طلب قادة انقلاب النيجر من فرنسا سحب قواتها من البلاد، فرفضت باريس، فعلى ماذا يعوّل الطرفان في موقفيهما؟ وإلى أين تتجه الأمور في آخر معاقل النفوذ الفرنسي في إفريقيا؟
كانت النيجر، وهي واحدة من أكثر دول العالم التي شهدت انقلابات في تاريخها المعاصر، قد شهدت انقلاباً يوم 26 يوليو/تموز الماضي، أطاح بالرئيس محمد بازوم، أول رئيس منتخب يتسلم السلطة عبر انتقال سلمي في المستعمرة الفرنسية السابقة التي نالت استقلالها عام 1960.
وكانت إيكواس، المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، قد أمهلت قادة الانقلاب في النيجر مهلة حتى 6 أغسطس/آب للتراجع، وإلا فالحرب ستندلع لا محالة. ولم يتراجع قادة الانقلاب، بل أعلنوا عن محاكمة بازوم بتهمة "الخيانة العظمى"، فاجتمع قادة جيوش إيكواس لاتخاذ قرار الحرب، وهو ما يبدو أنه تم بالفعل في قمة إيكواس الطارئة في غانا، التي اختتمت الجمعة 18 أغسطس/آب.
لماذا ترفض فرنسا مغادرة النيجر؟
تراهن فرنسا الآن على التدخل العسكري للمجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا "إيكواس"، أو على انقلاب مضاد يقوده ضباط الجبهات ضد "جنرال القصر" عبد الرحمن تشياني، قائد الحرس الرئاسي الذي يتزعم الانقلاب.
إذ إن رفض فرنسا الاستجابة لطلب المجلس العسكري في النيجر بسحب نحو 1500 عسكري من قواتها من شأنه تصعيد الموقف بين الطرفين، ووضع البلاد أمام سيناريوهين، إما الدخول في مواجهة عسكرية على الطريقة الإيفوارية، أو اللجوء إلى الضغط الشعبي والدبلوماسي، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
وعلى الجانب الآخر، يعول المجلس العسكري في النيجر على النموذج المالي، من خلال طلب انسحاب القوات الفرنسية رسمياً من البلاد، وحشد الجماهير أمام قاعدتها العسكرية للضغط عليها، باعتبارها قوة احتلال، وتعزيز تعاونه العسكري مع روسيا، وبالأخص شركة فاغنر الأمنية، وإحراج باريس في مجلس الأمن الدولي بمساعدة موسكو.
كانت منطقة غرب إفريقيا، المكونة من مستعمرات فرنسية سابقة، قد شهدت 7 انقلابات عسكرية منذ عام 2020، نتج عنها طرد القوات الفرنسية من مالي وبوركينافاسو، وأصبحت النيجر آخر معاقل باريس، وهو ما يفسر إلى حد بعيد تمسك فرنسا بالبقاء وعدم سحب قواتها، رغم إلغاء قادة الانقلاب اتفاقيات التعاون الأمني والعسكري معها.
كما أن للنيجر أهمية استراتيجية لدى باريس لا توازيها أي دولة أخرى في الساحل، فبفضل اليورانيوم الذي تستخرجه منها (يغطي 35% من احتياجاتها) تبقى فرنسا مضيئة، حيث تعتمد الأخيرة على اليورانيوم لتشغيل محطاتها النووية التي تولد 70% من الكهرباء، وفق إعلام فرنسي.
فمن دون يورانيوم النيجر، الذي تستورده بأسعار زهيدة لا تتجاوز 300 مليون دولار سنوياً، ستضطر إلى البحث عن مصدّرين آخرين، أو استيراد الغاز الطبيعي بأسعار أغلى، وما يتطلبه ذلك من استثمارات جديدة في بناء محطات حرارية.
كما أن النيجر تعتبر مركزاً لعمليات القوات الفرنسية في الساحل، بعد طردها من مالي وبوركينافاسو، وتملك قاعدة عسكرية كبيرة في العاصمة نيامي. وتلعب هذه القاعدة العسكرية الفرنسية الدور الأبرز في مكافحة الإرهاب في الساحل، وأيضاً مراقبة موجات الهجرة غير النظامية الإفريقية نحو أوروبا، كما أنها مركز لعمليات حلف شمال الأطلسي "ناتو" في المنطقة.
لذلك لا ترغب باريس في التفريط في النيجر، وترك المجال مفتوحاً لروسيا لفرض هيمنتها على منطقة الساحل، ومحاصرة حليفتها تشاد، غرباً من النيجر وشرقاً من السودان، وشمالاً من ليبيا، وجنوباً من جمهورية إفريقيا الوسطى، وجميع هذه الدول ينتشر فيها آلاف العناصر من فاغنر.
ما الخيارات أمام المجلس العسكري؟
رغم أن حجم القوات الفرنسية محدود ولا يتجاوز 1500 عنصر، لكنها أفضل تدريباً وتسليحاً من جيش النيجر، الذي يفوقها عدداً بأضعاف (ارتفع من 11 ألفاً إلى 50 ألف عنصر حسبما أعلنه بازوم).
ويدرك المجلس العسكري في النيجر أن طرد القوات الفرنسية بالقوة من شأنه أن يؤدي إلى تدخل عسكري فرنسي مباشر وبقوات أكبر، خاصةً في ظل تفوقها الجوي الكاسح، وامتلاكها قاعدةً جوية في العاصمة التشادية نجامينا، ما يهدد بتدمير كامل سلاح الجو النيجري، مثلما حدث في كوت ديفوار أواخر 2004.
حيث أدى قصف جيش كوت ديفوار الموالي للوران غباغبو، مركزاً للجيش الفرنسي بالبلاد، إلى مقتل 9 فرنسيين وجرح آخرين، ورد الجيش الفرنسي بتدمير كامل سلاح جو كوت ديفوار، المقدر حينها بـ7 طائرات حربية فقط.
فهذا السيناريو مستبعد في النيجر، خاصةً في ظل إمكانية تدخل الولايات المتحدة، حليفة فرنسا في الناتو، والتي تمتلك أكبر قاعدة طائرات مسيرة في إفريقيا بمدينة أغاديس شمالي النيجر، بالإضافة إلى تمركز قوات أوروبية صغيرة أغلبها من ألمانيا.
وموقف أمريكا من انقلاب النيجر هو أيضاً حاسم، فواشنطن رفضت حتى الآن استخدام مصطلح "انقلاب"، وتسعى جاهدة لإيجاد حلول دبلوماسية في الدولة الإفريقية، التي تتمركز فيها قوات أمريكية عددها أكثر من ألف، وتحتضن أكبر قاعدة جوية أمريكية في القارة السمراء.
وفي هذا الإطار، ألقى تحليل لمجلة Responsible Statecraft الأمريكية، عنوانه "إيكواس تحدد يوم الغزو للتدخل في النيجر"، الضوء على المأزق الذي تواجهه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن هناك.
وإذا ما فشلت الولايات المتحدة في منع الحرب، فإنها ستكون مضطرة لإخلاء قواتها المتمركزة في النيجر بأسرع ما يمكن، حتى لا تجد نفسها مشتركة في حرب إقليمية: "سيكون على الولايات المتحدة على الأرجح أن تخلي قواتها من النيجر إذا ما تحولت تهديدات إيكواس إلى واقع".
وتُعَد القاعدة الجوية الأمريكية، الواقعة قرب مدينة أغادير الشمالية الصغيرة في النيجر، هي نقطة الانطلاق الرئيسية لكل عمليات واشنطن الاستطلاعية والاستخباراتية في غرب إفريقيا تقريباً. وجرى وقف تحليق أسطول الطائرات دون طيار الأمريكية في المنطقة، والذي كان يعمل سابقاً من القاعدة، منذ الانقلاب عقب قرار المجلس العسكري إغلاق المجال الجوي النيجري.
فالمجلس العسكري في النيجر لا يمكنه خوض الحرب على ثلاث جبهات دفعة واحدة، الأولى ضد الجماعات الإرهابية، والثانية ضد قوات إيكواس، والثالثة ضد فرنسا وحلفائها، مع إمكانية فتح جبهات أخرى ضد قوى محلية مثل الطوارق والعرب في الشمال والشرق.
وفي هذا الإطار، يمثل الضغط الشعبي والدبلوماسي الخيار الأقل تكلفة والأكثر جدوى بالنسبة للانقلابيين في النيجر، خاصة أنه أثبت جدواه في مالي، رغم أن فرنسا لم ترمِ المنشفة بسرعة حينها إلا بعد ضغوط شديدة.
ففي 11 أغسطس/آب الجاري، احتشد الآلاف من أنصار المجلس العسكري في النيجر أمام القاعدة العسكرية الفرنسية في نيامي، للمطالبة برحيل القوات الفرنسية، والتحالف مع روسيا على غرار ما فعلته مالي وبوركينافاسو.
وإثارة النزعة الوطنية في النيجر ضد فرنسا، يستخدمها المجلس العسكري بحثاً عن مشروعية لانقلابهم، ومحاولة لتبرير محاكمة الرئيس بازوم، وزيادة الضغط على فرنسا للاعتراف بهم، أو على الأقل عدم التحرك عسكرياً ضدهم.
كما شرع المجلس العسكري بالنيجر في التحرك دبلوماسياً، حيث أوفد رئيس حكومته "علي محمد الأمين زين" إلى العاصمة التشادية نجامينا، في 17 أغسطس/آب الجاري، والذي أعلن عقب الزيارة أن المجلس العسكري في تشاد برئاسة محمد ديبي، يدعمون السلطات الجديدة في نيامي.
وتحييد تشاد، حليفة باريس الوثيقة، من شأنه إضعاف أي تحرك للطيران الحربي الفرنسي ضد الانقلابيين في النيجر. كما أرسل المجلس العسكري في النيجر وفداً إلى الانقلابيين في غينيا، طالباً "تعزيز الدعم لمواجهة التحديات المقبلة"، واستقبل وفدين من مالي وبوركينافاسو، اللذين أعلنا دعمهما له.
وهذا النشاط الدبلوماسي لانقلابيي النيجر يهدف إلى تشكيل جبهة للمجالس العسكرية في غرب إفريقيا، ضد أي تدخل عسكري فرنسي، أو من إيكواس في نيامي، لأن الدور سيكون على بقية الانقلابيين في دول الجوار الواحد تلو الآخر.
هل تدخل روسيا على خط الأزمة؟
من شأن دخول شركة فاغنر الروسية إلى النيجر، وتعاقدها مع المجلس العسكري، على غرار الاتفاقية التي وقّعتها في مالي مقابل مبالغ مالية وامتيازات لاستغلال مناجم الذهب، أن يصعب من عمل القوات الفرنسية ويضع تحركاتها تحت أعين موسكو.
إذ تواترت تقارير إعلامية غير مؤكدة عن وصول عناصر من فاغنر إلى النيجر، وهو ما لم تؤكده أي جهة رسمية، لكن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن حذر من أن فاغنر "تستغل عدم الاستقرار في النيجر"، رغم اعتقاده أن الانقلاب لم يكن بتحريض من روسيا، أو من قبل فاغنر "إلا أنهم يحاولون الاستفادة منه".
ويشاطره الرأي وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكورنو، الذي قال في حوار مع وكالة الصحافة الفرنسية "فاغنر، ليست وراء هذا الانقلاب. لكن بطريقة انتهازية يمكن لها أن تسعى إلى تعزيز هذه الطغمة العسكرية، التي تحاول ترسيخ وضعها. لكن يجب إدراك تداعيات هذا الاختيار".
وبالحديث عن التداعيات، فإن باريس تلوح بورقة المساعدات الدولية، والتي تمثل 40% من موازنة النيجر، بحسب وزير الدفاع الفرنسي، الذي أشار إلى أن فاغنر لم تنجح في القضاء على الإرهاب في مالي، التي يوجد 40% من أراضيها خارج سيطرة الدولة.
فهناك قلق فرنسي وغربي من استغلال فاغنر للانقلاب في النيجر، لتحقيق أهداف مادية واستراتيجية، وإمكانية استحواذها على مناجم الذهب واليورانيوم في البلاد. وسبق أن سرّع توقيع باماكو اتفاقية أمنية مع فاغنر، انسحاب القوات الفرنسية من مالي، لصعوبة تنسيق عمليات مكافحة الإرهاب بين طرفين غير حليفين ومتنافسين.
فانسحاب القوات الفرنسية من النيجر مرتبط بعدة عوامل، أبرزها مدى قدرة المجلس العسكري على الصمود أمام الضغوط الدولية، خاصةً بعد وقف المساعدات الدولية، واحتمال تدخل إيكواس عسكرياً، والتهديدات الإرهابية، وإمكانية حدوث انقلاب عسكري ثانٍ على يد ضباط ميدانيين دربتهم فرنسا وحلفاؤها، ولم يكن لهم دور في انقلاب "جنرال القصر".
ورغم أن جميع الانقلابات السبعة التي وقعت في غرب إفريقيا خلال السنوات الثلاث الأخيرة نجحت في الاستمرار ومقاومة الضغوطات الدولية، فإن الفرق الوحيد مع النيجر أن الرئيس بازوم رفض الاستقالة، وتشكّلت حكومة في المنفى يتهمها الانقلابيون بمنح تفويض لباريس بالتدخل العسكري في البلاد.
وهذا ما يستند إليه الجيش الفرنسي لإبقاء جنوده في النيجر، مع إدراكه أن الانقلابيين أضعف من أن يقدروا على إخراجه بالقوة، لكن المسألة من المرجح أن تحسم دبلوماسياً لا عسكرياً، إلا إذا دخلت البلاد في مستنقع من الفوضى والاقتتال الداخلي.