تُعَدُّ الحروب الكبيرة كارثةً على الشعوب والدول التي تخوضها. إذ تُغير طريقة استعداد العالم للنزاعات، كما أن لها تداعياتها الوخيمة على الأمن العالمي.
بينما تُعَدُّ الحرب الأوكرانية أكبر حرب داخل القارة الأوروبية منذ عام 1945، لهذا ستشكل طريقة فهمنا للمعارك القتالية على مدار العقود المقبلة. حيث حطّمت هذه الحرب كل الأوهام التي تقول إن الصراعات المعاصرة يمكن أن تقتصر على حملات مكافحة التمرد، أو أن تتطور لتصبح صراعات منخفضة الضحايا في الفضاء السيبراني.
بل تبشر في المقابل بظهور شكلٍ جديد من أشكال الحرب عالية الكثافة كما يقول تقرير لمجلة The Economist البريطانية، والتي تمزج بين أحدث التقنيات والقتل واستهلاك الذخيرة على نطاقٍ صناعي، بينما تجذب في رحاها المدنيين والحلفاء والشركات الخاصة.
كيف تستعد الدول لحقبة جديدة من الحروب؟
تقول الإيكونومست، إنه لا شك في أن الأنظمة الاستبدادية تدرس اليوم كيفية التمتع بأفضلية في أي صراع مقبل. ويجب على المجتمعات الليبرالية أن تُقر بأن الحروب بين الاقتصادات الصناعية أصبحت احتمالية أكثر من واقعية، ثم تبدأ في الإعداد لها، لا أن تكتفي بالنفور من الموت والخراب.
وأضافت أن ساحة القتال في أوكرانيا تحمل لنا ثلاثة دروس مستفادة كبيرة. وأولها أن ساحة المعركة أصبحت تتمتع بالشفافية. ولا نتحدث هنا عن المناظير أو الخرائط، بل نتحدث عن مستشعرات الأقمار الصناعية وأساطيل الطائرات المسيرة التي ترى كل شيء.
إذ تُعَدُّ تلك الأدوات رخيصة وواسعة الانتشار، كما تُنتج بيانات قابلة للمعالجة بواسطة الخوارزميات دائمة التطور التي تستطيع رصد الإبرة داخل كومة قش: سواء كنا نتحدث عن تعقُّب إشارة هاتف جنرال روسي أو رصد ملامح دبابة مموهة. ويُمكن بعدها نقل تلك المعلومات عبر الأقمار الصناعية حتى تصل إلى أقل الجنود رتبةً على الجبهة، أو حتى يتم استخدامها في توجيه المدفعية والصواريخ بدقة ومدى غير مسبوقَين.
ويُمكن القول إن ميزة الشفافية المفرطة هذه تعني أن حروب المستقبل ستعتمد على الاستطلاع. وستتمثل الأولوية في رصد العدو أولاً قبل أن يرصدك حتى تتمكن من تعتيم مستشعراته سواء على الطائرات المسيرة أو الأقمار الصناعية، وتعطيل وسائل إرسال العدو للبيانات بطول ساحة المعركة من خلال الهجمات السيبرانية أو الحرب الإلكترونية أو المتفجرات قديمة الطراز.
كما سيتعين على الجنود تطوير أساليب قتال جديدة تعتمد على الحركية والانتشار والتمويه والخداع. ومن المؤكد أن الجيوش الكبيرة التي لا تستثمر في تقنيات جديدة، أو تضع مذاهب حرب جديدة، ستخسر في مواجهة الجيوش الأصغر التي تفعل ذلك.
جيوش من الروبوتات
أما الدرس الثاني فهو أن الحرب قد تظل معتمدةً على الحشود المادية المهولة التي تضم مئات الآلاف من البشر وملايين الآلات والذخائر، حتى في عصر الذكاء الاصطناعي. إذ كانت الخسائر فادحةً في أوكرانيا، لأن القدرة على رؤية الأهداف وضربها بدقة ترفع حصيلة الوفيات.
ومن أجل التكيف مع هذا الوضع، انتقل الجنود من جبال الوحل إلى حفر خنادق تُذكّرنا بمعركتي فردان وباشنديل. كما يجري استهلاك الذخائر والمعدات بمعدلٍ مذهل. حيث أطلقت روسيا 10 ملايين قذيفة في عامٍ واحد، بينما تخسر أوكرانيا 10.000 طائرة مسيرة شهرياً. وتطلب أوكرانيا من حلفائها اليوم تزويدها بالقنابل العنقودية قديمة الطراز؛ لمساعدتها في هجومها المضاد.
ومن المحتمل أن تغير التقنية في النهاية من طريقة تلبيتنا لمتطلبات "الحشود" المادية، وطريقة الحفاظ عليها. ففي الـ30 من يونيو/حزيران، تنبّأ رئيس الأركان الأمريكي، الجنرال مارك ميلي، بأن الروبوتات ستمثل ثلث قوام القوات المسلحة المتطورة في غضون 10-15 عاماً، ونتحدث هنا عن قوات جوية دون طيار ودبابات من دون طاقم.
لكن ما زال يجب على الجيوش أن تحارب خلال العقد الجاري إضافة إلى العقد المقبل أيضاً، مما يعني تجديد مخزون الأسلحة استعداداً لمعدلات الاستنزاف المرتفعة، وبناء قدرةٍ لتصنيع الأجهزة على نطاقٍ أكبر بكثير، وضمان امتلاك الجيوش لقوات احتياط بشرية.
حدود الحروب ستكون مفتوحة
ويشير الدرس الثالث إلى أن حدود الحرب الكبرى واسعة وغير واضحة المعالم، وهو درس انطبق على كثير من حروب القرن الـ20. إذ خاض الغرب صراعات أفغانستان والعراق بواسطة جيوش محترفة صغيرة، وبأعباء خفيفة على المدنيين في أرض الوطن (رغم أنها حملت كثيراً من الشقاء للسكان المحليين عادةً).
بينما سحبت الحرب في أوكرانيا المدنيين لتُحولهم إلى ضحايا، مع وفاة أكثر من 9000 مدني. لكن الحرب الأوكرانية حولت المدنيين إلى مشاركين أيضاً، وأصبح بمقدور جدة ريفية أن تساعد في توجيه نيران المدفعية عبر تطبيق للهاتف الذكي مثلاً. وخارج حدود المجمع الصناعي الدفاعي القديم، ظهرت مجموعة جديدة من الشركات الخاصة التي أثبتت أهميتها الحاسمة.
وسنجد أن الخوادم السحابية لشركات التقنية الكبرى تستضيف برامج ساحة المعركة الأوكرانية في الخارج. حيث توفر الشركات الفنلندية بيانات الاستهداف، بينما تزودهم الشركات الأمريكية باتصالات الأقمار الصناعية. وقد ساعدت شبكة من الحلفاء -بدرجات التزام مختلفة- في تزويد أوكرانيا بالإمدادات، وتعزيز العقوبات المفروضة، وحظر التجارة مع روسيا.
لكن الحدود الجديدة تخلق مشكلات جديدة. ومن المؤكد أن المشاركة المتزايدة من المدنيين تثير تساؤلات قانونية وأخلاقية. وربما تُصبح الشركات الخاصة الواقعة خارج منطقة الصراع الفعلية عرضةً لهجوم افتراضي أو مسلح. لذا يجب على الحكومات ضمان عدم تحوُّل أي شركة إلى نقطة فشل بالتزامن مع انخراط شركات جديدة في الحرب.
وتختلف كل حربٍ عن الأخرى بكل تأكيد. إذ ربما تجري أحداث القتال بين الهند والصين فوق أعلى قمة في العالم. بينما قد يشهد الاشتباك الصيني الأمريكي بسبب تايوان قدراً أكبر من القوة الجوية والبحرية، والصواريخ بعيدة المدى، وتعطيل التجارة.
التصعيد النووي سيكون حاضراً
ومن المحتمل أن يكون التهديد المتبادل باستخدام الأسلحة النووية سبباً في كبح التصعيد داخل أوكرانيا. حيث لم يشتبك حلف الناتو بصورةٍ مباشرة مع عدوه المسلح نووياً، بينما ظلت تهديدات روسيا مجرد تهديدات حتى الآن. لكن المعركة من أجل تايوان قد تغري أمريكا والصين بمهاجمة بعضهما البعض في الفضاء، ما قد يؤدي إلى تصعيد نووي، خاصةً في حال تعطيل الأقمار الصناعية الخاصة بأنظمة الإنذار المبكر والقيادة والتحكم.
بالنسبة للمجتمعات الليبرالية، فإن الإغراء هو التراجع عن الأهوال في أوكرانيا، وعن التكلفة الباهظة والجهود المبذولة لتحديث قواتها المسلحة. ومع ذلك، لا يمكنهم افتراض أن مثل هذا الصراع، بين الاقتصادات الصناعية الكبيرة، سيكون عارضاً لمرةٍ واحدة. قد تشكل روسيا غير المستقرة تهديداً للغرب لعقود قادمة. ويُعد النفوذ العسكري الصيني المتزايد عاملاً مزعزعاً للاستقرار في آسيا، وقد يؤدي عودة ظهور الاستبداد عالمياً إلى زيادة احتمالية نشوب النزاعات، كما تقول "الإيكونومست".
في النهاية، إن الجيوش التي لا تتعلم دروس النوع الجديد من الحرب الكبرى الجارية في أوكرانيا تخاطر بالخسارة أمام تلك التي تتعلم هذه الدروس.