خلال العقد المنصرم، وصل التمدد الروسي في إفريقيا إلى مستوى غير مسبوق في جمهوريات كانت تعد نفوذاً أوروبياً خالصاً، وخاصة الدول الناطقة بالفرنسية، لكن تغير الأمر وتبدّل الحال، وباتت روسيا وعبر ذراعها العسكري غير الرسمي "فاغنر"، صاحب الكلمة العليا في العديد من تلك البلدان.
هذا النجاح الروسي في إفريقيا لم يعد وليد اللحظة بل سبقه محاولات ونجاحات كبيرة، بداية من عهد الاتحاد السوفييتي عبر وكالات الاستخبارات الخاصة به، ومروراً بالدولة الروسية الحديثة، ووصولاً لما فعلته "فاغنر"، بحسب تقرير لموقع فرانس 24 الفرنسي.
تاريخ الوجود الروسي في إفريقياً
ففلاديمير بوتين لم يطور شبكات نفوذه في إفريقيا بطريقة عشوائية، حيث اعتمد في ذلك على تاريخ طويل وثري للعلاقات التي أقامها الاتحاد السوفييتي مع الدول الإفريقية منذ ستينيات القرن الماضي وعلى الجهود التي بذلها الجواسيس الروس في خضم الحرب الباردة.
صيف العام 1960 كان حاراً جداً فيما أصبح يسمى لاحقاً جمهورية الكونغو الديمقراطية. فقد نجح هذا البلد في انتزاع استقلاله عن بلجيكا في يونيو/حزيران، وتولت أول حكومة منتخبة ديمقراطياً مهامها. إلا أن الصراعات على السلطة بلغت ذروتها تزامناً مع انقلاب لجوزيف ديزيريه موبوتو في سبتمبر/أيلول من العام نفسه. وبعد بضعة أشهر تم اغتيال رئيس الوزراء باتريس لومومبا.
سلسلة من الأحداث المتتالية ستشهدها هذه الدولة، وستطرح أكثر من سؤال… وليس فقط في إفريقيا..فعلى بعد حوالي 11 ألف كيلومتر من كينشاسا في روسيا، أجبرت الأزمة التي كانت تمر بها الكونغو البلجيكية سياسة الاتحاد السوفييتي إلى اتخاذ منعطف جديد. حيث أدرك رئيس المخابرات السوفييتية آنذاك ألكسندر شيلبين، أنه يفتقد إلى جواسيس في إفريقيا جنوب الصحراء. في وقت كان للجواسيس الروس حينها حضور قوي في مصر، وكذلك في دول المغرب العربي، وكانت لديهم صداقات قوية مع الحزب الشيوعي في جنوب إفريقيا.
جواسيس لإنقاذ لومومبا
إلا أن هذه الشبكة من الجواسيس لم تكن كافية لرئيس جهاز المخابرات السوفييتي. خاصة بالنسبة إلى الرئيس السوفييتي آنذاك نيكيتا خروتشوف، الذي كان يؤمن بضرورة الانفتاح على دول العالم الثالث، ولا سيما في إفريقيا، فيما يعتبر قطيعة مع سياسة سلفه جوزيف ستالين. الذي كان يلقب "بالأب الصغير للشعوب" إلا أنه لم يكن يهتم كثيراً بـ"أطفاله" في إفريقيا.
لتصبح بذلك أزمة الكونغو "أول حالة مؤكدة لتدخل المخابرات السوفييتية في شؤون دولة إفريقية في جنوب الصحراء" بحسب ناتاليا تيلبنيفا، المتخصصة في تاريخ أجهزة المخابرات السوفييتية في إفريقيا بجامعة ستراثكلايد في غلاسكو.
كما يمثل هذا التدخل بداية فعلية لانتشار النفوذ الروسي في إفريقيا، رغم عدم الاهتمام بالمنطقة بين بداية التسعينيات ونهاية الألفية الثانية.
واستفاد فلاديمير بوتين لإعادة روسيا إلى القارة الإفريقية من الصورة الجيدة نسبياً للجمهوريات السوفييتية السابقة في هذه القارة، وكذلك من شبكة من العلاقات القديمة". حسب تعبير مارسيل بليشتا، المتخصص في النفوذ الروسي في إفريقيا في جامعة سانت أندروز الاسكتلندية.
إلا أن عملية إنقاذ رئيس الوزراء باتريس لومومبا، الذي كان يبدو كرفيق مثالي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية لم تستفد سوى من إمكانيات قليلة. وتقول ناتاليا تيليبنيفا: "لم تتمكن موسكو إلا من إرسال حفنة قليلة من العملاء بشكل فوري. لذلك اعتبر انقلاب جوزيف ديزيريه موبوتو في عام 1960، بدعم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية "سي آي أي"،إخفاقاً مؤلماً لجهاز الاستخبارات "كي جي بي".
حرب باردة "بتكلفة منخفضة" في إفريقيا
لذلك كان على السوفييت اللحاق بالركب في مجال استراتيجيات التأثير. في البداية استطاعوا الاعتماد على حماس العملاء الأوائل الذين انضموا إلى قسم إفريقيا في صلب جهاز المخابرات الروسي "كي جي بي". حيث كانت إفريقيا تمثل آفاقاً مثيرة للاهتمام من حيث إمكانيات التجسس وتحقيق جملة من "الأهداف النبيلة" من خلال دعم حركات التحرير وتحليل نشاط الولايات المتحدة هناك.
كما أوردت ناتاليا تيليبنيفا في كتابها "كولد وور ليبيرايشن "استناداً إلى مذكرات فاديمكير بيتشينكو، الذي كان أول مدير لقسم إفريقيا في جهاز المخابرات الروسي "كي جي بي".
وتعتقد ناتاليا تيليبنيفا أن "الأزمة في الكونغو كانت بمثابة الدرس لموسكو التي أدركت أن الاتحاد السوفييتي لم يكن لديه نفس موارد القوى الغربية الموجودة في إفريقيا. وحيث يبدو أن العمل المخابراتي والعمليات السرية هي أفضل وسيلة لشن حرب باردة 'منخفضة التكاليف" في هذه القارة لأن الاستثمار هناك يتعلق باستثمار بشري أساسا".
من الحلم السوفييتي إلى خيبة الأمل
في ذلك الوقت، قدم الاتحاد السوفييتي نفسه على أنه بطل مناهض للاستعمار، بينما اليوم "تدعي روسيا أنها حليفة الوحدة الإفريقية ضد القوى الاستعمارية القديمة"، كما يوضح مارسيل بليتشتا.
وتعتبر الحملة الروسية لإذكاء مشاعر معاداة الفرنسيين في جمهورية إفريقيا الوسطى، وفي مالي أبلغ مثال عن ذلك. لكن كل جهود جهاز الـ"كي جي بي"، التي ألهمت روسيا الحالية، لم تتوج بالنجاح في ذلك الوقت، أو على الأقل لم ترقَ إلى مستوى آمال موسكو.
تقول ناتاليا تيلبنيفا إن الاتحاد السوفييتي "أعتقد أن هذه الدول ستقترب بشكل طبيعي من الأيديولوجية الشيوعية، وبالتالي من الكتلة السوفييتية. لكن الأمر كان أكثر تعقيداً مما كان منتظراً".
تمت الإطاحة بأول "صديق" لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية في إفريقيا جنوب الصحراء كوامينكروما في 1966 بعد أن استبد بالسلطة في غانا لمدة 6 سنوات. في حين أعلنت دولتان وقوفهما صراحة في الصف الروسي، وهما مالي تحت قيادة موديبو كيتا، وغينيا بقيادة أحمد سيكو توري.
لكن تمت الإطاحة بالزعيم المالي من السلطة عام 1968، بعد 8 سنوات من الحكم، بينما ظل الزعيم الغيني لأكثر من ربع قرن في سدة الحكم حتى عام 1984، على رأس أكثر الأنظمة وحشية في إفريقيا.
عمليات النفوذ السوفييتي في إفريقيا لم تستأنف إلا مع انتهاء الاستعمار وتفكك الإمبراطورية البرتغالية السابقة في إفريقيا -موزمبيق وغينيا بيساو وأنغولا- في السبعينيات.
حيث دعا الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف أجهزة المخابرات إلى "إعادة نشر جهودها لتعزيز التعاون العسكري والأمني مع جيوش الدول "الصديقة"، حسب ناتاليا تيلبنيفا.
واكتشف الكرملين أنه قلل من أهمية دور الجيش في صراعات السلطة في إفريقيا.
الاتحاد السوفييتي و"القوة الناعمة"
ثم أصبح الاتحاد السوفييتي أحد أهم موردي الأسلحة للدول الإفريقية. حتى أن إثيوبيا التي كانت تحظى بدعم الاتحاد السوفييتي في حربها ضد الصومال، كانت تستقبل "طائرة سوفييتية مليئة بالمعدات العسكرية والمدربين كل 20 دقيقة"، بحسب ما ظهر في أرشيف ميتروخين.
وهذه المقاربة تذكرنا بسياسة فلاديمير بوتين ومجموعة فاغنر.حيث يؤكد مارسيل بليشتا أن "الاستراتيجية الرئيسية لموسكو لتوسيع نفوذها في إفريقيا إضافة إلى إرسال مرتزقة فاغنر، هي مضاعفة اتفاقيات التعاون العسكري: 21 اتفاقية موقعة بين عامي 2014 و 2019".
خلال الحرب الباردة، لم يقتصر الدعم العسكري فقط على توريد الأسلحة، بل قام الاتحاد السوفييتي بتدريب الآلاف من "المناضلين من أجل الحرية" كما يسمون. وأصبح المركز التدريبي 165 فيبيريفالنويفي شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا، أبرز مثال على ذلك.
كان التعامل مع الأسلحة مجرد درس من بين دروس أخرى: "كان هناك أيضاً تدريب سياسي، ورحلات إلى مواقع سياحية، وزيارات للحقول والمزارع الجماعية أو حتى عروض الأفلام. كما تضمنت الدورات ندوات عن اللينينية-الماركسية ومناقشات حول تاريخ الاستعمار". كما توضح ناتاليا تيلبنيفا.
بالإضافة إلى ذلك، أدركت موسكو في وقت مبكر دور التعليم في تعميق العلاقات مع إفريقيا. وكان هذا هدف جامعة باتريس لومومبا، التي افتتحها خروتشوف في موسكو عام 1961. حيث دربت هذه الجامعة أكثر من 7000 طالب من 48 دولة إفريقية خلال 50 عاماً في مجالات متنوعة كالفيزياء والاقتصاد والإدارة العامة.
بالنسبة للجواسيس الروس، كانت إفريقيا أرضاً خصبة للعثور على مجندين محتملين. حيث كان نائب مدير جامعة لومومبا ينتمي أيضاً إلى جهاز الـ"كي جي بي".
لكن "لم يكن هذا هو الشيء الأكثر أهمية بالنسبة لموسكو"، بحسب القاضي كونستانتينوس كاتسا كيوريس، المتخصص في قضايا التعليم في إفريقيا والاتحاد السوفييتي السابق بجامعة بايرويت الألمانية.
الأمر كان يتعلق أساساً بتحسين صورة جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق لدى الأفارقة.
مع سقوط الاتحاد السوفييتي، انسحبت موسكو تدريجياً من إفريقيا، بسبب انشغالها بمشاكلها الداخلية. لكن كل هؤلاء الطلاب السابقين الذين تدربوا في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق ظلوا هناك. وعندما قرر فلاديمير بوتين في عام 2014 العودة إلى إفريقيا بحثاً عن حلفاء جدد وكسر العزلة الدبلوماسية التي تلت ضمه لشبه جزيرة القرم، كان يعلم أن عملاءه يمكنهم العثور على "أصدقاء جدد" هناك.
يؤكد مارسيل بليشتا أن "المقاتلين والطلاب كانوا صغاراً عندما ذهبوا إلى الاتحاد السوفييتي. واليوم، أصبح بعضهم أعضاء لديهم تأثير في بلدانهم الأصلية". هناك الكثير من الآذان التي قد تستمع إلى ما قد يهمس به رجال بوتين وبريغوجين