لا ينفك القوميون الهندوس يحاولون الدفع بقضية "القانون المدني الموحد" إلى صدارة النقاشات السياسية في البلاد، حيث يتكئ حزب بهاراتيا جاناتا على مزاعم المساواة الجندرية لتبرير الرغبة في إقرار هذه القوانين وفرضها على المجتمع الهندي الذي لطالما اتسم بتنوعه العرقي والديني.
ويحذر الكاتب حارس زرغار، وهو باحث دكتوراه في المعهد الدولي للدراسات الاجتماعية بجامعة إراسموس روتردام، من استخدام هذه المزاعم سلاحاً لاستهداف المسلمين الهنود الذين يعانون بالفعل تحت وطأة السياسات الهندوسية المتشددة للحزب الحاكم.
ما قصة "القانون المدني الموحد" في الهند؟ وكيف يؤثر على المسلمين؟
يقول الباحث حارس زرغار، في مقالة له بموقع Middle East Eye البريطاني، إن هناك استعداداً لدى رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، للترشح لولاية ثالثة خلال العام المقبل، يتزامن مع عودة موضوع السيطرة على جسد المرأة المسلمة، وهو ما يضع هذه القضية في بؤرة تركيز النقاشات السياسية والمجتمعية في البلاد.
واستأنف حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم الذي ينتمي إليه مودي -والجماعات الهندوسية المتطرفة التابعة له- مساعيهم لإحياء التشريعات المعنية بفرض المزيد من التدابير التنظيمية على النساء المسلمات في البلاد.
وقال زرغار إن هذه التدابير التنظيمية يأتي على رأسها: مشروع "القانون المدني الموحد" (UCC)، وهو مشروع مثير للجدل يرمي إلى إخضاع مختلف الجماعات والطوائف الدينية في البلاد إلى قانون عام وموحد للأحوال الشخصية.
وأورد زرغار بعض الخطوات التي اتخذتها الحكومة الهندية لإعادة القضية إلى ساحة النقاش العام، فقد أرسلت "لجنة القوانين الهندية رقم 22"، في 14 يونيو/حزيران 2023، مذكرة إلى الهيئات الشعبية والمنظمات الدينية في البلاد تطالبهم فيها بالإدلاء بتعليقاتهم وآرائهم بشأن القانون المدني الموحد في غضون 30 يوماً.
وعقدَ أميت شاه، وزير الداخلية الهندي، مؤخراً، أول اجتماع رفيع المستوى لمناقشة القانون المدني الموحد، ما أثار تكهنات بأن الحكومة قد تقدِّم مشروع القانون في الدورة المقبلة للبرلمان. وذكرت وسائل الإعلام الهندية أن لجنة القوانين كانت تدرس خطوات البدء في صياغة مشروع القانون المدني الموحد.
يرى زرغار أن مشروع القانون المدني الموحد يتعارض مع المنظومة القانونية التي تحكم الأحوال الشخصية في الهند، والتي تقتضي السماح لمختلف الطوائف الدينية، من هندوس ومسلمين ومسيحيين وغيرهم، باتِّباع قوانينهم الدينية في بعض شؤون الأسرة وإدارة الممتلكات المرتبطة بها، مثل الزواج والطلاق والتبني والمواريث.
لطالما كان القانون المدني الموحد؛ وإلغاء المادة رقم 370 من الدستور الهندي، والتي كانت تمنح منطقة كشمير المتنازع عليها قدراً من الحكم الذاتي؛ وبناء معبد "أيودهيا رام" الهندوسي؛ مطالب أساسية لدى القوميين الهندوس المتشددين. وكانت قضية القانون المدني الموحد كذلك أحد بنود البرنامج الانتخابي لمودي في الانتخابات الوطنية لعام 2019، وفي برنامج حزبه للانتخابات التي عقدت مؤخراً بولاية كارناتاكا الجنوبية.
مع ذلك، فإن المحكمة العليا الهندية رفضت في مارس/آذار مجموعة من الالتماسات التي تطالبها بإقرار القانون الموحد، وقالت المحكمة إن مثل هذه القضايا يقع البتُّ فيها على برلمان البلاد.
كيف تحاول حكومة مودي تحويل الخطاب الجندري إلى سلاح؟
يشير زرغار إلى أن إقرار القانون المدني الموحد في المجتمع الهندي، الذي يتسم بتعدُّده الديني، يُفضي عملياً إلى إلغاء قوانين الأحوال الشخصية التي تحكم شؤون الأسرة المسلمة؛ وإخضاع الشرائع والطقوس العرفية المتبعة في مختلف المجتمعات القبلية بالهند للقانون المدني الجديد.
يجادل المعارضون للقانون بأن إقراره يقوِّض النسيج الاجتماعي والديني للهند؛ وأنه سيُستعمل أداةً لفرض مشروع الأمة الهندوسية الموحدة. ويقولون إن هذه المساعي استمدت أفكارها من تصورات القومية الهندوسية "الهندوتفا" التي تقول بأن استيعاب مسلمي الهند في نظام اجتماعي هندوسي "شامل" هو أحد الطرق الفعالة لمواجهة الوجود "التخريبي" للمسلمين في البلاد.
والحال كذلك، أعرب المسلمون عن خشيتهم من استخدام القانون المدني الموحد وسيلةً لتقويض أسلوب معيشتهم؛ وإجبارهم على الامتثال للقواعد الهندوسية المضمَّنة في قوانين البلاد.
على النقيض من ذلك، فإن بعض النشطاء المناصرين للمساواة بين الرجل والمرأة وحقوق الجندر الاجتماعي يؤيدون فكرة القانون المدني الموحد، بزعمِ أنه يسهم في إنهاء التمييز ضد المرأة. ولطالما وصف هؤلاء القوانين من هذا النوع بأنها إصلاح قانوني لتجريم بعض الأمور التي يرفضونها مثل تعدد الزوجات، التي أشاع اليمين الهندوسي كذباً أنها ممارسة منتشرة بين المسلمين (على الرغم من أن "المسح الوطني لصحة الأسرة" في عام 2006 كشف أن الأمر لا تتجاوز نسبته 2.5% بين سكان البلاد من المسلمين).
وفي هذا السياق، قال هيمانتا بيسوا سارما، أحد كبار المسؤولين بحزب بهاراتيا جاناتا في ولاية آسام، الشهر الماضي، إن "هناك بعض الناس في الهند يظنون أنهم يستطيعون الزواج من 4 نساء. وهذه أفكارهم. لكني أقول لهم إنكم لن تستطيعوا الزواج بـ4 نساء بعد ذلك. وسنضع حداً لهذا الأمر عما قريب". وشدَّد على أن القانون المدني الموحد سيُنفذ في جميع أنحاء الهند.
كثيراً ما ربط القوميون الهندوس بين تعدد الزوجات و"الطلاق البائن بالثلاثة" -المحظور الآن- في الهند، لتصوير قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين بأنها "رجعية" وتحتاج إلى إصلاحات عاجلة.
وينقل زرغار عن نيفديتا مينون، الباحثة النسوية الهندية، قولها إن الرغبة في فرض القانون المدني الموحد لا علاقة لها بالعدالة بين الجنسين، فالأمر لا يعدو كونه جزءاً من أجندة القوميين الهندوس؛ "فالقانون المدني الموحد إن كان يبتغي العدالة عن حق لأعادَ النظر في هيكلة مؤسسة الزواج بين الجنسين. ولكن الحقيقة بالطبع أنه لا العدالة ولا التكافؤ بين الجنسين هي الهدف الحقيقي للقانون المدني الموحد، وقد رأينا ذلك بأعيننا".
المرأة المسلمة في الهند.. تاريخ من الأحقاد الهندوسية
يروي زرغار أن "قضية المرأة المسلمة" لطالما كانت مسألة مركزية في مشروع التفوق العنصري للجماعات الهندوسية المسلحة في الهند على مدار القرن الماضي؛ فقد صار التعرض لجسد الأنثى المسلمة أحد مكونات العنف الانتقامي الهندوسي من الحضارة الإسلامية التي هيمنت على الهند عقوداً طويلة، وأصبح الأمر من الشواغل الرئيسية لخطاب القومية الهندوسية.
لطالما تعرضت المدونة القانونية الهندوسية (Hindu law) للانتقاد خلال الحكم الاستعماري البريطاني، وقد استُحدثت بعض الإصلاحات عليها بعد ذلك، لا سيما فيما يتعلق ببعض الممارسات المستهجنة، مثل زواج الأطفال، وحرق الأرامل، وحظر زواج الأرامل مرة أخرى.
ويقول المؤرخ بوروشوتاما بيلموريا إن القوميين الهندوس يرون أن انفصال المسلمين، باتباع قوانينهم في الأحوال الشخصية، يعني أن الهندوس يتحملون بمفردهم "عبء الأجندة التنظيمية والإصلاحية"، في ظل "الدولة العلمانية".
وبعد التنقيحات التي أدخلت على قوانين الأحوال الشخصية الهندوسية في خمسينيات القرن الماضي، بدأت تُوصف هذه القوانين بأنها أكثر عدلاً في التعامل مع الجنسين، أما قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين فلا تزال توصف بأنها "بدائية" و"غير حضارية". وشرعت مجموعات القوميين الهندوس في الضغط من أجل إصلاح القوانين الإسلامية منذ الثمانينيات خلال قضية "شاه بانو"، التي استهانت فيها محكمة هندية بقوانين الأحوال الشخصية الإسلامية التي تمنح المرأة المسلمة دعماً أعلى بعد الطلاق.
ورددت المحكمة في حكمها مزاعم القوميين الهندوس، التي تدعي أن الأسرة المسلمة كيان متفكك لا يُحترم فيه شرف المرأة، ويُعدد فيه الرجال، ويحاولون جذب نساء الهندوس إلى حظائر سيطرتهم. وزادت هذه الخطابات تجلياً في نظرية المؤامرة المعادية للمسلمين المعروفة باسم "جهاد الحب"، والتي زعم أصحابها أن الرجال المسلمين يلاحقون نساء الهندوس لتحويلهن إلى الإسلام.
وعلى الرغم من غياب أية أدلة على وجود "جهاد الحب"، فإن القوميين الهندوس لم يتوانوا عن مواصلة الادعاء بأنه يُستخدم أداةً لإغواء الهندوسيات بالتحول عن دينهم. وهدد زعيم جماعة هندوسية بارزة في فبراير/شباط الماضي باختطاف المسلمات لمواجهة الأمر: "إذا فقدنا فتاة هندوسية واحدة بسبب (جهاد الحب)، فإن علينا أن نستدرج في مقابلها 10 نساء مسلمات، وأن نحتجزهن ثأراً لديننا… وحماية له من القوى الخارجية"، على حد وصفه.
يختم زرغار مقاله بالنقل عن الباحثة رونا داس قولها، إن "قضية المرأة" لطالما كانت مسألة محورية في مشروع القوميين الهندوس المتشددين، فهم يرون أن النساء الهندوسيات من الطبقة العليا محلٌّ لشهوة الذكور المسلمين، وأن الحفاظ عليهن دفاع عن حراس الشرف الوطني. واعتنى خطاب حزب بهاراتيا جاناتا بهذه الفكرة ضمن مساعيه لإعادة بناء الدولة الهندوسية المزعومة في البلاد.