نفوذ إيران والمجموعات الموالية لها من جنسيات متعددة، عراقية وأفغانية وباكستانية، في سوريا.
أمريكا دخلت في مشكلة مع تركيا بسبب أكراد سوريا
وتسبب الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية في غضب تركي، وفرضت دول أوروبية عقوبات على أنقرة بسبب عملياتها العسكرية ضد قسد.
إذ تريد أنقرة تشكيل منطقة آمنة على حدودها تفصل بين مناطق سيطرة قسد والأراضي التركية منعاً لاستخدام حزب العمال الأراضي السورية لضرب تركيا، أو تنفيذ أعمال إرهابية كما حدث في آخر عملية إرهابية التي جاءت منفذتها من شمال سوريا، وكان الأمريكيون قد وافقوا على هذا الترتيب مع أنقرة ثم تراجعوا عن تنفيذه، في ظل دعمهم اللامحدود للدويلة الكردية بشمال سوريا على حساب حليفتهم تركيا التي لديها أكبر جيش في الناتو بعد الولايات المتحدة نفسها.
ولكن اليوم تيقنت أنهم حلفاء سريون لإيران وروسيا
ولكن مؤخراً، هناك تقارير عن استياء أمريكي من قسد؛ لأن الحزب الكردي السوري يتحفظ على طلب الأمريكيين في مساعدته في التصدي لعمليات التهريب التي تنفذها إيران وحلفاؤها، في هذه المنطقة الاستراتيجية التي تصل بين سوريا والعراق، وتمثل أهمية كبيرة لإيران كحلقة وصل بين وجودها في العراق، ووجودها في سوريا ولبنان حيث يوجد حزب الله.
في المقابل، لدى قسد وحزب العمال الكردستاني الماركسي علاقات وثيقة مع روسيا ونظام الأسد وإيران وتحالف غير معلن، يستهدف تركيا وسنة سوريا بالأساس، حيث كثيراً ما حدث تنسيق عسكري بين النظام السوري والأكراد ضد المعارضة السورية الرئيسية الحليفة لتركيا، كما أنه في مواجهة احتمالات تدخل عسكري تركي سبق أن سلمت قسد بعض مناطق سيطرتها للنظام السوري ليصبح هو في مواجهة الجيش التركي.
وتعامت أمريكا عن كل هذه الحقائق المعروفة والتي تذكرها مراكز أبحاث غربية، ولكن مع تزايد رغبة واشنطن في احتواء تصاعد النفوذ الإيراني والروسي في المنطقة، يبدو أن مصالح أمريكا والإدارة الكردية في شمال سوريا لم تعد تتطابق.
ولذا يرى البعض أن ردة الفعل الأمريكية على الانتفاضة العشائرية العربية لم تكن قوية لأنها أرادت إرسال رسالة لقسد بضرورة التصدي للنفوذ الإيراني الروسي والنأي بعيداً عنهما، وإعطاء دور أكبر للمكون العربي في المنطقة، خاصة منطقة دير الزور.
كيف أسس الأكراد دويلة على ثلث مساحة سوريا رغم وجود أغلبية عربية؟
وتتولّى الإدارة الذاتية الكردية التي أسسها الحزب الديمقراطي الكردي السوري، وقوات سوريا الديمقراطية التي تشكّل جناحها العسكري، إدارة مناطق تسيطر عليها في شمال وشمال شرقي سوريا، عبر مجالس محلية مدنية وعسكرية.
وأُنشئ الحزب الديمقراطي الكردي السوري أو حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي عام 2003، على يد عناصر سورية في حزب العمال الكردستاني المسلح، المناهض للدولة التركية، الذي غالباً ما يشنّ هجمات من جبال قنديل العراقية، حيث مقرّ قيادة الحزب (والحزب مصنف حزباً إرهابياً في تركيا ومعظم الدول الغربية، ورغم الصِّلات المعروفة لحزب العمل بالاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، إلا أن الدول الغربية تصر على الفصل بينهما، كما تعتبره حليفها الأول في سوريا).
تمثل مساحة سيطرة الأكراد نحو ثلث مساحة سوريا، رغم أن السكان الأكراد يقتصر وجودهم على الشريط الحدودي مع تركيا، وخاصة في أقصى الشمال الشرقي.
وكثير من أكراد سوريا من أصول تركية حيث طردوا منها قبل عقود إثر تمرد كردي ضد مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك وجاءوا لسوريا في عهد الاستعمار الفرنسي، الذي وطنهم في إطار سياسته للاستفادة من وجود الأقليات في سوريا، مثلما فعل بتعزيز الوجود العلوي في الجيش السوري.
وكان كثير من الأكراد لا يحملون الجنسية السورية، قبل أن يمنحها لهم نظام الأسد في بداية الثورة السورية في محاولة لاستمالتهم، خاصة أن القوة السياسية المسيطرة على الأكراد منبثقة عن حزب العمال الكردستاني الحليف تاريخياً لنظام الأسد (زعيم الحزب عبد الله أوجلان كان مختبئاً لدى نظام الأسد قبل أن يسلَّم لأنقرة).
وبالفعل لم يشارك الحزب الديمقراطي الكردي السوري في الثورة السورية وتحالف مع نظام الأسد، ورفض التعاون مع المعارضة السورية الرئيسية ورغم تهميش النظام للأكراد تاريخياً، في مقابل تأكيد المعارضة على حقوقهم الثقافية، بل ومنحها رئاسة المجلس الوطني السوري (هيكل المعارضة الرئيسي أثناء الثورة) للمعارض الكردي عبد الباسط سيدا.
وأتاح القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" ككيانٍ سياسي، في مارس/آذار 2019، الفرصة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، للسيطرة على نحو ثلث الأراضي السورية، حيث يُقيم ملايين السوريين ومعظمهم من غير الأكراد، حسب ما ورد في ورقة بحثية أعدها الباحثان إليزابيث تسوركوف زميلة أبحاث في منتدى التفكير الإقليمي، المتخصصة في الشؤون السورية والعراقية، وعصام الحسن الباحث المقيم في دير الزور، المتخصص في السياسة القبلية، ونُشرت في موقع مركز كارنيغي.
وتبنّت الإدارة الذاتية خطاب الحكم الذاتي القائم على "أخوة الشعوب"، وفي الوقت نفسه، أبدت رفضها التخلّي عن أية سلطة فعلية في مجال صناعة القرار، وتسليمها إلى الجماعات الكردية الأخرى أو إلى القيادة السياسية والعسكرية الاسمية للمشاركين العرب في الإدارة الذاتية و"قسد"، حسب التقرير.
يقول السكان المحليون في المدن ذات الأكثرية العربية الخاضعة لسيطرة "قسد" إنَّ تهميش العرب من آلية الحكم في مناطقهم يولِّد مشاعرَ استياء لدى العرب المثقَّفين والمتمرِّسين، الذين يعتبرون أنفسَهم غير معنيين بإدارة مناطقهم.
والواقع على الأرض في شمال شرقي سوريا يكشف أن الكومونات وغيرها من وحدات الحكومة التابعة للأكراد، هي بصورة أساسية عبارة عن وسيلة لتوزيع الخدمات وجمع المعلومات والسيطرة على السكان والإيحاء ظاهرياً بالمشاركة الشعبية، حسب التقرير.
فصناعة القرار لا تزال مركزة في أيدي الكوادر، أي كبار العناصر في حزب العمال الكردستاني، من رجال ونساء، الذين تدرَّبوا في جبال قنديل وأدّوا دوراً ناشطاً في التمرد ضد تركيا، أو في التعبئة باسم حزب العمال الكردستاني في أوروبا.
هؤلاء الأشخاص معظمهم سوريون، لكنَّهم غادروا منازلَهم قبل عقود للانضمام إلى حزب العمال الكردستاني.
وهم مَن يتولّون عادة اتخاذ القرارات الكبيرة والصغيرة في المناطق ذات الأكثرية الكردية والعربية على السواء.
المستشارون الأكراد هم مَن يتَّخذون القرارات
وفي حين عُيِّن العرب في مناصب عسكرية ومدنية قيادية في جميع المناطق ذات الأكثرية العربية، يتّخذ الكوادر الحزبية الكردية الذين يوصَفون بأنهم "مستشارو" القادة العرب المحليين، معظمَ القرارات، ويتجاوزون أحياناً العرب المكلَّفين رسمياً بالمسؤوليات والمهام.
ويصف أحد النشطاء في دير الزور "الكوادر الأكراد" في الهيئات التي يتولى العرب رسمياً قيادتها، بأنهم "العلويون الجدد"، في إشارة إلى الطائفة التي ينتمي إليها آل الأسد، الذين يشغلون معظم المناصب النافذة في سوريا.
وقال زعيم إحدى القبائل الكبيرة في دير الزور: "يأتون من الجبال (جبال قنديل) ويحاولون أن يحكموا مناطقنا التي لا يفهمون طبيعتها".
بعضهم يسخر من العرب
وفي أحد المجالس العسكرية الكبرى في مدينة ذات أكثرية عربية، سخر المقاتلون الأكراد الأدنى رتبة من رئيس المجلس المشترك، وهو رجل عربي، واصفين إياه بـ"البدوي".
وفوجئوا عندما قال أحد كاتبَي تقرير كارينغي إنّ الرجل واسع الاطلاع، وإنه أدلى بمعلومات مفيدة عن المنطقة، حيث أبصر النور وترعرع.
وقد تحدّثت الرئيسة المشتركة لأحد المجالس المدنية في منطقة ذات أكثرية عربية، عن نظرة شائعة لدى زملائها في المجلس: "نحن نثق بشريكنا الكردي، لكنه لا يثق بنا".
ولفتت في هذا الصدد إلى أن "كل قائد عربي يتبع لقائد كردي أعلى منه".
وتكشف المحادثات مع قياديين أكراد في قوات سوريا الديمقراطية أنهم ينظرون إلى العرب المقيمين في شرقي سوريا على أنهم شديدو التمسك بانتماءاتهم القبلية، وينقادون بسهولة إلى النزاع الداخلي، وبأنهم بعيدون عن المبادئ، وغير جديرين بالثقة.
بل إنهم لا يثقون في الأكراد أيضاً.. ويهمّشون المثقفين العرب لصالح القيادات القبلية
بيد أن غياب الثقة في السكان يتجلّى أيضاً في المناطق الكردية.
وقال عضو سابق في حزب الاتحاد الديمقراطي، في معرض حديثه عن الخلل الوظيفي في منظومة الكوميونات في القامشلي، مسقط رأسه: "لا يثق الحزب (حزب الاتحاد الديمقراطي) في المجتمع؛ لأنه يعتبر أن السكان جهلة وغير ضالعين في الأيديولوجيا (أيدولوجيا الحزب خليط من التوجهات الشيوعية والقومية الكردية الراديكالية)".
في بعض المناطق ذات الأكثرية العربية، اختارت الإدارة الذاتية العمل عن طريق شيوخ القبائل، بدلاً من المهنيين المثقّفين.
وقد رفض النشطاء والمهنيون العرب، على نطاق واسع، تسلُّم مناصب في مؤسسات الإدارة الذاتية التي يرون فيها "أوراق تين" لتغطية الأجهزة المركزية الكردية الحقيقية.
ويعتبر هؤلاء أن قرار العمل مع الشيوخ هو سياسة متعمَّدة، الهدف منها تمكين الشيوخ الأكثر انقياداً وغير العقائديين عموماً، على حساب الشباب المتعلِّمين الأكثر "ثورية"، الذين هم أقل تقبلاً لسياسات الصفقات.
لماذا تمثّل سياسات الإدارة الكردية بسوريا خطراً على العالم كله؟ تذكّروا كيف نشأت داعش
وقد أدَّى ذلك، وفقاً لسياسيين ونشطاء وشخصيات قبلية في دير الزور، إلى تجريد العرب في المحافظة من إمكاناتهم، الأمر الذي يُسهم بدوره في التجدد المقلق للهجمات التي تشنّها خلايا نائمة تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في المنطقة.
داعش نشأ في العراق بسبب تهميش السنة العرب، وكثير من مناطق سنة العراق متاخمة لشمال شرق سوريا، وهي متشابهة في الطباع.
وقد ينبعث التنظيم مجدداً من سوريا، بسبب تهميش العرب السنة في شمال شرقي البلاد، خاصة في ظل الطابع العشائري للمنطقة وصفات السكان ذوي الأصول البدوية الرافضة للتهميش والخضوع.
وقد حذَّر الرئيس المشترك لأحد المجالس المدنية في شرقي سوريا من أن ظهور داعش في العراق مردّه إلى حرمان السنّة من حقوقهم، ومن أن السيناريو نفسه قد يتكرر في شرقي سوريا، بسبب حرمان العرب السنّة من حقوقهم.
إنهم ينظرون للتنظيم الكردي كاحتلال أجنبي
غالب الظنّ أنَّ السكان المحليين ينظرون إلى وجود "قسد" في المنطقة بأنه احتلال أجنبي، في ظل تمثيل حقيقي لأبناء المنطقة، حسب تقرير كارنيغي (الذي كُتب قبل سنوات).
ويمكن ملاحظة أنه ينطبق على الكيان الكردي في شمال شرق سوريا التعريف العلمي للدويلة العنصرية، فهي إدارة غير منتخبة ومفروضة بالقوة، تحكم فيها أقلية عرقية وأيديولوجية من عرق مختلف، على غرار نموذج جنوب إفريقيا قبل إنهاء الحكم العنصري وبدعم أمريكي.
ولم يحاول الأكراد ولا داعموهم الغربيون يوماً إجراء انتخابات في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية التي لا تحمل من الديمقراطية سوى اسمها.
ويرى تقرير كارنيغي أن التحالف الدولي الذي يحارب تنظيم داعش كان يجب أن يستخدم النفوذ الذي يتمتع به التحالف، وتشجيع حزب الاتحاد الديمقراطي لتمكين العرب والأكراد على السواء، والسماح لهم بتطبيق الإدارة الذاتية الفعلية.
والمفارقة أن الإدارة الكردية اعتمدت على الشخصيات العشائرية غير المسيسة لبسط سيطرتها على المناطق العربية، وهمشت المثقفين والتنظيمات العربية، ولكن اليوم فإن القيادات العشائرية هي التي تقود الانتفاضة العربية ضد الأبارتهايد الكردي في شمال شرقي سوريا.