عقد العراق جولة جديدة من الحوار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وهو مؤشر على الخيط الرفيع أو حقل الألغام الذي وجدت بغداد نفسها فيه منذ 20 عاماً، فكيف توفق بلاد الرافدين علاقاتها الأمنية مع إيران أمريكا؟
كان الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد قد بدأ عام 2020 بعد أن تسبب اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، على الأراضي العراقية في إصدار البرلمان العراقي قراراً بطرد القوات العراقية من البلاد بشكل كامل.
وبعد 3 سنوات تقريباً، وضعت حكومة محمد شياع السوداني في العراق قضية التنسيق الأمني مع واشنطن أولوية لها، فانعقد "حوار التعاون الأمني المشترك" بين الجانبين في العاصمة الأمريكية خلال النصف الأول من أغسطس/آب الجاري، فإلى أين تتجه مسيرة السبر على الألغام من جانب بغداد؟
تنسيق أمني بين العراق وأمريكا
على الرغم من أن العراق يمثل أحد أبرز نقاط الصراع المفتوح بين طهران وواشنطن منذ الغزو الأمريكي عام 2003، كان لافتاً عدم ذكر الرئيس الأمريكي العراق مرة واحدة في خطاباته بشأن السياسة الخارجية الأمريكية خلال الأيام الـ100 الأولى من رئاسته.
وأثار ذلك الموقف انتقادات ضخمة بطبيعة الحال، لدرجة أن مجلة Foreign Policy الأمريكية كانت قد نشرت تحليلاً بعنوان "اختفاء العراق من أجندة بايدن خطأ ضخم"، رصد أهمية بلاد الرافدين وما يجري فيها على أي تغيير استراتيجي قد يسعى بايدن لإحداثه في السياسة الخارجية لأمريكا في الشرق الأوسط ككل، إذ إن نجاح العراق أو فشله في التحول إلى دولة ديمقراطية حقيقية خالية من الفساد والحكم الطائفي هو مسألة لن تنعكس على العراق وأهله وحسب، بل على الشرق الأوسط ككل من ناحية، وصورة ومصالح واشنطن حول العالم من ناحية أخرى.
على أية حال، أجبرت الأحداث على الأرض إدارة بايدن على محاولة استدراك الخطأ، حتى وإن كان ذلك بصورة بطيئة ومتأخرة في أغلب الأحيان. وفي الوقت نفسه، وجدت حكومة السوداني في بغداد ضرورة ملحة في التوصل إلى صيغة مقبولة لضبط العلاقات الأمنية مع واشنطن.
في هذا الإطار، انعقد "حوار التعاون الأمني المشترك" بين الولايات المتحدة والـعراق، في واشنطن يومي 7-8 أغسطس/آب 2023، بمشاركة وفد عراقي ترأسه وزير الدفاع "ثابت العباسي"، وضم أيضا رئيس جهاز مكافحة الإرهاب "عبد الوهاب الساعدي"، ووفد أمريكي بقيادة مساعدة وزير الدفاع "سيليست والاندر".
يأتي ذلك استكمالاً للحوار الاستراتيجي بين البلدين، الذي كان قد بدأ في يونيو/حزيران 2020 لمعالجة 4 ملفات رئيسية، هي الأمن ومكافحة الإرهاب، والاقتصاد والطاقة، والقضايا السياسية، والعلاقات الثقافية.
اجتمع الوفد العـراقي أيضاً مع وزير الدفاع الأمريكي "لويد أوستن"، وممثلين عن هيئة الأركان المشتركة ووكالة التعاون الأمني الدفاعي والقيادة المركزية الأمريكية ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي.
ماذا تريد أمريكا في العراق؟
منصة "أسباب" المعنية بالتحليل السياسي والاستراتيجي تناولت ملف العلاقات بين العراق وإيران والعراق وأمريكا، والذي تجد بغداد فيها نفسها مضطرة للسير على خيط رفيع لإحداث توازن دقيق بين واشنطن وطهران في حوار التعاون الأمني.
من جانب إدارة بايدن، يمثل تأمين المصالح الأمريكية في العراق أولوية، حيث يقع العراق في موقع مهم بالمشرق العربي، ويمتلك موارد طاقة وفيرة، ويمثل مرتكزاً لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وساحة للتعاون الأمريكي الكردي.
وفي هذا الإطار، ينتشر نحو 2000 جندي أمريكي على الأراضي العراقية لأداء مهام استشارية وتدريبية لصالح حكومتي بغداد وإقليم كردستان. ويمنح الوجود العسكري في العراق ضمانة لمواصلة واشنطن وجودها العسكري والأمني في سوريا؛ حيث تتحرك قوافل الإمداد اللوجستية الأمريكية انطلاقاً من العراق إلى القوات الأمريكية في سوريا، والتي تبلغ نحو 900 جندي، فضلاً عن تقديمه الدعم والإسناد للقوات الكردية الحليفة في سوريا.
لكن تخشى الولايات المتحدة من أن تؤدي الخلافات بين حكومتي بغداد وأربيل، والنزاعات المتواصلة بين الأحزاب السياسية العراقية، إلى توفير بيئة تتيح عودة وبعث تنظيم داعش مجدداً.
وبالتالي، فإن واشنطن حريصة على تعزيز قدرات الجيش العراقي، وتقديم الدعم الجوي والاستخباراتي، والتشجيع على التنسيق الأمني الثنائي بين بغداد وأربيل خاصة لسد الفجوات في المناطق الحدودية المتنازع عليها بينهما، فضلاً عن حث حكومة بغداد على إعادة توطين النازحين ودمجهم في المجتمع وإعادة بناء المناطق المدمرة بهدف نزع فتيل أزمة المظالم المجتمعية في الوسط السني التي يستفيد منها داعش.
أما الحكومة العراقية، فهي حريصة على الاستفادة من الدعم الأمريكي في تأهيل الجيش العراقي وجهاز الاستخبارات، وجهاز مكافحة الإرهاب، حيث تدرب ما يزيد على 200 ألف عنصر أمني وعسكري عراقي على يد القوات الأمريكية.
ورغم ذلك لا تزال القوات العراقية تفتقر إلى القدرة على مواجهة التهديدات الأمنية بمفردها بمعزل عن الدعم الجوي والاستخباراتي الأمريكي، فيما يظل شبح تكرار انهيار الجيش العراقي في مواجهة تنظيم داعش على غرار عام 2014، يطارد عقول المسؤولين العراقيين والأمريكيين.
ماذا عن إيران؟
بالإضافة لتلك الأهداف الأمريكية، فإن الوجود العسكري الأمريكي في العراق يوفر الفرصة لواشنطن لمراقبة أنشطة إيران العسكرية في المنطقة وفي الداخل الإيراني، بما في ذلك رصد بناء قواعد عسكرية جديدة، أو تحريك بطاريات إطلاق الصواريخ البالستية.
وفي الوقت نفسه، تستخدم واشنطن وطهران العراق كساحة لتصفية الحسابات والمواجهات غير المباشرة، مثلما حدث في اغتيال قائد فيلق القدس "قاسم سليماني" قرب مطار بغداد عام 2020، وهو ما ردت عليه طهران بقصف قواعد أمريكية داخل العراق.
وعقب اغتيال "سليماني"، تبنّت إيران استراتيجية طويلة المدى تستهدف إضعاف الوجود الأمريكي في المنطقة، خاصة العراق وسوريا، كضرورة لتحسين البيئة الأمنية التي أدركت طهران أنها تحمل مخاطر كانت غافلة عنها.
وتحت هذه الاستراتيجية وبصورة مدروسة ومنسقة، هاجمت جماعات عراقية موالية لإيران القوات الأمريكية في العراق، ووضعت الوجود الأمريكي عموماً تحت ضغط مدروس، وتعددت حوادث استهداف القوات الأمريكية، فضلاً عن المواطنين الأمريكيين، ومن آخرها اغتيال الأمريكي "ستيفن ترول" في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 بالعاصمة بغداد.
وعلى الرغم من رد الجيش الأمريكي على تلك الأحداث باستهداف مواقع لميليشيات مثل حزب الله العراقي وكتائب سيد الشهداء، فإن إيران نجحت، بنسبة معتبرة، في تحويل العراق إلى بيئة معادية للوجود الأمريكي، بما في ذلك المستوى السياسي، حيث أصدر البرلمان العراقي، بتحرك من حلفاء إيران، قراراً يطالب بخروج القوات الأمريكية من البلاد، اضطرت معه واشنطن لتقليل عدد جنودها في العراق، وتحويل مهمة قواتها منذ يوليو/تموز 2021 إلى مهمة استشارية غير قتالية.
منذ ذلك الحين؛ تحرص واشنطن على التنسيق مع بغداد للحفاظ على بقاء القوات الأمريكية، وفق إطار شرعي يستند إلى تلبية دعوة حكومة بغداد لمساعدة الجيش العراقي في مواجهة تنظيم داعش، وتدريب الأجهزة الأمنية والعسكرية.
كما تعمل واشنطن على تعزيز علاقاتها مع شخصيات وجهات حكومية عراقية، خاصة في الجيش والمخابرات وجهاز مكافحة الإرهاب، فضلاً عن قوى سياسية وحزبية، بهدف معادلة نفوذ شبكة ميليشيات الحشد الشعبي المتحالفة مع إيران، والتي تتمتع بحماية الدولة العراقية عبر انخراطها في المؤسسات العسكرية والأمنية.
ويمكن القول إن العراق يحكمه خلال العقد الأخير توازن دقيق بين النفوذين الأمريكي والإيراني. فمنذ إبعاد "نوري المالكي" عن رئاسة الحكومة، أفرزت المعادلة السياسية رؤساء حكومات يعبرون عن هذا التوازن المعقد، وتمتعوا بعلاقات جيدة مع الجانبين وحرصوا على عدم التورط في انحياز صريح يعرض العراق لغضب أي من الجانبين.
وبينما اعتبر رئيس الوزراء السابق "مصطفى الكاظمي"، أكثر ميلاً للولايات المتحدة وأكثر انفتاحاً على تطوير علاقات العراق عربياً، إلا أنه فشل في تفكيك ميليشيات الحشد الشعبي عبر دمجها في الجيش العراقي والمؤسسات الأمنية ووصلت معركة تكسير العظام بين الجانبين إلى محاولة اغتيال الكاظمي.
أما حكومة رئيس الوزراء الحالي، "محمد شياع السوداني"، القادم من الإطار التنسيقي الموالي لإيران، فهي أيضاً مرحب بها أمريكياً، وتعمل على بقاء علاقات العراق متوازنة مع واشنطن وطهران.
وبينما من المرجح أن تحرص واشنطن وبغداد على هذا التوازن الدقيق، فإن التهديد الأبرز للعلاقات بين البلدين يتعلق بمدى استقرار النظام السياسي العراقي، وبالأخص في ظل حالة الصراع بين التكتلات الشيعية المختلفة، بالإضافة إلى مستوى امتثال بغداد للعقوبات الأمريكية على طهران، ومدى نجاح حكومات العراق في إدارة ملف الميليشيات الموالية لإيران، في ظل تصاعد الضغوط الإيرانية إقليمياً بهدف وضع الوجود الأمريكي تحت ضغط متواصل.