صار البحر الأسود، أخطر مكان في العالم، حيث تتحارب روسيا وأوكرانيا بضراوة، فيما يجاورهما 3 من أعضاء حلف الناتو، المتشاطئين في هذا البحر الذي تحول أيضاَ لساحة خلفية لأنشطة الناتو الداعمة لكييف، الأمر الذي يزيد من احتمالات حدوث مواجهة بين الحلف وموسكو.
وازدادت التوترات في البحر الأسود، بعد قرار موسكو الشهر الماضي إنهاء صفقة بوساطة تركيا والأمم المتحدة تضمن مروراً آمناً للحبوب الأوكرانية، وردود كييف على هذا القرار.
وبرغم بُعده عن القتال الشرس على الجبهات الأمامية، يضع البحر الأسود روسيا ودول الناتو في نوع من القُرب الذي لا يوجد في مسارح الحرب الأخرى؛ مثل الدفاع عن كييف أو معركة باخموت؛ مما يزيد من خطر المواجهة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وقال إيفو دالدر، السفير الأمريكي السابق لدى الناتو الذي يدير مجلس شيكاغو للشؤون العالمية: "صار البحر الأسود الآن منطقة نزاع ومنطقة حرب وثيقة الصلة بحلف شمال الأطلسي مثل غرب أوكرانيا".
وفي إبريل/نيسان 2022، أغرقت أوكرانيا الطراد الروسي "موسكفا"، فيما اعتبر أكبر كارثة بحرية تلحق بدولة كبرى منذ الحرب العالمية الثانية، ويعتقد أنه كان دور أمريكي في توجيه هذه العملية عبر طائرة مراقبة بحرية دخلت أجواء البحر الأسود ووفرت بيانات استهداف دقيقة للقوات الأوكرانية لإغراق السفينة الروسية في البحر الأسود، حسبما ورد في تقرير لصحيفة the Times البريطانية.
موسكو دمَّرت موانئ أوكرانيا فردّت الأخيرة بقصف سفن روسية في البحر الأسود
وعقب الانسحاب من صفقة الحبوب، دمرت روسيا موانئ أوكرانيا على البحر الأسود لإعاقة شحنات الحبوب المحورية للاقتصاد الأوكراني، وضربت أيضاً مواقع على نهر الدانوب على بُعد بضع مئات الأمتار من رومانيا، العضو في الناتو، مما أدى إلى تصعيد المخاوف من انجرار التحالف العسكري إلى الصراع.
وردّت أوكرانيا الأسبوع الماضي بضربتين على السفن الروسية في أيام متتالية؛ في استعراض للمدى الجديد الذي تستطيع الوصول إليه بفضل الطائرات المُسيَّرة التي يمكنها ضرب الموانئ الروسية على بُعد مئات الأميال من ساحلها. وأصدرت تحذيراً من أنَّ 6 موانئ روسية على البحر الأسود ومداخلها ستُعتبَر مناطق "خطر حرب" حتى إشعار آخر.
وصرح قائد البحرية الأوكرانية، الأدميرال أوليكسي نيزبابا، "يجب أن نحمي ساحلنا بدايةً من ساحل العدو، في مايو/أيار أثناء مطالبته بردّ أقوى على ما سمّاه استبداد روسيا على المياه الدولية للبحر الأسود.
هل يستطيع الناتو دعم أوكرانيا دون التورّط في حرب مع روسيا؟
ويمكن أن يكون لمعركة السيطرة على البحر تداعيات على أسواق الطاقة العالمية والإمدادات الغذائية العالمية. ومن شبه المؤكد أيضاً أنها ستكشف عن تحديات جديدة لحلف الناتو في سعيه إلى دعم مبدأ مركزي من مبادئ القانون الدولي -وهي حرية الملاحة البحرية- دون الانجرار إلى صراع مباشر مع القوات الروسية، وهو انجرار قد يؤدي لتورط العالم في حرب عالمية ثالثة.
وسهّلت الموانئ على طول المياه الدافئة التجارة على مدار السنة. كما أتاح الموقع -وهو عند مفترق طرق جيوسياسي- لروسيا مكاناً لإبراز قوتها السياسية في أوروبا والشرق الأوسط وما وراءهما.
البحر الأسود يكتسب أهمية خاصة لبوتين والناتو
وعلى مدى سنوات، سعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى زيادة نفوذ موسكو حول البحر الأسود، وضخ الأموال الحكومية في تطوير الموانئ الساحلية ومدن المنتجعات، وبناء القوة العسكرية الروسية في المنشآت البحرية في المنطقة لأسطول موسكو الجنوبي.
ويحمل البحر الأسود نفس القدر من الأهمية لحلف شمال الأطلسي، الذي يصر بوتين على أنه يحاول تدمير روسيا. وتَحِد 3 دول أعضاء – تركيا ورومانيا وبلغاريا – البحر نفسه، وتمتلك 4 موانئ مهمة مطلة عليه، بالإضافة إلى وجود 5 دول شريكة في الناتو في المنطقة؛ هي أرمينيا وأذربيجان وجورجيا ومولدوفا وأوكرانيا.
وتمثل السيطرة على البحر الأسود أحد الأهداف الواضحة لروسيا من وراء الحرب، بجانب أنها أحد أسباب ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014.
ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا، احتلت موسكو 3 موانئ أوكرانية رئيسية. ولغّمت المياه بكثافة وحيّدت البحرية الأوكرانية، وفرضت حصاراً فعلياً على الشحن المدني من وإلى جميع الموانئ التي تسيطر عليها أوكرانيا.
الحلف ينفذ مهام شرطة جوية، وأوكرانيا تدعوه لتحدي روسيا بحماية سفنها
وعلى الرغم من رغبة الناتو المُعلَنَة في تجنب المواجهة المباشرة مع روسيا، فإنَّ مخاطر وقوع حادث غير مقصود يخرج عن نطاق السيطرة تتزايد منذ بعض الوقت.
وتنفذ الناتو والدول الأعضاء مهام مراقبة وشرطة جوية فوق الأراضي والمياه الإقليمية لمنطقة الناتو والمياه الدولية فوق البحر الأسود، لكنهم حريصون على عدم الابتعاد عن منطقة الحرب.
لكن حلف الناتو زاد مؤخراً من عدد مهام الاستطلاع والشرطة الجوية، حسبما أعلن الحلف بعد الاجتماع الثاني لمجلس الناتو وأوكرانيا في 26 يوليو/تموز.
بينما ترفض تركيا إدخال السفن الحربية للطرفين
ودعت أوكرانيا وبعض قادة صناعة النقل البحري الحلفاء الغربيين إلى توفير مرافقين بحريين للسفن المستعدة لتحدي التهديدات الروسية، ونقل الحبوب من الموانئ في أوكرانيا، لكن هناك العديد من المشكلات التي تواجه ذلك.
من ناحية، كانت تركيا حازمة في محاولة منع حلفائها في الناتو من تصعيد التوترات مع روسيا في البحر الأسود. وقال سنان أولغن، الدبلوماسي التركي السابق ومدير مؤسسة EDAM البحثية التركية، إنَّ بلاده تحاول أيضاً إقناع بوتين بالعودة إلى صفقة الحبوب التي ساعدت في التوسط فيها، حتى لو كانت الآمال ضئيلة.
ومنذ الغزو الروسي، حظرت تركيا، التي تسيطر على الممرات من وإلى البحر الأسود عبر مضيق البوسفور والدردنيل بموجب اتفاقية عام 1936، السفن الحربية الروسية والأوكرانية من استخدام المضيق، وهو عمل أشادت به أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي.
لكن تركيا طلبت أيضاً من الحلفاء عدم إرسال سفنهم الحربية.
وبموجب اتفاقية مونترو التي تم إقرارها عام 1936، تسيطر تركيا على مرور السفن بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، مما يجعلها لاعباً أساسياً في الصراع الحالي بين أوكرانيا وروسيا
بالإضافة إلى السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل، تمنح الاتفاقية تركيا السلطة بتنظيم عبور السفن الحربية البحرية، بما في ذلك إغلاق المضائق أمام جميع السفن الحربية الأجنبية أثناء الحرب. كما يمكن لتركيا أيضاً رفض مرور السفن التجارية إذا كانت من دول في حالةِ حربٍ مع أنقرة.
وأضاف أولغن: "لذا، فإنَّ التوتر الكامن فيما يتعلق بالطريقة التي تنظر بها الولايات المتحدة وتركيا إلى البحر الأسود، وكيف يؤطرانه ضمن المظلة الأمنية لحلف شمال الأطلسي. لكن حتى الآن، منذ أغلقت تركيا المضيق في وجه السفن الحربية الروسية، لم تحاول الولايات المتحدة الضغط على تركيا".
كييف بات لديها أسطول طائرات مُسيَّرة بحرية حديث، الأمر الذي سيغيّر شكل المعركة
طوال أشهر، لم تكن أوكرانيا تتمتع سوى بقدرات متواضعة لمكافحة سيطرة روسيا على المياه، لكنها لم تتوقف قط عن العمل لتطوير تهديد لتحدي القوات البحرية الروسية الأقوى.
واستخدمت أوكرانيا طائرات مُسيَّرة بحرية لمهاجمة الأسطول البحري الروسي في أكتوبر/تشرين الأول. وفي ذلك الوقت، لم يكن من الواضح ما إذا كانت ستصير جزءاً ثابتاً وفعالاً من ترسانتها. لكن بعد ذلك في الأسبوع الماضي، سددت كييف ضربة خفية ومفاجئة ضد سفينتين روسيتين، وقصفت كلتيهما.
وقال بي دبليو سينغر، المتخصص في حرب القرن الحادي والعشرين في مركز أبحاث نيو أمريكا في واشنطن، إنَّ أوكرانيا تستفيد من جيل جديد مُحسّن كثيراً من أسطولها من الطائرات المُسيَّرة المحمولة بحراً.
وأضاف سينغر أنَّ التقدم السريع الذي أحرزته أوكرانيا في بناء الطائرات المُسيَّرة "يشبه وادي السيليكون تقريباً".
الأوكرانيون ينوون ضرب موانئ روسيا على البحر الأسود
تطور النزاع في البحر الأسود له آثار اقتصادية كبيرة على العالم.
إذ ينتقل أكثر من 3% من النفط والمنتجات النفطية العالمية عبر البحر الأسود. وتاريخياً، وسجل البحر الأسود مغادرة نحو 750 ألف برميل من النفط الخام الروسي، أو 20% من صادراتها الخام، على الرغم من أنَّ البلاد خفضت هذه الشحنات إلى ما بين 400 ألف و575 ألف برميل يومياً، وفقاً لشركات تتبع الناقلات، في إطار سعي روسيا إلى تعزيز الأسعار بالتعاون مع شريكتها المُنتِجة المملكة العربية السعودية.
وأكد المسؤولون الأوكرانيون أنهم يأملون إلحاق بعض الآلام الاقتصادية بموسكو من خلال توسيع نطاق الحرب لتشمل موانئ روسيا.
وقال ميخايلو بودولاك، كبير مستشاري الرئيس الأوكراني، إنه ما دام الكرملين يرفض الامتثال للقانون الدولي، فيمكنه توقع "انخفاض حاد في الإمكانات التجارية الروسية".
ويعني ذلك أن الأوكرانيين لا يجدون مشكلة في تصعيد التوتر بهذا البحر رغم تداعيات ذلك على العلاقة بين الناتو وروسيا والاقتصاد العالمي.
ولكن حتى الآن، أثبتت روسيا أنها مُورِّد نفط مرن.
فبعدما رفض كبار تجار النفط وشركات النفط الدولية الكبرى بيع النفط الروسي بعد غزوها لأوكرانيا، اشترت شركات تجارية وشركات شحن مُؤسَّسَة حديثاً، ومقرها الإمارات العربية المتحدة واليونان وهونغ كونغ الفائض من النفط.
وقال ديفيد غولدوين، المسؤول السابق عن قضايا الطاقة في وزارة الخارجية الأمريكية، إنَّ أسعار النفط قد ترتفع ما بين 10 دولارات إلى 15 دولاراً للبرميل إذا مُنِعَت الصادرات الروسية من البحر الأسود.
ويُتداوَل النفط الآن عند نحو 85 دولاراً للبرميل، وحافظ على استقراره حتى بعد قصف أوكرانيا لناقلة روسية خلال عطلة نهاية الأسبوع.