قبل شهرين وأثناء تمرد مجموعة فاغنر، ارتقب الملايين ما هو رد فعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -الذي يكره الخيانة كما قال هو بنفسه من قبل- تجاه يده الطولى وقائد العمليات السرية يفغيني بريغوجين، لكن بوتين كانت لديه خطة ما في رأسه، وحده فقط يعرف متى ينفذها وكيف!!
صحيفة The Times البريطانية قالت في تقرير إن أحد المبادئ التوجيهية للدائرة الداخلية في الكرملين هو عدم ترك الأمور على حالها بعد أزمة تمرد مجموعة فاغنر.
ولم يكن إسقاط طائرة يفغيني بريغوجين الخاصة سوى مجرد محاولة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإنهاء التحدي الاستثنائي الذي وصل إلى ذروته، عندما زحف مرتزقة فاغنر التابعين لبريغوجين إلى موسكو، في تمرد انتهى بالفشل.
وكان من المتوقع أن يؤدي قمع هذا التمرد قبل شهرين إلى محاكمة بتهمة الخيانة ضد أمير الحرب في فاغنر، لكن بوتين تردد. ولجأ الرئيس بدلاً من ذلك إلى تجريد بريغوجين من صلاحياته خطوة بخطوة.
وكان تأثير ذلك هو ظهور بوتين بمظهرٍ ضعيف. وأعلن قادة في العالم، أنَّ الكرملين بحاجة إلى رد فعل أكثر صرامة لوقف استنزاف السلطة.
بيد أنَّ هذا الملف أُغلِق الآن، حتى لو تبيَّن أنَّ بريغوجين لم يكن على متن الطائرة التي تحطمت، على الرغم من وجوده في قائمة الركاب. فقد كان استخدام الدفاعات الجوية ضد الطائرة وسيلة علنية وحازمة لإنهاء منافسته المُعلَنة للكرملين. وبينما تعرّض منافسون مفترضون آخرون للتسميم أو السقوط من النوافذ، كان ما حدث لبريغوجين معاكساً للاغتيال الخفي.
لماذا انتظر بوتين؟
ويثير تحطم الطائرة سؤالين: لماذا انتظر بوتين كل هذا الوقت؟ وما الذي تغير في المشهد السياسي الروسي خلال الأسابيع الثمانية الماضية؟
يتمسك بوتين منذ فترة طويلة بالحكمة الشعبية التي تقول إنَّ التأخر في الانتقام يجعل الضربة أشد قسوة. ومع ذلك، كلما طال انتظاره، بدا بوتين أضعف. وكانت الخطوة الأولى بعد التمرد متوقعة، وهي إخضاع المرتزقة لوزارة الدفاع الروسية. وكان بريغوجين قد قاوم في السابق مثل هذه الخطوة. لكن فشل التمرد جعلها خطوة حتمية.
إلا أنَّ بريغوجين كان لا يزال يتمتع ببعض القوة التفاوضية. وكانت هناك عناصر من القيادة العسكرية العليا متعاطفة مع المرتزقة. ومن المؤكد أنه في وقت حرب الاستنزاف في باخموت وخارجها، كان مرتزقة فاغنر بمثابة الوقود المفيد في المعركة.
وأظهر بعض الجنرالات انزعاجهم من الضرر الذي لحق بسمعتهم إثر تجنيد فاغنر للمدانين والعفو عنهم، لكنهم لم يكونوا بحاجة إلى قوات متطورة للغاية في الخنادق.
ولطالما اكتنف الغموض العلاقات بين فاغنر وكبار الضباط في المخابرات العسكرية الروسية، لكن كان هناك دائماً احتمال أن يؤدي التخلص من بريغوجين -"مثل اقتلاع السن الفاسد" وفقاً لأحد المُعلّقين- إلى إشعال عداء صريح بين وكالات الاستخبارات المتنافسة. وجدير بالذكر هنا، أنَّ التقارير عن الطائرة التي أُسقِطَت شملت وجود ضابط من المديرية الرئيسية لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية في قائمة الركاب.
علاوة على ذلك، كانت شركة فاغنر تُدِّر أرباحاً، وساعدت عملياتها في إفريقيا والشرق الأوسط روسيا في الحصول على المناجم والمعادن المربحة.
وكان المنافس الثري الذي يتمتع بنفوذ في السياسة الخارجية أكثر من مجرد سن فاسد؛ إذ هدد استمرار تدفق الأموال بحدوث تمرد آخر.
بريغوجين كان لا يزال يؤثر على بوتين
وعلّق سيرجي ماركوف، الخبير السابق في الكرملين والعالم السياسي ومؤيد بوتين، قائلاً: "تكمن وراء الانقلابات أسباب جوهرية، وإذا بقيت هذه الأسباب قائمة، فقد يحدث الانقلاب مرة أخرى".
وبدا أنَّ بريغوجين، على الرغم من تفاخره وغروره، يتمتع بتأثير على الرئيس بوتين.
وكان بوتين منهجياً تماماً خلال الأسابيع الثمانية الماضية. ولفترة من الوقت بدا كما لو أنَّ الرئيس لوكاشينكو، رئيس بيلاروسيا، قد يحتفظ بمحاربي فاغنر الأوكرانيين القدامى في معسكر في بلاده.
ومع ذلك، لم يبدُ هذا قط مرضياً تماماً بالنسبة للديكتاتور البيلاروسي ولا للكرملين؛ إذ صارت مجموعة فاغنر، الساخطة والموالية جزئياً على الأقل لزعيمها المشين، مصدراً محتملاً لعدم الاستقرار، حتى لو أُرسِلَت للمنفى.
وفي هذه الأثناء، كان بريغوجين يتنقل داخل وخارج سان بطرسبرغ لحماية ثروته ولإجراء مكالمات بعيدة المدى مع القادة الأفارقة الذين ربما ما زالوا بحاجة إلى خدماته. وفي منطقة الساحل تحديداً، أُعجِب الرؤساء المحاصرون بسرعة زحف فاغنر نحو موسكو، والمدى الواسع الذي وصلوا إليه.
وما تغير في روسيا خلال الأسابيع الثمانية الماضية هو إطلاق عملية تطهير صامتة لكبار الضباط، التي لم تشمل من أظهروا تعاطفاً بسيطاً مع قدامى المحاربين في فاغنر فحسب، بل طالت أيضاً أولئك الذين شاركوا شكاوى بريغوجين العلنية بشأن إدارة الحرب في أوكرانيا.
وعولجت بعض الشكاوى بشأن إنتاج الذخيرة وسلاسل التوريد.
إضافة إلى ذلك، لجأت موسكو إلى التسلسل الهرمي العسكري التقليدي لإنهاء تأثير فاغنر كمجموعة ضغط ضد وزارة الدفاع الروسية.
أما التغيير الكبير الثاني الذي يجعل بريغوجين -الطاهي السابق لبوتين كما هو معروف عنه في الكرملين- رجلاً عادياً؛ هو إنشاء ميليشيات جديدة تدفع أجوراً عالية مثل فاغنر، لكنها تابعة صراحةً لوزارة الدفاع.
وتساعد الشركات الحكومية، مثل وكالة الفضاء روسكوزموس وشركة غازبروم المنتجة للطاقة، في تجنيد بعض موظفيها الشباب الذكور. ولهذه الميليشيات قيمة واضحة؛ فهي تؤجل اليوم الذي يتعين فيه على بوتين إعلان التعبئة العامة، وهو الأمر الذي لن يحظى بشعبية كبيرة.
وأحد أسباب الحفاظ على مجموعة فاغنر مستمرة هو أنَّ قواتها يمكن أن تتولى تنفيذ هجمات مباغتة في الحرب ضد أوكرانيا. وكان الأمل هو إلقاء اللوم على المرتزقة في ارتكاب الفظائع والحفاظ على الشرف المُفترَض للجيش الروسي النظامي.
وقد سلّط الإجراء الوشيك من جانب بريطانيا ودول أخرى لإعلان فاغنر منظمةً إرهابية مدى النفوذ الذي صارت تتمتع به قوات بريغوجين، وضرورة محاسبتها.