وسط الحديث الدائر حول قمة الناتو الأخيرة لتوحيد التحالف ودعم أوكرانيا، تجاهل الجميع مشكلةً أكبر، تتمثل في فشل الاستراتيجية التي وضعتها الولايات المتحدة للتحالف كما يقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي. إذ ينهار الهجوم الأوكراني المضاد الذي طال انتظاره في مواجهة التحصينات الدفاعية الروسية الضخمة، والأعداد الكبيرة من القوات الروسية الجديدة، وتنامي الهيمنة الروسية على السماء قرب خطوط الحرب الأمامية.
أوكرانيا تستنفد مواردها بسرعة والغرب لا يستطيع مجاراتها
يقول الموقع الأمريكي إن أوكرانيا تستنفد إمداداتها من الجنود، وقذائف المدفعية، وصواريخ الدفاع الجوي بسرعة. ولا يستطيع الغرب تدريب ما يكفي من الجنود أو تصنيع ما يكفي من الأسلحة لتغيير تلك الصورة القاتمة قريباً.
كما ستعجز الولايات المتحدة عن مواصلة السحب من مخزونها العسكري القائم دون التأثير في قدرتها على التعامل مع أزمةٍ محتمَلة مع الصين. ونتيجةً لذلك، سنجد أن استراتيجية الناتو لإنهاء الحرب تبدو غير عمليةٍ على نحوٍ متزايد، نظراً لاعتمادها على نجاح الهجوم المضاد.
يُذكر أن الاستراتيجية الأمريكية الأوسع في أوروبا تواجه الفشل أيضاً. إذ تمثّل غرض الناتو الأصلي في الحيلولة دون صعود قوةٍ مُهيمنة أوروبية، لأنها قد تُقوِّض الأمن والرخاء الاقتصادي للولايات المتحدة.
واستهدف حلف الناتو طمأنة شركاء الولايات المتحدة إلى أن واشنطن لن تتخلى عنهم في مواجهة العدوان السوفييتي، ولن تمنح ألمانيا الحرية لإعادة بناء جيش مستقل وإحياء تطلعاتها القديمة للسيطرة على القارة. وفي مقابل الحماية التي توفرها المظلة العسكرية الأمريكية، تمكنت أوروبا الغربية من التركيز على النمو الاقتصادي الذي جعلها أقل عرضةً للتقويض الشيوعي، مع منح النظام السوفييتي الوقت اللازم ليذبل ويتعفّن. وقد حققت الاستراتيجية القديمة نجاحاً باهراً.
"أمريكا حوّلت أوروبا لمحميات تابعة لها"
لكن نخب السياسة الخارجية الأمريكية حوّلت أنظارها إلى سياسةٍ جديدة مع انهيار جدار برلين. وبدلاً من منع صعود قوة مهيمنة على أوروبا، اختارت الولايات المتحدة المناورة لتصبح القوة العظمى في القارة، واستهدفت تحويل جميع دول أوروبا الشرقية إلى محميات أمريكية.
وأدى التوسع المزدوج للناتو والاتحاد الأوروبي إلى نشر الرخاء في أرجاء القارة، لكنه جعل أوروبا عاجزةً عن تأسيس قدرة عسكرية مستقلة أو السعي لتنفيذ سياسة خارجية مستقلة عن واشنطن. كما أدى ذلك إلى إبعاد روسيا عن المؤسسات الأوروبية الرئيسية، ما زاد دوافعها لتقويض تلك المؤسسات بدلاً من دعمها.
ولن ينجح نهج كهذا إلا إذا رضخ له الروس. لكن جميع قادة الكرملين منذ عهد غورباتشوف رفضوا فكرة أوروبا المتمحورة حول الناتو، والتي لا تمنح موسكو صوتاً في القرارات المهمة التي تؤثر على أمنها. بينما تتضاءل فرصنا لفرض تلك الفكرة بالقوة على بوتين -أو أي خليفة محتمل- يوماً بعد يوم، بالتزامن مع فشل الهجوم المضاد الأوكراني.
وفي هذا الأثناء، صارت أوروبا نفسها منقسمةً حول فرضيات استراتيجية واشنطن. حيث استند الرخاء الألماني لسنوات على خفض الإنفاق الدفاعي، وعلى الوصول إلى الطاقة الروسية الرخيصة التي غذت اقتصاد ألمانيا القائم على التصدير. بينما أدى هجوم بوتين على أوكرانيا إلى إنهاء ذلك الوصول فعلياً، وزاد اعتماد ألمانيا على الطاقة الأمريكية باهظة التكلفة.
ضغوط أمريكي على الحلفاء بسبب الإنفاق العسكري
تفرض واشنطن ضغوطات متزايدة على ألمانيا وغيرها من أجزاء "أوروبا القديمة"، حتى تزيد إنفاقها الدفاعي وتُقيّد تجارتها واستثماراتها في الصين، من أجل التعامل مع الخطر المزدوج الذي تمثله روسيا والصين معاً. لكن بطء وتيرة تسليم الأسلحة الألمانية لأوكرانيا، وزيارة المستشار شولتز رفيعة المستوى للصين في الخريف الماضي، تمثلان مؤشرات على أن برلين لن تنجذب لمقايضة "زيادة الإنفاق وتقليل المكاسب" على الأرجح.
في ما يضغط العديد من أعضاء التحالف الجدد، بقيادة بولندا ودول البلطيق، على الولايات المتحدة من أجل الوفاء بالضمانات الأمنية التي تعهّدت بها ولم ترغب في تطبيقها مطلقاً.
وترى تلك الدول في الهجوم الروسي على أوكرانيا تهديداً وشيكاً لأمنها الخاص، واختباراً ضمنياً لالتزام واشنطن بالدفاع عنهم. كما تطالب تلك الدول بزيادات كمية وكيفية ضخمة في المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا، مجادلين بأن روسيا لن تخاطر على الأرجح بالدخول في صراع مباشر مع الناتو للرد، حتى لو كانت قواتها معرضة للهزيمة.
وتُصر تلك الدول على منح أوكرانيا عضوية الناتو في أقرب وقتٍ ممكن، زاعمين أن هذا الالتزام الأمني سيمنع المزيد من العدوان الروسي -بدلاً من أن يستفز الروس أكثر.
يقول موقع Responsible Statecraft إن واشنطن من جانبها حاولت أن تتفادى الخيارات الصعبة التي تتطلبها تلك الضغوطات المتضاربة. إذ استبعدنا تقديم أي تسويات قد تزيد فرص التفاوض على السلام مع روسيا، في قناعةٍ بقدرتنا على إجبار روسيا على الاستسلام في أوكرانيا بثمنٍ بخس، ودون المخاطرة بمشاركة أوسع من الناتو في الحرب وما يتبعها من أخطار. كما نُصِرِّ على تقاسمٍ أكبر للأعباء الأوروبية وخفضٍ للتجارة مع روسيا والصين، لكننا نتوقع من أوروبا أن تتخلى عن استقلالها في قضايا السياسة الخارجية الرئيسية.
في ما تتعامل مجموعة صقور الحرب الكبيرة في واشنطن مع الضمانات الأمنية الأمريكية، باعتبارها تعويذةً سحرية ستمنع روسيا -أو أي خصمٍ آخر- من تحدّي الولايات المتحدة، ما يُلغي الحاجة إلى تطبيق تلك الضمانات.
هل تسمح واشنطن باستقلال أوروبي؟
ويقول الموقع، يُمكن القول إننا تأخرنا كثيراً في وضع استراتيجية أمريكية جديدة. إذ يجب أن يتمحور هدفنا الفوري حول إحباط محاولة روسيا لإعادة احتلال أوكرانيا، وهو هدف قابل للتحقيق دون مشاركة أوسع من الناتو في الحرب، بدلاً من محاولة طرد القوات الروسية من دونباس والقرم -التي تُمثل هدفاً غير قابل للتحقيق.
ويجب أن نُقرن هذا الدعم الدفاعي بهجومٍ دبلوماسي يُحفز موسكو على إنهاء القتال، بدلاً من أن تطيله لمنع إعادة إعمار أوكرانيا وعرقلة عضويتها في الناتو. كما يجب علينا إعادة الناتو إلى غرضه الدفاعي الأصلي، بدلاً من مواصلة زيادة قائمة دول الناتو، وتولي مهامٍ جديدة خارج المنطقة. فضلاً عن ضرورة زيادة دور أوروبا في تسليح وقيادة التحالف، ودعم استقلالٍ أوروبي أكبر في العالم، ما سيؤدي إلى تقليل مخاطر وأعباء الولايات المتحدة في التعامل مع روسيا والصين.
ولم نشهد تحولاً كهذا في فيلنيوس. وربما أدى التمرد الفاشل لمرتزقة فاغنر الشهر الماضي إلى إحياء الآمال في واشنطن، بأن روسيا قد تنفجر داخلياً، وتخسر الحرب في أوكرانيا، وتُمكِّن الولايات المتحدة من تجنّب المقايضات الصعبة. لكن استراتيجيات الأمم تتحقق بالعمل لا بالأمل كما يقولون.