المشهد الليبي مازال منقسماً ومفككاً، رغم انتهاء مهلة المبعوث الأممي إلى ليبيا، عبد الله باتيلي، بأخذ زمام المبادرة إذا فشل مجلسا النواب والدولة في الخروج بخريطة طريق تفضي إلى انتخابات في غضون منتصف يونيو/حزيران الماضي.
إلا أن باتيلي، ترك الكرة في ملعب مجلسي النواب والدولة، بعد أن تمكنت لجنة 6+6 البرلمانية المشتركة من التوصل إلى نوع من التوافق.
مجلس النواب تمكن أخيراً من اعتماد خريطة طريق الانتخابات، بعد أسبوعين من التأجيل، سبقه خلالها المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري) في اعتمادها أيضاً ، و"بشكل مبدئي"، وكأن الطرفين يتركان فسحة للتراجع بعد توافق.
هذا "التوافق"، لم يكن مقنعاً لبعض الأطراف خاصة مجموعة الـ54 عضواً المعارضة في المجلس الأعلى للدولة، ولكل من رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، وخليفة حفتر، قائد قوات الشرق، وأطراف أخرى.
فمن النقاط التي يتحفظ عليها عقيلة صالح، ومن ورائه حفتر، إلزامية الجولة الثانية للانتخابات مهما كانت النتيجة، وإلزام المترشح المتأهل للدور الثاني بتقديم وثيقة من الدولة الأجنبية تؤكد تنازله عن جنسيتها.
فعدم اعتماد مجلس النواب لقوانين الانتخابات، التي اتفقت عليها لجنة 6+6، يعكس رغبته في تعديل المواد التي يتحفظ عليها، وخاصة تلك التي تعرقل ترشح حفتر للرئاسة، رغم أن قوانين الانتخابات التي اعتمدتها اللجنة ملزمة ولا تحتاج إلى مصادقة مجلسي النواب والدولة.
لكن هناك ثغرة، إذ إن قوانين الانتخابات لن تصبح نافذة التطبيق إلا بعد توقيعها من رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، قبل نشرها في الجريدة الرسمية، والأخير لا يخفي رغبته في تعديل بعض موادها، ما يعرض الاتفاق للانهيار إذا أصر مجلس الدولة على رفض أي تعديل على مقترحات القوانين.
وهنا نحن أمام نفس سيناريو مشروع الدستور الذي أقرته لجنة الستين المنتخبة في 2017، لكن مجلس النواب أصر على تعديل مواد لا يتفق عليها، وأصدر قوانين انتخابات لا تتوافق مع مشروع الدستور، رغم أنه ملزم، وليس على مجلس النواب سوى تحويله إلى مفوضية الانتخابات لعرضه على الاستفتاء الشعبي.
وليس من المستبعد أن يلجأ عقيلة لورقة التوقيع على قوانين الانتخابات مقابل موافقة مجلس الدولة على تعديلها.
وبدون اعتماد قوانين الانتخابات فلن يبدأ العد التنازلي لـ240 يوماً لموعد إجراء الانتخابات، ولن يكون حينها لاعتماد المجلسين لخريطة الطريق أي معنى.
مجلس الدولة منقسم
مجلس الدولة، سارع في 11 يوليو/تموز الجاري، لاعتماد خريطة طريق الانتخابات، التي تنص على تشكيل حكومة مصغرة تقتصر مهمتها على الإشراف على تنظيم الانتخابات، التي تجرى بعد 240 يوماً من مصادقة مجلس النواب عليها.
إلا أن مجموعة الـ54 اعترضت على إعلان رئاسة المجلس قبول خريطة طريق إجراء الانتخابات، بحجة أن الجلسة غير مكتملة النصاب، إذ حضرها 56 عضواً (من إجمالي نحو 135 عضواً)، وصوت عليها 34 عضواً فقط، أي أقل من الثلثين (38 عضواً) المطلوبة لإقرار خريطة طريق الانتخابات.
فالكتلة المعترضة رافضة لتعديل الإعلان الدستوري، ولتشكيل لجنة 6+6، ولخريطة الطريق، ولكامل هذا المسار.
وإذا سعى مجلس النواب لتعديل قوانين الانتخابات، بما يناقض نص تعديل الإعلان الدستوري الثالث عشر، فهذا سيعزز موقف الكتلة المعارضة في مجلس الدولة، ويزيد الضغط على الكتلة المتوافقة مع مجلس النواب.
"غير قابل للتطبيق"
فعبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة، يرفض فكرة تشكيل حكومة مصغرة للإشراف على الانتخابات، ويشدد على أن حكومته لن تسلم السلطة إلا لحكومة منتخبة.
كما أن حفتر له تحفظاته بشأن قوانين الانتخابات، وتقديم وثيقة رسمية من السلطات الأمريكية تثبت تنازله عن جنسيتها إذا تمكن من الصعود للدور الثاني من الرئاسيات المرتقبة، خاصة أن هذا الأمر غير ممكن إدارياً بسبب ضيق الوقت بين دورتي الرئاسيات.
هذا الوضع دفع باتيلي إلى دعوة مجلسي النواب والدولة، في بيان له، إلى التعاون مع المفوضية الوطنية العليا للانتخابات لـ"معالجة الثغرات القانونية وأوجه القصور الفنية التي جرى تحديدها، وإجراء التعديلات الفنية اللازمة على مشروعي قانوني الانتخابات (الرئاسية والبرلمانية) اللذين أعدّتهما لجنة 6+6 على نحو يجعلهما قابلين للتطبيق".
فاعتراض الدبيبة وحفتر، وهما أقوى رجلين في المرحلة الحالية، على قوانين الانتخابات وخريطة الانتخابات سيكون كافيا لنسفها.
كما أن اشتراط تشكيل حكومة جديدة من شأنه أن يدخل البلاد في صراع جديد بين الأطراف المؤيدة للدبيبة والمعارضة له، خاصة في المنطقة الغربية، في سيناريو مكرر من شأنه أن يؤدي إلى جعل موعد الانتخابات أبعد مما هو مرتقب، كما أنه سيطيل من عمر مجلسي النواب والدولة، وفق مراقبين.
فالصراع في المنطقة الغربية بين حكومتي الدبيبة وباشاغا، بعد أن حسم لصالح الأول، عاد ليشتعل بين الدبيبة، وخالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة.
إذ تم منع 20 عضواً في مجلس الدولة من السفر، وسحبت جوازات سفر خمسة منهم، بحسب وسائل إعلام محلية، وهو ما أثار استياء المشري، الذي اتهم الدبيبة بالوقوف وراء هذا الأمر، بينما لم يرد الأخير.
تحركات باتيلي
حتى بعد إعلان باتيلي دعمه المتحفظ للتوافق بين مجلسي النواب والدولة، بما فيه مخرجات لجنة 6+6، إلا أن تصريحاته تبدو حذرة، وخطواته كذلك، بعد أن جوبه مقترحه بتشكيل "لجنة تسييرية رفيعة المستوى للانتخابات" بمعارضة شديدة من المجلسين، وتحفظ من روسيا ومصر.
وعدم تمكن باتيلي من تنفيذ خطته يعكس عدم حصوله على الدعم الكافي من المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة.
لكنه تمكن، الإثنين الماضي، من عقد اجتماع مع حفتر في بنغازي، بمعية سفراء تركيا وإيطاليا ومصر وفرنسا وألمانيا وتونس وبريطانيا، شدد فيه على "الأهمية البالغة للأمن للتمكين من إجراء انتخابات شاملة، وإقامة مؤسسات شرعية، وتمهيد الطريق أمام استقرار مستدام في ليبيا".
ورغم غياب السفير الأمريكي عن الاجتماع لأسباب مجهولة، فإن المبعوث الأممي أظهر لحفتر أنه يحظى بدعم المجتمع الدولي، وبالأخص الدول الفاعلة في الملف الليبي، وهذا ما تجلى في اجتماع مجموعة العمل الأمنية، التي حثت جميع الأطراف "على خلق بيئة مواتية لتسوية سياسية شاملة".
إذ كثف المبعوث الأممي في الأسابيع الأخيرة من لقاءاته مع مختلف الأطراف في إطار "مسار تفاوضي شامل"، دشنه بعدة لقاءات مع الفاعلين في الساحة السياسية على غرار الدبيبة وحفتر ومحمد المنفي، رئيس المجلس الرئاسي، والمشري، وعقيلة صالح، عماد السايح، رئيس مفوضية الانتخابات.
فباتيلي، يدرك أن عدم موافقة طرف من الأطراف على خريطة الطريق أو قوانين الانتخابات من شأنه أن يجهضها، لذلك أكد على ضرورة أن "تكون مشاريع القوانين الانتخابية قابلة للتطبيق، وتحظى بموافقة جميع الأطراف الفاعلة".
فالاندفاع بسرعة نحو الانتخابات دون توافق حقيقي بين جميع الأطراف لن يؤدي إلى حل الأزمة، مثلما حدث أكثر من مرة، لذلك شدد باتيلي، على ضرورة "حل النقاط الخلافية المتبقية في مشاريع القوانين الانتخابية".
لكن حديثه عن تعديل قوانين الانتخابات، أثار حفيظة لجنة 6+6، التي اعتبرتها نهائية، وطالبته بوقف فرض إملاءاته في الشأن الليبي، ودعته لدعم إصدار قوانين الانتخابات في أسرع وقت ودون اشتراط.
فاعتماد مجلسي النواب والدولة على خريطة الطريق دون نشر قوانين الانتخابات في الجريدة الرسمية، يعكس رغبتهما في الإطاحة بحكومة الدبيبة، كأولوية مشتركة وتعيين حكومة جديدة، بينما إجراء الانتخابات سيكون مسألة معلقة تحتاج مزيداً من التفاوض والتوافق.