يستمر الصراع الدموي في السودان دون مؤشرات على قرب نهايته، فهل يتحول إلى حرب أهلية طويلة الأمد؟ أم ينتهي بتقسيم البلاد؟ أم ينتصر الجيش أو الدعم السريع؟
كان السودان قد شهد، منذ يوم 15 أبريل/نيسان 2023، انفجاراً عنيفاً في الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد، الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، والذي يقود قوات الدعم السريع، حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
ومع فشل جهود الوساطات المتكررة وتحوّل الصراع إلى مواجهة صفرية بين الجانبين، تتنامى مخاطر زيادة التدخل الأجنبي وتحوّل الحرب الأهلية إلى حرب بالوكالة، فما السيناريوهات المحتملة؟
السيناريو الأول: حرب أهلية ممتدة
منصة أسباب المختصة بالتحليل السياسي والاستراتيجي، رصدت 4 سيناريوهات بشأن ذلك الصراع الدموي في السودان، أولها أن يتحول إلى حرب أهلية ممتدة.
فمع اقتراب الصراع من نهاية شهره الثالث، لا توجد أي مؤشرات على التهدئة أو التوصل إلى حل سلمي عما قريب. وتُمثل الخرطوم بؤرة الصراع، حيث فرضت قوات الدعم السريع -المدعومة بالميليشيات- سيطرتها على عددٍ من المواقع الحيوية. لكن العنف امتد إلى مناطق أخرى، أبرزها دارفور وجنوب كردفان. وقد أسفر الصراع عن أضرار جسيمة على البنية التحتية، وسقوط عددٍ من الضحايا المدنيين، وتفاقم الأزمة الإنسانية.
وفي الوقت نفسه، يمثل تدخُّل الجهات الخارجية جانباً حاسماً آخر من الصراع السوداني، فمن المحتمل أن تدعم تلك الجهات إحدى الفصائل المتحاربة بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة، مدفوعةً بما يخدم مصالحها الخاصة، وتدخُّل تلك الجهات يؤدي إلى تفاقم العنف، وإطالة أمد الصراع، وتعقيد جهود التوصل إلى حلٍّ سلمي. فيما تلعب الخصومات الإقليمية، والتنافس على الموارد، واعتبارات الجغرافيا السياسية دوراً بارزاً في صياغة شكل التدخل الخارجي، ولا شك في أن وجود الموارد القيّمة بالسودان، مثل النفط والمعادن، يزيد من جاذبيته في أعين الجهات الخارجية الساعية لاستغلال هذه الموارد.
ولا شك في أن المبادرات المتناقضة، وصراع السلطة بين قادة القوات المسلحة السودانية وقادة قوات الدعم السريع، عوامل تخلق تحديات في طريق الوصول إلى حل تفاوضي. ويؤمن كلا الفصيلين بأن النصر العسكري هو الطريق المضمون إلى السلطة، ما يجعل الوصول إلى حل مستدام أمراً مستبعداً في المستقبل القريب. لذا؛ بدأ الصراع في التحول إلى حرب استنزاف مطولة. حيث تعتمد القوات المسلحة على قوتها الجوية، بينما أظهرت قوات الدعم السريع براعتها في عمليات حرب العصابات ومكافحة التمرد.
وبالنظر إلى سياق الأحداث المذكور، ستظهر الحاجة إلى تحليل شامل للسيناريوهات من أجل تقييم المسارات والتداعيات المحتملة للصراع السوداني. ويركز تحليل السيناريوهات هنا على الصراع السوداني خلال الفترة الزمنية الممتدة من 2023 وحتى 2025، حيث يحمل كل سيناريو مجموعته الخاصة من العوامل الدافعة، وأوجه عدم اليقين، والتداعيات على السودان والمنطقة. وستساعدنا الدراسة التفصيلية لكل سيناريو في إلقاء نظرةٍ ثاقبة على النتائج والتحديات المحتملة التي تواجه السودان، بالتزامن مع الصراع الجاري الذي يعصف به وتدخّل الجهات الخارجية فيه.
وفي هذا الإطار، قد يكون السيناريو الأول عبارة عن سقوط السودان في فخ الحرب الأهلية المطولة، التي تتسم بمعارك مكثفة وطويلة بين الجيش وقوات الدعم السريع، حيث لا تجدي جهود التوصل إلى حل سلمي عبر وقف إطلاق النار والمفاوضات، ما يسفر عن تصعيد متواصل للأعمال العدائية.
من الممكن أن يحكم الجيش سيطرته على العاصمة بالتدريج. لكنّ الصراع سيتوسع متجاوزاً حدود الخرطوم ليعصف بمناطق مثل دارفور، وجنوب كردفان، وشرق السودان. بينما ستستغل القوات المسلحة وقوات الدعم السريع فترات وقف إطلاق النار لإعادة التجمع، وإعادة التسلُّح، وشن هجمات لاحقة. فيما سيؤدي القتال داخل المناطق الحضرية في الخرطوم إلى إلحاق الضرر بالبنية التحتية، فضلاً عن الوفيات في صفوف المدنيين. وضمن جهودها لفرض الهيمنة، ستستولي قوات الدعم السريع على مناطق حيوية، لتأمين خطوط إمدادها وتجارتها الخارجية. وستتفاقم الأزمة الإنسانية مع تصاعد العنف، مصحوبةً بارتفاع في عمليات النزوح القسري، وتفشي انعدام الأمن الغذائي، ومحدودية الوصول إلى الخدمات الأساسية.
سيؤدي تعقيد الصراع إلى جذب الجهات الخارجية التي صارت متورطة في تقديم الدعم والموارد للفصائل المتحاربة، سواء بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة، وسيسفر هذا التدخل الخارجي عن زيادة حدة القتال وإطالة أمد معاناة الشعب السوداني. ومن المؤكد أن الحرب الأهلية المطولة ستكون لها تداعياتها الجوهرية على استقرار السودان وأمنه الإقليمي، حيث ستتصاعد التوترات العرقية لتُفاقم الانقسامات الاجتماعية وتمزق نسيج المجتمع السوداني، كما أن استمرار العنف والنزوح سيؤدي إلى إجهاد موارد البلاد وبنيتها التحتية، ما سيعرقل التنمية الاقتصادية ويتسبب في استمرار دائرة الفقر.
السيناريو الثاني: انتصار البرهان
في هذا السيناريو، قد تحقق القوات المسلحة السودانية نصراً حاسماً على قوات الدعم السريع، لتعزز بذلك سيطرتها على البلاد، وستستغل القوات المسلحة قدراتها العسكرية المتفوقة، مثل القوة الجوية وشبكة الاستخبارات والأفراد المدربين، حتى تحظى باليد العليا في الصراع، وستتمكن بفضل الهجمات المنسقة والتكتيكات الفعالة من إضعاف قوات الدعم السريع والجماعات المسلحة الأخرى، لتجبرها على التراجع وتسترد سيطرتها على المناطق الاستراتيجية الرئيسية.
ومع اشتداد حدة الصراع، ستظهر الانقسامات الداخلية في صفوف قوات الدعم السريع على السطح، وسينشق بعض قادتها وجنودها أو سينضمون إلى القوات المسلحة، منجذبين بذلك إلى تنامي قوة الجيش واحتمالية فرض الاستقرار تحت قيادته، وسيؤدي هذا التفكك في صفوف قوات الدعم السريع إلى إضعاف قدرتها الكلية وتماسكها، ما سيصب في مصلحة تقدم القوات المسلحة وتعزيز موقفها.
وسيحظى نصر القوات المسلحة السودانية بدعم دبلوماسي كبير من مصر، وكذلك جهات دولية وإقليمية أخرى من ضمنها السعودية، التي ترى في الجيش وسيلةً لإحلال الاستقرار داخل السودان ومنع تصعيد العنف مرةً أخرى، وقد يتجسد هذا الدعم في صورة مساعدات عسكرية، ومساعدات اقتصادية، وتعزيز لوضعية وشرعية القوات المسلحة السودانية، وسيتولى البرهان حينها دوراً بارزاً في الحكومة الانتقالية بصفته قائداً للجيش، ليستغل نفوذه الجديد من أجل تأسيس منصب قيادة مركزي.
وقد يشهد هذا السيناريو تنصيب البرهان لنفسه رئيساً على المجلس العسكري، أو تحوّله إلى شخصية نافذة ضمن تحالف سياسيٍّ أوسع. ولإدراكه مدى الحاجة إلى الاستقرار والمصالحة الوطنية؛ سيستهدف البرهان إعادة بناء مؤسسات الدولة، وإجراء بعض الإصلاحات السياسية، مع تنصيب نفسه كطرفٍ رئيسي في مستقبل الحكم السوداني. وستجري بعض الجهود لدمج أعضاء قوات الدعم السريع، والفصائل المسلحة الأخرى، داخل العملية السياسية، وسيؤدي هذا إلى خلق بيئة أكثر شمولاً. لكنّ بعض المظالم ستظل عالقة، مما يبقي على احتمالية اندلاع صراعات أخرى لكنّها ستكون محدودة.
لكن ظهور حاكم قوي في السودان ينطوي على مقايضةٍ أخرى، إذ ربما يتحقق استقرار نسبي تحت قيادة البرهان، لكنه سيأتي على حساب الديمقراطية والحريات والتعددية السياسية، واحتمالية وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان.
السيناريو الثالث: انتصار حميدتي
يشهد هذا السيناريو خروج قوات الدعم السريع منتصرةً في الصراع، لتعزز بذلك سيطرتها على السودان، حيث ستبرهن قوات الدعم السريع على كونها خصماً هائلاً للقوات المسلحة، بفضل هيكلتها اللامركزية وكفاءتها في حرب العصابات، والدعم الخارجي، وستفرض قوات الدعم السريع اليد العليا بفضل سلسلةٍ من الهجمات المنسقة جيداً، لتستولي على المواقع الاستراتيجية والقواعد العسكرية الرئيسية، وستتوسع الأراضي الخاضعة لسيطرتهم بالتزامن مع فرض هيمنتهم على مختلف مناطق السودان.
ستعزز قوات الدعم السريع نجاحها بتشكيل تحالفات مع الجماعات المسلحة الأخرى، سواءً داخل السودان أو من البلدان المجاورة، وستوفر هذه التحالفات مزيداً من القدرات العسكرية والموارد والمجندين والتمويل، ما سيُتيح لقوات الدعم السريع الحفاظ على وتيرة عملياتها الهجومية وتصعيدها، وستحظى بدعم خارجي من الجهات أو الدول ذات المصالح المتوافقة معها، بالتزامن مع سيطرة القوات على أراضٍ أكبر، وسيوفر هذا الدعم غطاء الشرعية لتحركات قوات الدعم السريع، وربما يتألف من مساعدات عسكرية أو مشاركة معلومات استخباراتية أو دعم دبلوماسي.
كما ستبسط قوات الدعم السريع نفوذها على مؤسسات الحكومة الرئيسية، بالتزامن مع توطيد سيطرتها على البلاد، لتُهمِّش بذلك الفصائل المعارضة وتؤسس لسلطتها، وسيعزز حميدتي وضعيته كقائد ليصبح شخصية قوية لها قدر كبير من النفوذ والسيطرة، وسيلعب دور الحاكم القوي لفرض المركزية على السلطة وعملية صنع القرار تحت قيادته، حيث سيعيش السودان شكلاً استبدادياً من أشكال الحكم، الذي يتسم بالسيطرة المركزية ومحدودية الحريات السياسية.
بينما سيتمحور الاهتمام حول حفظ النظام والقانون، وهو الأمر الذي يتحقق عادةً من خلال التدابير الأمنية الصارمة لقمع المعارضة والآراء المخالفة، وقد يُثير هذا النهج المخاوف حيال انتهاكات حقوق الإنسان، والقيود على الحريات، وخنق التعددية السياسية.
سيستفيد حميدتي بموقعه في السلطة من استغلال موارد السودان الاقتصادية، من أجل تعزيز سيطرته وتأمين الموارد المالية، وسيشمل هذا استغلال الأراضي، والثروات الطبيعية، والمشروعات التجارية لتعزيز سلطة قوات الدعم السريع أكثر، لكن انتصار قوات الدعم السريع سيأتي مصحوباً بتداعيات متداخلة على الأمن والاستقرار في السودان، إذ قد يؤدي هذا النصر إلى استقرارٍ نسبي في بعض المناطق الخاضعة لسيطرة القوات، لكن المخاوف ستظل قائمة حيال انتهاكات حقوق الإنسان المحتملة، والتوترات العرقية، والمقاومة المحتملة من الفصائل المعارضة.
السيناريو الرابع: تقسيم السودان
سيأخذ الصراع الجاري بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع منعطفاً مروعاً في هذا السيناريو، مما سيؤدي إلى تقسيم السودان، حيث سيؤجج صراع السلطة المتصاعد، الانقسامات العرقية والإقليمية القائمة، ويدفع بالسودان نحو حالة التفكك، وسيتحول صراع السلطة بين حميدتي والبرهان إلى نقطةٍ محورية في الصراع الأكبر، حيث سيتحرك كلاهما مدفوعاً بطموحاته الشخصية ورغبته في السلطة.
كما سيؤدي تنافسهما من أجل السيطرة والهيمنة على السودان إلى تفاقم التوترات، ما سيزيد استقطاب الفصائل والمناطق على حدٍ سواء. ومع تصعيد الصراع أكثر، ستضعف الحكومة المركزية لتطغى عليها طموحات القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، بينما سيعطي كلا الفصيلين الأولوية لتعزيز سلطته على المناطق الخاضعة لسيطرته، مما سيسفر عن تفكك الحكومة المركزية وظهور مناطق الحكم الذاتي.
ومع تقسيم السودان ستنفجر الصراعات المسلحة وصراعات السلطة بين المناطق والجماعات العرقية المختلفة، التي ستتنافس للسيطرة على الأراضي أو الموارد أو النفوذ السياسي، وستستمر المظالم التاريخية والصراعات التي لم تُحَل بعد -مثل صراع دارفور أو انفصال جنوب السودان- في تشكيل الديناميات الإقليمية وتحريك مطالبات حق تقرير المصير، ولا شك في أنّ تفكك الحكومة المركزية سيفاقم الأزمات الإنسانية القائمة، ما سيؤدي إلى زيادة النزوح وتدفق اللاجئين، وتقييد قدرات الاستجابة الإنسانية إقليمياً ودولياً.
وستضطر الجهات الخارجية، سواء من الدول المجاورة أو القوى الدولية، إلى التعامل مع تعقيدات الاعتراف بالمناطق المقسمة حديثاً والتفاعل معها، وسيتعين على تلك الجهات تحقيق التوازن الهش بين دعم مطالبات الحكم الذاتي والدعوة إلى الحفاظ على وحدة الأراضي السودانية. كما ستظهر تحديات اقتصادية بالتزامن مع بروز الخلافات حول توزيع الموارد، والسيطرة على القطاعات الاقتصادية الرئيسية، وتقسيم الدَّين والأصول الوطنية.