منذ الأيام الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا، تحول تطبيق تليغرام لساحة معركة افتراضية للحرب الحقيقية بين البلدين. وامتلأت العديد من القنوات التي أُنشِئت بعد الغزو الروسي بالمعلومات المُنقِذَة للحياة عن الضربات الجوية وتحركات القوات والأشخاص المفقودين، كما يقول تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
تليغرام.. منصة توثيق الحرب والمعلومات المضللة في آن واحد
صار متاحاً للجماهير، على نطاق وحشي وغير مسبوق، صور لجثث جنود وجثامين مشوهة وشهادات أسرى الحرب والصور المروعة لتداعيات الغارات الجوية وحتى مقاطع الفيديو لجرائم الحرب.
وقال أندرو ويلسون، أستاذ الدراسات الأوكرانية في جامعة كوليدج لندن ومؤلف كتاب سيصدر قريباً عن حرب المعلومات: "تليغرام كبير بما يكفي ليكون عالماً خاصاً… هناك الخير والشر وما بينهما والغامض. وهو مساحة [أخرى] مُتنازَع عليها في حرب حقيقية بين روسيا وأوكرانيا".
ويضم تليغرام كل شيء من قنوات المعارضة، والمعلومات المضللة، إلى التفاصيل المُنقِذَة للحياة. ومساء الأربعاء 12 يوليو/تموز، نشر عضو برلماني روسي مؤيد للكرملين رسالة صوتية بقناته على تليغرام، يزعُم أنها من الضابط الميجور جنرال (اللواء) إيفان بوبوف المطرود من جيش الأسلحة المشتركة الـ58. وخاطب بوبوف "مقاتليه الأعزاء" وشرح لماذا اشتكى لكبار الضباط حول سلوكهم في الحرب: "باسم جميع رفاقنا الذين سقطوا في السلاح، لم يكن لي الحق في الكذب".
فيما زعمت قناة تليغرام التابعة لقوات الحدود الأوكرانية، صباح السبت 15 يوليو/تموز، أنَّ مرتزقة فاغنر رُصِدوا في بيلاروسيا بعد الظهر، وحظيت القصة بتغطية واسعة من الصحافة الغربية.
وتعد قراءة الساحة مفتاحاً لخوض أية معركة؛ لذا صار تقدير نظم الحماية والإخفاء في تليغرام، إضافة إلى جاذبيته ونقاط ضعفه، أمراً أساسياً في فهم حرب ما بعد الحداثة، بحسب التايمز.
لماذا تليغرام وليس غيره؟
يفتخر هذا التطبيق بالخصوصية الشديدة التي يمنحها لمستخدميه؛ حيث يتيح خاصية التشفير التام بين الأطراف. ويمكن للمستخدمين تداول الرسائل أو الاتصال ببعضهم البعض، مع إخفاء رقم الهاتف -عكس واتساب- مما يجعله أداة اتصال قوية لأولئك الذين يخشون تعرضهم للعقاب على ما يكتبونه، كما هو الحال في البلدان الاستبدادية.
وإلى جانب الرسائل، يمكن للمستخدمين إنشاء قنوات تعمل مثل المدونات، أو مشاركة النصوص أو الصور أو الفيديو أو الرسائل الصوتية مع جمهور يمكن أن ينمو مثل حساب تويتر. ويتنافس المدونون الهواة والسياسيون وأنصار الدولة ووسائل الإعلام الغربية على حشد المشتركين وثقتهم.
وتحظى قناة Nexta، وهي قناة إخبارية بيلاروسية مستقلة، بأكثر من مليون متابع، في حين أنَّ القناة الرسمية لمكتب الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، "Pul Pervogo"، لديها خُمس حجم المتابعين.
وحتى الصيف الماضي، كان لدى تليغرام 700 مليون مستخدم شهرياً عالمياً. وفي ديسمبر/كانون الأول، وصلت حصته في سوق تطبيقات المراسلة العالمية إلى 31%، متجاوزاً حصة 21% لتطبيقي فيسبوك وماسنجر، وجاء خلف واتساب الذي تبلغ حصته 44%، وفقاً لبيانات من Apptopia، وهي منصة استخبارات سوقية، والتي شاركها مؤسس تليغرام.
ورغم أنَّ كثيرين في الغرب سمعوا لأول مرة عن تليغرام بعد الغزو الروسي العام الماضي، فإنه ليس جديداً. فقد أطلقه في عام 2013 الأخوان نيكولاي وبافيل دوروف، اللذان سبق لهما إعداد الرد الروسي على فيسبوك، وهو موقع VKontakte، في عام 2006.
وفكّر الكرملين في البداية في حظر تليغرام، لكنه أدرك لاحقاً أنه يمكن أن يكون "أداة مثالية لنشر معلوماته المضللة والأهم نشرها محلياً. وبعد ذلك في بيلاروسيا وأوكرانيا"، على حد تعبير أستاذ الدراسات الأوكرانية أندرو ويلسون.
واستضاف تطبيق تليغرام نشاطاً غير قانوني؛ مثل الترويج للأماكن على زوارق الهجرة غير الشرعية، وجوازات السفر المزورة والأسلحة وحتى صور جنسية مسيئة للأطفال. وعلى الرغم من أنَّ تليغرام يضبط هذا النوع من النشاط، فإنَّ التزامه بحرية التعبير مُطلَق. وصرح متحدث باسم تليغرام لصحيفة The Sunday Times بأنَّ "المبدأ التوجيهي لتليغرام هو حيادية المعلومات والمعاملة المتساوية لجميع الأطراف، بغض النظر عن الآراء السياسية التي يعبرون عنها".
كيف يساهم التطبيق في إنقاذ الأرواح أيضاً؟
مع ذلك، أنقذت المعلومات التي تُشارَك عبر تليغرام أرواحاً في أوكرانيا. إذ يُسهِم شباب مجهولون يديرون قنوات على تليغرام، ولهم جهات اتصال مع القوات المسلحة أو مع مجرد إذاعات تعترض الطيارين الروس، في إنقاذ الأرواح من خلال تقديم معلومات مفصلة وفي الوقت المناسب عن هجمات الصواريخ والطائرات بدون طيارٍ الواردة.
وقال مدير "Monitor"، إحدى هذه القنوات التي تضم أكثر من 200.000 متابع في أوكرانيا، لصحيفة The Sunday Times إنه لا يوجد شيء يمكن مقارنته بتطبيق تليغرام فيما يتعلق بنقل المعلومات بطريقة آمنة وسريعة إلى جمهور واسع.
وتتذكر Monitor كيف شكرها أحد المستخدمين على إنقاذهم من السقوط ضحايا لتفجير فندق ألفافيتو بكييف في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي. وقالت: "كتبت لي فتاة أنها ممتنة للغاية. فبعد شراء هدايا العام الجديد، كانت تجلس في سيارتها خارج الفندق وتقرأ رسالتي حول التهديد الذي تتعرض له كييف، وسارعت لإيجاد مأوى. وفي وقت لاحق، اكتشفت أنَّ الفندق هو الموقع الذي تعرض للقصف".
لكن هذه المهمة يمكن أن تكون ثقيلة. فقد اعترضت Monitor الصيف الماضي تسجيلاً صوتياً روسياً يعلن إطلاق صاروخ Kh-22 سريع باتجاه ساحل أوديسا. وتقول القناة: "استجبنا على الفور، بينما كنا نستمع إلى الأمر بإطلاق الصاروخ، كنا نكتب: أُطلِق صاروخ، لكن في غضون دقيقة، أصاب الصاروخ مبنى سكنياً في سيرهيفكا بأوديسا أوبلاست، وقتل 20 مدنياً في الغارة. لم يكن هذا سهلاً من الناحية العاطفية. إذ تبدأ في التفكير: ماذا لو علمنا مبكراً؟ ماذا لو كان بإمكاننا إرسال المعلومات عاجلاً؟".
منصة ساخنة للحرب النفسية بين روسيا وأوكرانيا
إضافة إلى ذلك، صار تطبيق تليغرام بؤرة ساخنة للدعاية والمعلومات المضللة الروسية. إذ ينشئ مُروّجو الدعايا الروسية حسابات وهمية مؤيدة لأوكرانيا لدس روايات تحمل معلومات مضللة، لكن في بعض الأحيان ينكشفون من خلال زلاتهم في استخدام اللغة الأوكرانية، أو حتى الإشارة إلى الحكومة الأوكرانية على أنها "الفيدرالية"، وهو مصطلح يُستخدَم غالباً في روسيا لكن ليس في كييف.
وفي 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2013، بدأت ثورة الميدان الأوروبي في أوكرانيا بمنشور على فيسبوك لمصطفى نعيم، وهو ناشط أفغاني أوكراني يشغل الآن منصب وزير في الحكومة، وتعد هذه الثورة، ومعها ضم شبه جزيرة القرم والحرب في دونباس، من التأثيرات التي قادت إلى الغزو العام الماضي.
ويقول أستاذ الدراسات الأوكرانية أندرو ويلسون، إنَّ فيسبوك مناسب لتنظيم احتجاجات جماهيرية، بينما تليغرام أكثر ملاءمة لحرب هجينة.
ويقول ويلسون: "من المعروف أنَّ منشور مصطفى نعيم الذي بدأ الاحتجاجات الميدانية أكثر ملاءمة لفيسبوك، في حين أنَّ دعوة يفغيني بريغوجين -رئيس فاغنر- لحمل السلاح من أجل شن تمرد؛ ترمز أكثر بكثير إلى كيفية عمل تليغرام؛ وهو استهداف جمهور معين برسالة معينة… رسالة مناهضة للدولة على نظام أساسي مشفر لكن في الوقت نفسه يمكن للملايين الوصول إليها، ويمكن لأي شخص يبحث عنها العثور عليها".
وشكّل فيسبوك وجه انتفاضات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ عقد الربيع العربي والميدان الأوروبي. بينما ترك تليغرام بصماته على أحداث النصف الأول من عشرينيات القرن الحالي؛ من احتجاجات بيلاروسيا إلى حرب أوكرانيا، ومن المهاجرين الألبان إلى المتطرفين الإنجليز.