اشتداد الاشتباكات المسلحة في العاصمة السودانية الخرطوم سلّط الضوء على دور الطيران الحربي في المعارك المستعِرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، بعد مرور أكثر من 3 أشهر على العملية التي لم يحسمها طرف حتى الآن.
وشارك الطيران الحربي للجيش في المعارك الدائرة ضد قوات الدعم السريع، بقوة وكثافة، منذ منتصف أبريل/نيسان الماضي.
ومنذ اندلاع الاشتباكات يتبادل الجيش و"الدعم السريع" اتهامات ببدء القتال وارتكاب خروقات، خلال سلسلة هدنات لم تُفلح في وضع نهاية لها.
ومع دخولها شهرها الرابع خلَّفت الاشتباكات أكثر من 3 آلاف قتيل، أغلبهم مدنيون، وأكثر من 3 ملايين نازح ولاجئ داخل وخارج البلاد، بحسب الأمم المتحدة.
تباين التقديرات
أسهم الطيران الحربي للجيش في الحدّ من قوة واندفاع "الدعم السريع"، ذات الكثافة العددية، وسريعة الانتشار، بحسب مراقبين.
ويعد سلاح الجو أكثر قوات الجيش فاعلية في الحد من تمدد قوات الدعم السريع، التي تتميز بقدرتها على سرعة التحرك، من خلال سيارات الدفع الرباعي.
كما أن سلاح الجو حقق هدفه سابقاً في أول أيام الاشتباكات، بتدمير معسكرات "الدعم السريع" في الخرطوم، وقد أفقدها ذلك قدرتها على القيادة الواحدة.
لكن مراقبين آخرين يرون أن نجاح سلاح الجو في تدمير معسكرات "الدعم السريع" في بداية المعركة حفّزها على ابتكار وسائل جديدة، سمحت لها بالحركة غير المركزية والانتشار في أحياء العاصمة.
ووفقاً لموقع "غلوبال فاير باور" الدولي، يملك الجيش السوداني 191 طائرة حربية، منها 45 مقاتلة من طرازات روسية مختلفة، و37 مروحية، و25 طائرة شحن.
اتهامات متبادلة
نفّذ الجيش مئات الطلعات الجوية، قصف خلالَها مقارّ ومعسكرات وتجمعات قوات الدعم السريع في مناطق متفرقة بالخرطوم، منذ اندلاع القتال في منتصف أبريل/نيسان الماضي.
وتفتقد قوات الدعم السريع إلى طيران حربي، لكنها تملك طائرات مسيّرة، قال الجيش إنه أسقط 4 منها مؤخراً.
ونفى الجيش اتهامات بقصف طيرانه مدنيين، في 7 يوليو/تموز الجاري، بمدينة أم درمان غربي العاصمة الخرطوم، محمِّلاً "الدعم السريع" مسؤولية ذلك، لأنه لم يقُم بطلعات عسكرية في المنطقة التي تعرضت للقصف.
وقالت "الدعم السريع" في بيانات سابقة، إن "القصف العشوائي بالطيران والمدافع الثقيلة على المناطق المأهولة بالسكان، تسبَّب في مقتل وإصابة المئات من المواطنين، بما يمثل انتهاكاً خطيراً لقانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني".
وكان الجيش يردّ في بياناته بأن قوات الدعم السريع "درجت على قصف المناطق السكنية بالمدفعية والصواريخ، بالتزامن مع تحليق طائراتنا، محاولة إلصاق تهمة استهداف القوات المسلحة للمواطنين زوراً وبهتاناً".
وذكر مصدر عسكري في الجيش السوداني للأناضول، أن "الطيران الحربي ينفذ طلعاته بدقة عالية، وجميع طياريه يتميزون بمهارة".
وصرح المصدر للأناضول، مفضلاً حجب هويته، بأن "الحديث عن قصف مدنيين غير صحيح، لأن الطلعات الجوية تتم بعد رصد دقيق، والقصف يكون لأهداف محددة (تجمعات الدعم السريع، وخطوط الإمداد والدعم اللوجيستي)".
وأضاف: "لا يمكن نسب تقدم القوات المسلحة في المعارك بالخرطوم لسلاح الطيران فقط، لأن العمل الميداني يتم بتنسيق عالٍ بين كل قوات الجيش".
وأشار إلى أن "هذا التنسيق العالي للجيش، تقابله عشوائية من قوات الدعم السريع، حيث لا توجد قيادة موحدة"، موضحاً أن "الجيش سيحسم المعركة قريباً، وها هو يحقق انتصارات على الأرض في كل المحاور".
حظر الطيران
مؤخراً، غضِبت الخرطوم من أحاديث حظر الطيران التي تم تداولها في قمة اللجنة الرباعية للهيئة الحكومية للتنمية "إيغاد" المعنية بالسودان، والتي عقدت في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، في 10 يوليو/تموز الجاري.
واستنكرت وزارة الخارجية السودانية تصريحات لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، عقب القمة، بشأن فرض حظر طيران في البلاد.
وقالت الخارجية السودانية، في بيان صدر بتاريخ 11 يوليو/تموز الجاري: "نستنكر دعوته (آبي أحمد) لفرض حظر جوي ونزع المدفعية الثقيلة، خلافاً لمواقفه وتفاهماته المباشرة القائمة مع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان".
وأضافت الخارجية: "تعتبر حكومة السودان هذه التصريحات مساساً بسيادة الدولة السودانية، وهو أمر مرفوض".
وفي 10 يوليو/تموز، دعا رئيس الوزراء الإثيوبي إلى "إجراءات فورية في السودان، تشمل فرض منطقة حظر طيران ونزع المدفعية الثقيلة".
وقال آبي أحمد، إن "قمة إيغاد تدعو لإجراءات فورية في السودان، تشمل فرض منطقة حظر طيران، ونزع المدفعية الثقيلة".
وحتى الآن لم يَحسم أي طرف المعركة لصالحه، ما يعد مؤشراً خطيراً على أن القتال مرشح ليتواصل لفترة طويلة تهدد بسقوط مزيد من الضحايا، خاصةً المدنيين.
فبالنظر إلى توازن القوة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، فإننا أقرب إلى تكرار سيناريو الحروب الطويلة في اليمن وسوريا وليبيا.
بل إن السودان ذاته شهد عدة حروب داخلية طويلة، على غرار تمرد جنوب السودان (1955-2005)، الذي انتهى بانفصاله رسمياً في 2011، وحركات التمرد في دارفور (2003-2019)، والتمرد الذي شهدته ولايتا جنوب كردفان والنيل الأزرق (2011-2019).
لكن هذه المرة الوضع أخطر، فقد تحولت قوات الدعم السريع إلى قوة موازية للجيش، بتعداد 100 ألف مسلح ونحو 10 آلاف عربة مسلحة بمدافع رشاشة مضادة للطيران، ولديها ميزانيتها الخاصة من الحكومة، ناهيك عن استغلالها لمناجم الذهب بجبل عامر في دارفور (غرب) لحسابها الخاص.
وهذه القوة التي انبثقت من مجموعات الجنجويد القَبَلية، المتهمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور، استغلت أزمات البلاد لتنتشر في عدة محافظات خارج مناطق نفوذها، بما فيها الخرطوم، ناهيك عن شرق وجنوب البلاد.
حرب المطارات والموانئ
عدم امتلاك "قوات الدعم السريع" لسلاح طيران أو حتى لطيارين مدربين على قيادة المقاتلات أو حتى المروحيات التي يستولون عليها، يمثل نقطة ضعف رئيسية، مقابل الجيش السوداني الذي يتسيد سماء المعركة.
لذلك سعت قوات الدعم السريع للسيطرة على القواعد الجوية والمطارات الاستراتيجية، لمنع مقاتلات ومروحيات الجيش السوداني من استخدامها نقطة انطلاق للقصف، أو تلقي الدعم العسكري الخارجي.
وهذا ما يفسر أول تحرك لقوات حميدتي نحو مطار مروي (350 كلم شمال الخرطوم)، فكان الهدف واضحاً، وهو منع الجيش السوداني من الحصول على أي دعم عسكري.
كما أن السيطرة على قاعدة مَرَوِي الجوية تسمح لقوات حميدتي بتلقي مساعدات عسكرية وتموينية من الخارج.
ثم تركزت هجمات قوات الدعم السريع على مطار الخرطوم الاستراتيجي، الأكبر في البلاد، والذي يعد محطة مهمة للسيطرة على مفاصل السلطة في العاصمة.
ففي ظل التوازن العسكري بين الطرفين، تصبح إطالة أمد الحرب السيناريو الأرجح، حتى لو تم طرد قوات حميدتي من الخرطوم، لأنه قد يلجأ إلى معاقله في دارفور والولايات الجنوبية، ويواصل حرب استنزاف أو يسعى لانفصال الإقليم.