في الساعات الأولى من يوم 29 أغسطس/آب 2023، حلَّقت أسراب من الطائرات المسيَّرة الأوكرانية فوق سبع مناطق روسية، واعتُرض كثير منها، لكن بعضها تمكَّن من بلوغ هدفه، ووصل إلى قاعدة جوية روسية في بسكوف، على بعد نحو 600 كيلومتر من الحدود الأوكرانية، ودمَّر طائرتي نقل عسكريتين روسيتين وألحق أضراراً بطائرتين أخريين.
أوكرانيا تسعى لنقل الحرب إلى داخل روسيا
لقد كان هذا أبرز دليل حتى الآن على الملمح الجديد للصراع المستمر منذ 18 شهراً، وهو تزايد رغبة أوكرانيا في نقل الحرب إلى الأراضي الروسية، كما يقول تقرير لموقع CNN International الأمريكي.
وفي هذا السياق، فإن هجمات المسيَّرات في البر والبحر، والصواريخ الجديدة المعدَّلة، ومجموعات التخريب إنما هي جزء من الأدوات التي تستعين بها أوكرانيا لمهاجمة قائمة الأهداف، التي تشمل المطارات الروسية والدفاعات الجوية وطرق الإمداد.
ولدى أوكرانيا أسباب كثيرة لتوسيع نطاق الصراع، فهي ترى أن الانتصار هو انتصار مهما كان زمانه أو مكانه، وسواء أكان بتدمير الطائرات في قاعدة جوية روسية بعيدة، أم بتعطيل الطيران التجاري والشحن، أم بتعريض سكان المناطق الحدودية الروسية للخطر، أم بضرب الدفاعات الجوية الروسية في شبه جزيرة القرم.
ويرى الأوكرانيون الذين عانوا وطأة هجمات الطائرات المسيَّرة والصواريخ الروسية أن أي بادرة للثأر، وإن كانت أقل تأثيراً بكثير مما تعرضوا له، دفعة معنوية جديرة بالتأييد، لا سيما أن الهجوم المضاد لأوكرانيا في الجنوب لا يزال متعسراً في بلوغ التأثير المرتجى من هجماته.
ولم يعتذر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن نقل الصراع إلى الأراضي الروسية، بل قال: "إن الحرب تعود إلى أراضي روسيا، إلى مراكزها الرمزية وقواعدها العسكرية، وهذه عملية حتمية ومنطقية وعادلة بلا شك".
أوكرانيا تتجنب استخدام أسلحة غربية في هجماتها على الأراضي الروسية
من جهة أخرى، فإن الهجمات البعيدة عن الخطوط الأمامية دليل على تطور قدرات أوكرانيا في إبراز القوة، فهي تحرص على ألا تكون الأدوات المستخدمة في هذه الهجمات معتمدة على الأجهزة الغربية، بل على وسائل محلية، من حيث التكنولوجيا والتكتيكات، كما تقول شبكة CNN.
وقد أكد زيلينسكي ووزير الدفاع أوليكسي ريزنيكوف مراراً للمانحين الغربيين أن أسلحتهم لن تُستخدم في الهجوم على الأهداف داخل روسيا؛ لأن الجميع يعرف أن موسكو ستعدُّ ذلك عملاً عدوانياً يعني أن القوى الغربية صارت طرفاً مباشراً في الصراع.
وقد شدد ميخايلو بودولياك، مستشار الرئيس الأوكراني، على الأمر ذاته هذا الأسبوع، قائلاً إن "أوكرانيا حريصة كل الحرص على تعهدها بعدمِ استخدام أسلحة شركائها في الهجوم على الأراضي الروسية".
في المقابل، تمضي أوكرانيا قدماً في التأسيس لقاعدة تصنيع أسلحة تستطيع الاعتماد عليها في توفير الوسائل اللازمة لمهاجمة الأهداف الروسية، مثل قذائف المدفعية من عيار 155 ملم، والمسيَّرات طويلة المدى، فضلاً عن صاروخ جديد بعيد المدى على ما يبدو.
لمَّح كبار المسؤولين الأوكرانيين إلى أن بلادهم تمكنت من تطوير صاروخ كروز جديد. ونشرَ أوليكسي دانيلوف، سكرتير مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني، مقطع فيديو، الأسبوع الماضي، للصاروخ المزعوم، صاحبه تعليق توضيحي يقول: "برنامج الصواريخ الذي أعلن عنه رئيس أوكرانيا قيد التنفيذ.. الاختبارات ناجحة والاستخدام فعال".
وتحدث بعد ذلك عن برنامج تطوير مدته ثلاث سنوات، لصواريخ قادرة على بلوغ الأهداف الواقعة على "مسافة آلاف الكيلومترات، وهذا عملُ فِرق كبيرة، وجهد شاق. والآن يمكننا أن نقول إن جهودنا بدأت تؤتي أُكلها".
وبعث زيلينسكي نفسه برسالة غامضة هنأ فيها وزارة الصناعات الاستراتيجية بالقول: "استخدام ناجح لأسلحتنا بعيدة المدى: أُصيب الهدف على بعد 700 كيلومتر!".
من الدفاع إلى الهجوم
وأكد مركز الاتصالات الاستراتيجية الأوكراني هذا الأمر يوم الجمعة 1 سبتمبر/أيلول 2023، بالحديث عن أن "زيادة مدى الهجمات يدمر وهْم السيطرة الأمنية الروسي، ويرفع من تكلفة العدوان على العدو".
ومن الواضح أن هذا الأمر صار ضلعاً في استراتيجية أوكرانيا للحرب، إذ قال بودولياك: "إن الحرب لا تنفك تنتقل إلى الأراضي الروسية، ولا يمكن وقفها. وهذا الأمر ناشئ عن أن روسيا فقدت عنصر الحفاظ على خط المواجهة (فهي تقاتل منذ مدة طويلة بأعداد كبيرة وتكتفي بالدفاع، خلاف كل الأساطير الدعائية التي تزعم غير ذلك)، والافتقار إلى حلول واقعية لمواجهة الهجمات (مثل الدفاع الجوي)".
ومن أبرز الوسائل المُعتمد عليها في هذه الاستراتيجية، المسيَّرات الأوكرانية، في البر وفي البحر. وقد كشفت أوكرانيا في الإصدارات الأخيرة عن مسيَّرات ذات مدى أطول وحمولات أكبر من النماذج السابقة، وعزا الأوكرانيون ذلك إلى إنشائهم شبكة عالمية لتطوير تكنولوجيا الطائرات المسيَّرة، وتوقيع عقود مع العديد من الشركات المصنعة المحلية.
الهجوم على قاعدة بسكوف الجوية الروسية إحدى أهم ثمار هذا العمل، وإن كانت كيفية تنفيذه لا تزال غامضة. وقال كيريلو بودانوف، رئيس الاستخبارات الدفاعية الأوكرانية، إن الهجوم انطلق من داخل روسيا، لكنه رفض الكشف عن نوع الطائرات المسيَّرة المستخدمة وعددها.
وربما تكون المسيَّرات قد انطلقت من الأراضي الأوكرانية، لكن الاستهداف الدقيق على مسافة تزيد على 700 كيلومتر يتطلب تغييراً بارزاً في القدرات الملاحية للمسيَّرات.
على أثر ذلك، اشتكى أحد المدونين الروس من أن ضربة بسكوف تدل على أن الدفاعات الجوية الروسية ليست مهيأة لمواجهة الضربات المتكررة من الطائرات المسيَّرة الأوكرانية.
وعلى الرغم من أن الأضرار التي تُحدثها هذه الهجمات لن تكسر شوكة القوات الجوية الروسية، فإنها صارت وسيلة ذات تأثير يُنذر بمزيد من الأخطار. ففي 22 أغسطس/آب، اشتعلت النيران في قاذفة استراتيجية روسية من طراز "توبوليف تي يو 22 إم" في "قاعدة سولتسي 2" الجوية بشمال روسيا؛ ثم جاء هجوم بسكوف.
هجمات في البحر أيضاً
كذلك استثمرت أوكرانيا بكثافة في تطوير المسيَّرات البحرية، حتى إن أحدث الطائرات التي استخدمتها وصلت حمولتها المتفجرة إلى 400 كيلوغرام، وهي حمولة قادرة على ثقب سفينة كبيرة، فضلاً عن أن المسيَّرة تستطيع التحليق لمسافة تصل إلى مئات الكيلومترات.
وفي أوائل أغسطس/آب الماضي، أصاب أحد هذه الصواريخ ناقلة الغاز والكيماويات الروسية "إس آي جي" بالقرب من مضيق كيرتش، ما أدى إلى شل حركتها وإن لم يغرقها. وأصاب صاروخٌ سفينة بحرية روسية في ميناء نوفوسيبيرسك.
استخدام المسيَّرات البحرية في مهاجمة سفن الشحن البحري والتجاري الروسية في البحر الأسود يعطي دفعة معنوية للأوكرانيين، ويصعِّب الأمور على روسيا. وقد اضطرت بعض السفن الحربية الروسية في البحر الأسود إلى تركيب مدافع رشاشة على أسطحها؛ لمواجهة المسيرات التي يتعذر التصدي لها بالوسائل التقليدية.
كتب ميك ريان، مؤسس مدونة Futura Doctrina والجنرال السابق في القوات المسلحة الأسترالية: "على الرغم من أنه من المستبعد أن تستطيع أوكرانيا تطوير أسطولها البحري التقليدي لمحاربة الروس، فإن الأوكرانيين تمكنوا من تطوير قدرات أخرى غير مأهولة. فهذه المسيرات وإن لم تقدر على إغراق السفن الحربية السطحية الروسية ولا إتلافها، فإنها قادرة على إحداث ضربات نفسية تدفع السفن الروسية إلى تجنب الإبحار" كما تريد.
وأشار "معهد دراسة الحرب" الأمريكي إلى أن "القوات الروسية ربما ركزت دفاعاتها الجوية على حماية موسكو، ولم تحسب حساباً للعدد الكبير غير المعهود من المسيَّرات الأوكرانية التي قيل إنها ضربت مطار بسكوف".
علاوة على ذلك، زاد الأوكرانيون من تركيز هجماتهم على خطوط النقل الروسية، والدفاعات الجوية، والقواعد العسكرية في شبه جزيرة القرم. وفي الشهر الماضي، نفذوا ضربة صاروخية ضد أحد أنظمة الدفاع الجوي الروسية الحديثة من طراز "إس 400" على ساحل القرم، وأعقبوها بغارة لقوات خاصة أوكرانية.
وقال بودانوف بعد ذلك: "لدينا القدرة على ضرب أي جزء من شبه جزيرة القرم (المحتلة مؤقتاً) بعد الآن. لقد صرنا نستطيع الوصول إلى العدو في أي مكان نريده".
تعد هذه الضربات امتداداً للاستراتيجية التي استخدمت بنجاح منذ العام الماضي وقامت على استهداف المراكز اللوجستية الروسية ومراكز القيادة ومستودعات الذخيرة والوقود خلف الخطوط الأمامية، باستخدام أنظمة الصواريخ الغربية بعيدة المدى مثل "هيمارس" الأمريكية، و"ستورم شادو" البريطانية التي يبلغ مداها 250 كيلومتراً، والتي كان لها تأثير حاسم في خيرسون ولوغانسك وزابوريجيا.
أوكرانيا تبحث عن تغيير مسار الحرب
هذه الأسلحة تُنذر القوات الروسية بأنها معرضة للخطر حتى وإن كانت بعيدة عن الخطوط الأمامية. وقد أدى هجوم على مركز قيادة روسي في بيرديانسك المحتلة، في يوليو/تموز، إلى مقتل جنرال روسي كبير؛ ودمَّر هجوم في يناير/كانون الثاني ثكنةً عسكرية روسية في دونيتسك، مسفراً عن مقتل عدد كبير من الجنود.
إن هجمات المسيَّرات الأوكرانية وتطوير الصواريخ الجديدة لن يبلغ تأثيرهما أن يغير مسار الحرب؛ ونجاح الأوكرانيين أو إخفاقهم يتوقف بالأساس على مساحة الأراضي المستردة من الاحتلال الروسي والقدرة على ردع العدوان، لكن ذلك لا ينتقص من تأثير العمليات الهجومية بعيدة المدى، فهي كما يقول ميك رايان، الجنرال السابق بالقوات الأسترالية، "طريقة لمواصلة القتال عندما تصبح المناورة البرية صعبة في موسم الأمطار والبرد. وهي وسيلة لإبراز نوعٍ من التقدم في الحرب لمؤيدي أوكرانيا حين تنخفض وتيرة العمليات الأخرى".
ويقول ميخايلو بودولياك، مستشار الرئيس الأوكراني، إن الهدف على المدى الطويل هو شن حرب واسعة على روسيا. و"ما دام [فلاديمير] بوتين رئيساً لروسيا، فإن الحرب ستستمر. وستنحدر روسيا انحداراً أعمق إلى هاوية الفوضى".