كانت قضية الحبوب حاضرة بقوة خلال القمة الروسية الإفريقية، فهل نجح الرئيس فلاديمير بوتين في طمأنة قادة القارة السمراء، أم أنه فشل كما "تأمل" أمريكا؟
كانت روسيا قد انسحبت، الإثنين 18 يوليو/تموز، من اتفاق تصدير الحبوب عبر الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود، معللة قرارها بعدم تنفيذ "الشروط الروسية" المتفق عليها، وتسعى الأمم المتحدة إلى إنقاذ الاتفاق الذي تم بوساطة أممية وتركية قبل عام واحد.
كان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي بدأ يوم 24 فبراير/شباط 2022، وتصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، قد تسبب في أزمة حادة في واردات الحبوب، كون البلدين المتحاربين يمتلكان حصة عالمية منها تزيد عن 30%، وهو ما تسبب في تضاعف أسعار السلع الغذائية بصورة جنونية.
وبعد أن تفاقمت أزمة الغذاء العالمية، وبات مئات الملايين مهددين بخطر المجاعة، تسارعت الجهود من أجل التوصل لاتفاق يسمح لأوكرانيا بتصدير ملايين الأطنان من الحبوب في مخازنها وموانئها، وهو ما تم في يوليو/تموز 2022، بوساطة من تركيا والأمم المتحدة.
قمة روسيا وإفريقيا
شهدت مدينة سانت بطرسبرغ الروسية مؤخراً القمة الثانية بين إفريقيا ورسيا، وكان يأمل بوتين في أن تؤدي القمة التي يعقدها في مسقط رأسه إلى ترسيخ العلاقات بين موسكو وإفريقيا، خاصةً أنه لطالما حرص على تقديم الهجوم على أوكرانيا على أنه ابتعاد منه عن النظام العالمي الذي يتزعمه الغرب نحو نظامٍ أكثر استيعاباً لمصالح الجنوب العالمي.
تصف موسكو الهجوم على أوكرانيا بأنه "عملية عسكرية خاصة"، تهدف إلى حماية أمنها القومي المهدد بمساعي حكومة كييف برئاسة فولوديمير زيلينسكي الانضمام إلى حلف الناتو، بينما يقول الغرب إن ما أقدمت عليه روسيا "غزو عدواني غير مبرر".
وتناول تحليل لمجلة Newsweek الأمريكية، عنوانه "هل تدمر سيطرة بوتين الخانقة على إمدادات القمح يدمر طموحات روسيا في إفريقيا؟"، ألقى الضوء على مساعي موسكو لطمأنة القارة السمراء، بعد الارتفاع الأخير في أسعار القمح، ومدى نجاح أو فشل تلك المساعي.
إذ قال الدبلوماسي الغيني لاما جاك سيفوبا خلال القمة الروسية الإفريقية في سانت بطرسبرغ، إنه ارتدى قميصاً يحمل صوراً كثيرة لوجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إظهاراً لـ"حبه" له، لكن المجلة الأمريكية ترى أن هذه العواطف التي أبداها سيفوبا لم يشاركه إياها سوى قلة من ممثلي قارته.
وركز تقرير نيوزويك على غياب قادة أفارقة عن القمة، مقارنة بالقمة السابقة التي عقدت في سوتشي، إذ لم يحضر سوى 17 زعيماً إفريقياً من أصل 54، أي أقل من نصف الزعماء الذين حضروا القمة الأولى بين روسيا وإفريقيا في عام 2019، حين بلغ عدد الحاضرين آنذاك 43 زعيماً.
فقد غاب عن هذه القمة الرئيس النيجيري بولا تينوبو، والكيني وليام روتو، ورئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسكيدي، ورئيس رواندا بول كاغامه.
واعتبر تحليل المجلة الأمريكية أنه من أبرز الأسباب وراء قلة الضيوف في قمة بوتين: قرار الانسحاب من صفقة حبوب البحر الأسود، ثم قصف الموانئ الأوكرانية، فقد أدى ذلك إلى تدمير آلاف الأطنان من الحبوب التي تعتمد دول إفريقيا اعتماداً كبيراً عليها في غذائها.
ومنذ انسحاب روسيا من اتفاق الحبوب، تتواصل الهجمات الروسية على الموانئ الأوكرانية ومخازن الحبوب المعدة للتصدير، إذ تسعى كييف بمساعدة حلفائها الغربيين إلى تصدير المنتجات الزراعية عبر طرق بديلة للبحر الأسود، رغم أن ذلك لا يبدو ممكناً بشكل كامل في الوقت الحالي.
أوليه كيبر، حاكم منطقة أوديسا الأوكرانية، قال الأربعاء 2 أغسطس/آب، إن طائرات مسيرة روسية هاجمت في ساعة مبكرة ميناء ومنشآت لتخزين الحبوب بالمنطقة الساحلية الواقعة بجنوب أوكرانيا، ما أدى إلى اشتعال النيران في بعض المنشآت. وكتب على تطبيق تيليغرام أنه لم ترِد تقارير عن حدوث إصابات.
وذكرت وسائل إعلام أوكرانية أن الطائرات المسيرة جاءت من ناحية البحر الأسود، ثم اتجهت نحو الغرب على امتداد نهر الدانوب، وأضافت وسائل الإعلام الأوكرانية أنه لأول مرة منذ انتهاء اتفاق الحبوب وصلت العديد من سفن البضائع إلى ميناء إسماعيل عبر البحر الأسود يوم الأحد الماضي.
كيف تتأثر إفريقيا بأزمة الحبوب؟
كان اتفاق الحبوب، الذي توسطت فيه الأمم المتحدة وتركيا العام الماضي، قد أتاح المرورَ الآمن للمحاصيل الزراعية من موانئ أوكرانيا، رغم وقوعها في صميم المعركة بين البلدين.
وفي معرض التعليق على انسحاب روسيا من صفقة الحبوب، قالت كينيا إنها "طعنة" في الظهر، وانتقدت مصر، الحليف التقليدي لموسكو، هذه الخطوة، وحثَّ موسى فقي محمد، رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، الأطراف المعنية على العودة إلى صفقة الحبوب.
لكن الرئيس الروسي قال للزعماء الأفارقة في الجلسة العامة للقمة الروسية-الإفريقية، يوم الخميس 27 يوليو/تموز، إن روسيا تعتزم تزويد 6 دول إفريقية بنحو 50 ألف طن من الحبوب مجاناً.
صامويل راماني، الزميل المشارك في "المعهد الملكي البريطاني للخدمات المتحدة" قال لمجلة Newsweek الأمريكية: "كلما وقعت أزمة ترتفع أسعار الحبوب. وهو أمر له تداعيات كارثية"، "فالناس يتضورون جوعاً بسبب ما يحدث، ولذلك لن يسهل إقناع الأفارقة بهذه الوعود".
وقال راماني إنه إذا أرادت روسيا تزويد إفريقيا بالحبوب مباشرة، فإنها تحتاج إلى دعم قطر وتركيا، لكن أياً من البلدين لم يعلن موافقته على هذه الخطة. ولذلك استبعد راماني أن "تتحقق هذه الخطط البديلة على المدى القصير".
لكن الرئيس الروسي قدَّم للزعماء الأفارقة تدابير طمأنة أخرى، منها اتفاقيات عسكرية وتقنية أبرمتها موسكو مع 40 دولة، والإعلان عن أن روسيا ألغت 23 مليار دولار من الديون المستحقة لها العام الماضي، والتشديد على أنها ستورد المنتجات الزراعية بطرق موثوقة.
لكن رغم ذلك كله، يبدو أن سمعة مشروع روسيا في إفريقيا قد تلطخت، بحسب تحليل المجلة الأمريكية، إذ قال راماني: "من الناحية الاقتصادية فإن روسيا ليس لديها سوى أشياء قليلة جداً لتقديمها إلى إفريقيا"، "فقد بيَّنت حرب أوكرانيا أن الأسلحة الروسية أقل فاعلية من المزعوم عنها، كما أن التعاون تأتي معه عقوبات غربية تنطوي على أضرار كبيرة". ويدل ذلك على أن "فقدان روسيا لنفوذها في إفريقيا لا تقتصر أسبابه على الخروج من صفقة الحبوب، بل يرجع إلى عوامل كثيرة".
من جهة أخرى، قالت أولكساندرا ماتفيتشوك، رئيسة "مركز الحريات المدنية" في كييف، إن على الدول الإفريقية أن تتحرى عن نية شريكتها [روسيا]، والنظر فيما إذا كان من الحكمة "أن ترتبط بأشخاص متهمين بارتكاب جرائم حرب، وينتهكون قواعد النظام العالمي".
وقالت أولكساندرا في بيان أرسلته إلى مجلة Newsweek، إن بوتين لم يعرض الحبوب مجاناً على الدول الإفريقية، إلا "طلباً للنفوذ السياسي عليها، والحصول على أصوات التأييد التي تحتاج إليها روسيا في الأمم المتحدة".
خطة السلام الإفريقية لأوكرانيا
يقول الغرب إن بعض القادة الأفارقة قد ضغطوا على بوتين من أجل قبول الخطة الإفريقية للسلام، التي كُشف عنها الشهر الماضي، وقال أصحابها إنها تسعى إلى إطفاء فتيل الحرب في أوكرانيا، وما يترتب عليها من اضطراب في التجارة الدولية. وتشمل هذه التسوية القائمة على التفاوض: سحب القوات الروسية من أوكرانيا، وإزالة أسلحة موسكو النووية من بيلاروسيا.
لكن "معهد دراسة الحرب"، وهو مركز أبحاث أمريكي، قال يوم الجمعة 28 يوليو/تموز، إن الكرملين لم يهتم بهذه الخطة إلا قليلاً، وإن كانت روسيا قد أعلنت أن الخطة قيد الدراسة. وقال مركز الأبحاث إن الكرملين "يتظاهر بالاهتمام" بالخطة الإفريقية للسلام، لزيادة التعاون مع إفريقيا، والادعاء بأنه "أجدر بانضمام [الدول الإفريقية إليه] من التحالف الغربي".
تسعى الدول الإفريقية إلى إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فهي متضررة من التأثيرات غير المباشرة التي تؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية على مواطنيها، ومع ذلك فإن بعض الزعماء، مثل رئيس مالي ورئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، يأتون بتحركات تُناقض تلك المساعي، لا سيما شكرهم الصريح لبوتين في القمة.
والواقع إن حضور قوات فاغنر الروسية في تلك البلدان يمنح الكرملين نفوذاً أمنياً غير رسمي، ويُتيح لروسيا الوصول إلى مواردها الطبيعية الثمينة، ويعني ذلك أنه مهما بلغت ضغوط القارة على بوتين لتغيير مساره، فإنها لن تحظى بالإجماع فيما بينهم.
وفي هذا السياق، قالت ليسل لو فودران، كبيرة المستشارين بمجموعة الأزمات الدولية: "إفريقيا منقسمة حيال الدعم العلني لروسيا في حربها مع أوكرانيا"، "فقد أبدت دول عديدة، وخاصة الاتحاد الإفريقي، رغبتها في عدم الانحياز، وصرحت بأنها لا تريد أن يُملى عليها اتجاه معين، ولا تريد الانحياز لأي طرف".
وقالت لو فودران: "كثير من الزعماء الأفارقة لا يريدون الظهور بصورة المُنازع لروسيا، فهذا الأمر ينطوي على مخاطرة كبيرة، اقتصادياً ودبلوماسياً".