تتواصل احتجاجات فرنسا التي أثارها مقتل المراهق الفرنسي من أصول جزائرية "نائل" برصاص أحد أفراد الشرطة، فإلى أين تتجه مواجهة "العنصرية" هذه المرة؟
كان "نائل"، الذي يبلغ من العمر 17 عاماً فقط، قد تعرّض للقتل، يوم 27 يونيو/حزيران 2023، برصاص عنصر شرطة بمدينة نانتير (بالضاحية الغربية لباريس) على خلفية عدم امتثال الضحية لتعليمات دورية مرورية بالتوقف.
وتسببت الجريمة في اندلاع احتجاجات غاضبة عمّت أنحاء فرنسا، ولا تزال مستمرة، بينما عقدت الحكومة الفرنسية اجتماعاً طارئاً لدراسة خيارات التعامل مع الأزمة وقطع الرئيس إيمانويل ماكرون زيارته لبروكسيل لحضور قمة الاتحاد الأوروبي وعاد إلى باريس الجمعة، 30 يونيو/حزيران لدراسة الموقف.
كيف راح "نائل" ضحية لعنصرية الشرطة؟
كان نائل طفلاً وحيداً لوالدته، وكان يعمل في توصيل طلبات البيتزا، إلى جانب ممارسة رياضة الرُغبي، وكان اسمه مدرجاً ضمن قوائم كُلية في سوريسن غير بعيدة من محل إقامته، حيث كان سيتلقى تدريباً ليصبح فنّي كهرباء، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، ويقول الذين عرفوا نائل إنه كان محبوباً في نانتير.
أعطى "نائل" قُبلة كبيرة لوالدته قبل ذهابها إلى العمل، مودعاً إياها بعبارة "أحبك يا أمي"، لكن لم تكد دقات الساعة تعلن تمام التاسعة صباحاً حتى لقي "نائل" مصرعه برصاص في صدره أطلقه عليه شرطي من مسافة قريبة، بينما كان يقود سيارة مرسيدس في نقطة تفتيش مرورية.
تتساءل أمه قائلة: "ماذا أنا فاعلة الآن؟ لقد كرّست حياتي كلها له. لم أُرزق بغيره. ليس لديّ 10 من الأبناء. لقد كان حياتي وصديقي المفضّل"، وقالت عنه جدّته لوالدته إنه كان "ولداً طيباً وعطوفاً".
أما زعيم الحزب الاشتراكي في فرنسا، أوليفييه فور، فقد قال: "رفْض التوقف لا يعطيك رخصة لكي تقتل. كل أبناء الجمهورية لهم حق في العدالة".
وتسبب مقتل نائل، على مدار 3 ليالي، في خروج المتظاهرين إلى شوارع عدة مدن فرنسية، كما تعرّضت المئات من أقسام الشرطة والمباني الحكومية إلى الحرق من جانب المحتجين.
وأعربت والدة الفتى الفرنسي الخميس عن اعتقادها أن الحادث له دوافع عنصرية، وقالت لقناة "فرانس 5" في أول مقابلة إعلامية معها منذ إطلاق النار: "أنا لا ألوم الشرطة، أنا ألوم شخصاً واحداً: الشخص الذي قتل ابني. لدي أصدقاء شرطيون. إنهم يدعمونني تماماً… لا يتفقون مع ما حدث"، واعتبرت أن الشرطي "رأى وجهاً عربياً، طفلاً صغيراً، وأراد أن يقتله".
وتواصلت المناوشات بين الشرطة والمحتجين في نانتير خلال تظاهرة خرجت ظهر الخميس، تأبيناً لذكرى الضحية، وبحسب الصحف الفرنسية، أطلق المحتجون مفرقعات نارية على مخفر للشرطة في المنطقة 12 بالعاصمة باريس. كما شهدت ضاحية أوبارفيلييه بباريس إحراق 12 حافلة، فيما أقدم آخرون على سرقة مخفر للشرطة بمدينة ريمس. وفي مدينة ليل، تعرّض قسم من مبنى بلدية منطقة وازيمس للاحتراق، فضلاً عن إضرام النار في مركز استعلامات في ضاحية روبيه بالمدينة.
الحكومة الفرنسية قالت، الجمعة، إنها ستدرس "كل الخيارات" لاستعادة النظام بعدما تصاعدت الاضطرابات على مستوى البلاد الليلة الماضية، وتخللها أسوأ أحداث شغب منذ أن أطلقت الشرطة النار على "نائل" وقتلته.
وصرّحت السلطات الفرنسية بأن المئات من رجال الشرطة أصيبوا، واعتُقل المئات خلال اشتباكات بين من وصفتهم بأنهم "مثيرو الشغب" ورجال الشرطة في بلدات ومدن بأنحاء فرنسا تخللها إضرام النيران في مبانٍ ومركبات ونهب متاجر.
وكتب وزير الداخلية، جيرالد دارمانان، على تويتر يقول، الجمعة، إن الشرطة ألقت القبض على ما لا يقل عن 667 شخصاً. ونشر دارمانان 40 ألف شرطي في محاولة لإخماد الاضطرابات. وذكرت السلطات أن 249 شرطياً على مستوى البلاد أُصيبوا في الاشتباكات. وقال دارمانان إن مثيري الشغب هاجموا 79 قسم شرطة و119 مبنى حكومياً، من بينها 34 دار بلدية و28 مدرسة.
ماذا يقول ماكرون وحكومته؟
وصل ماكرون الجمعة إلى باريس قادماً من بروكسيل، بعدما أنهى مشاركته في قمة الاتحاد الأوروبي مبكراً حتى يتمكن من حضور ثاني اجتماع طارئ للحكومة خلال يومين. وكتبت رئيسة الوزراء، إليزابيت بورن، في تغريدة على تويتر تقول إن الحكومة ستدرس "كل الخيارات" لاستعادة النظام، ووصفت العنف بأنه "غير مقبول ولا يمكن تبريره".
وقالت في وقت لاحق للصحفيين، خلال زيارة لإحدى ضواحي باريس "الأولوية هي ضمان الوحدة الوطنية، وطريقة (ضمانها) هي استعادة النظام".
وفي كلمة ألقاها خلال اجتماع أزمة لحكومته، أعلن ماكرون نشر تعزيزات إضافية للسيطرة على الاحتجاجات التي تشهدها البلاد، حسب موقع "فرانس 24" المحلي، داعياً منصات التواصل الاجتماعي إلى حذف مشاهد الشغب "الحساسة".
كان ماكرون قد استبعد فرض حالة الطوارئ في البلاد، ووجه انتقادات لمن قال إنهم "يستغلون الحادث"، دون أن يوضح من أو ماذا يقصد بتصريحاته.
وكانت مقاطع مصورة ليلاً انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي قد أظهرت اشتعال النيران في حدائق بالمدن في جميع أنحاء البلاد، وفي ترام بمدينة ليون بشرق البلاد، وفي 12 حافلة داخل مرأب في أوبيرفيلييه بشمال باريس، وقالت شركة سوليديو المسؤولة عن أعمال البنية التحتية لأولمبياد باريس 2024 الجمعة، إن واجهة مركز تدريبات الألعاب المائية تعرّضت لأضرار بسيطة خلال أعمال الشغب التي اجتاحت البلاد.
وفي نانتير على المشارف الغربية للعاصمة باريس، أضرم محتجون النار في سيارات وأغلقوا الشوارع وألقوا مقذوفات على الشرطة، بعد وقفة احتجاجية سلمية في وقت سابق لتأبين "نائل"، وقالت شرطة باريس إنه جرى اقتحام متجر لبيع الأحذية تابع لشركة نايكي في وسط باريس، وإنها ألقت القبض على عدة أشخاص بعد تحطيم نوافذ متجر في شارع رو دي ريفولي.
وصرح وزير النقل كليمان بون لمحطة (آر.إم.سي) الإذاعية بأنه لا يستبعد إغلاق شبكة المواصلات العامة في العاصمة. وقال مصدر لرويترز إن العديد من المتاجر تعرّضت للنهب في جميع أنحاء البلاد.
وذكرت وسائل إعلام فرنسية، بناءً على معلومات من وزارة الداخلية أن عدد الموقوفين خلال الاحتجاجات قد ارتفع إلى 875 شخصاً، ولا يبدو حتى الآن وجود مؤشرات على كيف يمكن أن تنتهي هذه الموجة من الاحتجاجات وأعمال الشغب، في ظل إصرار الحكومة على التعامل الأمني مع الحادث دون التعامل مع أسبابه الحقيقية التي تبدو واضحة للجميع في الداخل والخارج.
هل تتحرك فرنسا لمكافحة العنصرية هذه المرة؟
ما تشهده فرنسا حالياً بسبب مقتل "نائل" يعيد إلى أذهان الكثيرين في فرنسا وخارجها أحداثاً مماثلة شهدتها البلاد في عام 2005، عندما تعرّض مراهقان (زياد بينا 17 عاماً، وبونا تراوري 15 عاماً) للصعق بالكهرباء في أثناء محاولتهما الهرب من الشرطة بعد نهاية مباراة كرة قدم، حيث لجأ المراهقان إلى محطة كهرباء فرعية في ضاحية كليشي سو بوا بباريس.
وبعد مقتل "نائل"، قال مراهق فرنسي يُدعى محمد من ضاحية كليشي لموقع ميديابارت الفرنسي: "كان يمكن أن أكون أنا، أو أخي الصغير، الضحية".
وفي هذا السياق، أعربت الأمم المتحدة، الجمعة، عن قلقها إزاء مقتل "نائل" على يد الشرطة الفرنسية، وحثت حكومة البلاد على معالجة "قضايا العنصرية العميقة" في أجهزة إنفاذ القانون.
وقالت رافينا شامداساني، الناطقة باسم مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في مؤتمر صحفي عقدته بمدينة جنيف السويسرية: "حان الوقت لفرنسا للتعامل بجدية مع قضايا العنصرية العميقة والتمييز في أجهزة إنفاذ القانون". وأضافت أنه "يجب فتح تحقيق في أسرع وقت بجميع مزاعم استخدام القوة المفرطة خلال الاحتجاجات في فرنسا".
وشددت المسؤولة الأممية على أهمية التجمع السلمي على خلفية مقتل الشاب، كما دعت السلطات الفرنسية إلى ضمان أن استخدام القوة من قبل الشرطة "يحترم دائماً مبادئ الشرعية والضرورة والتناسب وعدم التمييز والمساءلة".
جماعات حقوقية كثيرة، داخل فرنسا وخارجها، تؤكد وجود "عنصرية ممنهجة" داخل أجهزة إنفاذ القانون في فرنسا، لكن الرئيس ماكرون ينفي ذلك، علماً بأن الحكومة الفرنسية كانت قد تعهّدت في عام 2020 "بعدم التهاون" مع العنصرية داخل أجهزة إنفاذ القانون.
والملاحظ في الأزمة الحالية هو التغيير الواضح في تصريحات وأداء ماكرون نفسه، من التنديد بجريمة مقتل "نائل" واعتبارها "جريمة لا تُغتفر، ولا يمكن تبريرها" في الساعات الأولى بعد وقوعها، إلى اعتبار الاحتجاجات "استغلال سياسي" للأزمة، ثم التركيز على "التنديد بأعمال العنف" واتخاذ موقف "صارم" لمواجهتها.
ويشير هذا التحول إلى النهج الذي تسير عليه الحكومة الفرنسية والرئيس ماكرون في التعامل مع جريمة مقتل "نائل"، وهو ما يراه كثير من المحللين قفزاً على السبب الحقيقي وراء تكرار تلك الجرائم، وهو العنصرية المتجذرة في تعامل الكثير من أفراد الشرطة الفرنسية مع المواطنين، وهو التعامل الذي يقوم بالأساس على اللون أو العرق.
جان لوك ميلنشون، زعيم حزب "فرنسا الأبية" وجّه انتقادات لاذعة لما وصفه بأنه "التصعيد الأمني" للحكومة، في إشارة إلى الوسائل الكبيرة التي اعتمدتها لإخماد أعمال الشغب، وقال ميلنشون إن "التصعيد الأمني يؤدي إلى الكارثة"، بحسب تقرير لموقع فرانس 24 الفرنسي.
خالد الغرابلي، المحلل السياسي في قناة فرانس 24، يرى أن أحد الأسباب وراء التصعيد الخطير الذي يشهده الموقف الحالي في فرنسا هو "عدم ثقة الشباب الغاضبين في تصريحات الحكومة"، مضيفا أن ما يعيشه "هؤلاء المراهقون والشباب على أرض الواقع يختلف تماما عن تصريحات ماكرون والحكومة".
وقارن الغرابلي بين ما حدث عام 2005 وما يحدث اليوم في 2023 موضحاً أن "الوضع اليوم أسوأ فيما يتعلق بالعلاقة بين الشرطة وأبناء الضواحي، حيث راح شاب عمره 17 عاماً ضحية لرصاص الشرطة"، مشيراً إلى أن التصريحات الأولى الصادرة عن المسؤولين سعت إلى "تبرئة الشرطي" لولا أن الواقعة كانت موثقة بالفيديو.
كانت الحكومة الفرنسية قد أدخلت، عام 2017، تعديلات على قانون المرور يسمح لرجال شرطة المرور بإطلاق النار. ومقتل "نائل" يعد ثالث حالة قتل على يد الشرطة خلال العام الجاري في حوادث توقيف مروري، بينما شهد عام 2022 حوالي 13 حالة قتل من هذا النوع، ومعظم ضحايا هذه الحوادث كانوا من أصول عربية أو سوداء.
الخلاصة هنا هي أن العنصرية في تعامل الشرطة الفرنسية مع المواطنين على أساس اللون والعرق هي السبب وراء ما تشهده فرنسا من احتجاجات غاضبة وأعمال شغب وحرق منشآت، لكن يبدو أن ماكرون وحكومته قرروا التعامل مع الموقف "أمنياً" عوضاً عن السعي إلى معالجة جذور المشكلة كما تطالب المنظمات الحقوقية.