قبلات وأحضان تلقاها أعضاء شركة المرتزقة فاغنر في شوارع مدن روسية من مواطنين روس ظهرت في فيديوهات خلال عملية إنهائهم لتمردهم على بوتين، ولم تكن هذه المشاهد دليلاً فقط على استياء محتمل من التورط الروسي في أوكرانيا، بل كانت أحد تجليات نجاح الحرب الإعلامية التي شنتها فاغنر على الحكومة الروسية عبر أساليب جُربت من قبل ضد أمريكا وفي إفريقيا.
كان يفغيني بريغوجين، متعهِّد الكرملين الذي تحوَّل إلى أمير حرب للمرتزقة ثُمَّ إلى متمرد، قد أنشأ إمبراطورية مربحة تتدخَّل في السياسة وأزمات البلدان حول العالم قبل فترة طويلة من إغراقه روسيا في أزمتها السياسية الأكبر منذ ثلاثة عقود، وكانت حروب الإعلام والمعلومات جزءاً من أنشطتها، حسبما ورد في تقرير لموقع The Intercept الأمريكي.
عمل فاغنر لا يقتصر على الحروب بل التضليل والاختراق الإعلامي واستطاعت الهيمنة على سردية الأزمة
ولا تضم شركات بريغوجين المترامية مجموعة فاغنر للمرتزقة فقط، والتي صارت اسماً مألوفاً حين انضمت إلى القوات الروسية في أوكرانيا –قبل شن تمرد مسلح ضد موسكو الأسبوع الماضي- بل تضم أيضاً جيشاً إلكترونياً يخوض حروباً معلوماتية من السودان وحتى الولايات المتحدة، حيث لا يزال بريغوجين خاضعاً للائحة اتهام فيدرالية بسبب تدخُّله المزعوم في انتخابات الرئاسة لعام 2016.
قال رافائيل بارينز، الزميل في برنامج أوراسيا التابع لمعهد أبحاث السياسة الخارجية، والذي أجرى لفترة طويلة أبحاثاً حول بريغوجين وفاغنر، لموقع The Intercept الأمريكي: "مثَّلت حصة المعلومات المضللة جزءاً ضخماً من سرديته". وأضاف أنَّ التأثير على الخطاب العام يُعَد واحدة من "أهم أدوات" فاغنر.
بريغوجين استخدم تليغرام، والروس كانوا يتابعونه
جرى تمرد بريغوجين القصير وخطابه المستمر ضد حكومة شريكه المقرب سابقاً، فلاديمير بوتين، على شبكة الإنترنت بقدر ما جرى على أرض الواقع، إذ نجح في استغلال خدمة التراسل "تليغرام" من أجل التواصل مع الجمهور. وردَّد الدور البارز لمنصات التواصل الاجتماعي في التمرد أصداء معارك بريغوجين السابقة على الإنترنت، حيث غالباً ما كان يستغل وجود فراغ متعلِّق بالمعلومات الموثوقة من أجل السعي للسيطرة على السردية، أو كان يعمل بنشاط من أجل زرع بذور الشك والفوضى بشأن ما كان يجري.
وعلى مدار نهاية الأسبوع الماضي، فيما سارعت وكالات الاستخبارات وفئات الخبراء لتحليل التطورات سريعة التغيُّر، كان بريغوجين نفسه مصدراً للمعلومات البسيطة حول محاولة الانقلاب، التي قال إنَّها لم تكن اتقلاباً بل "مسيرة للعدالة".
أطلق بريغوجين تمرده قصير الأمد ضد الحكومة الروسية في سلسلة من المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي يوم الجمعة، 23 يونيو/حزيران، اتهم فيها وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، بإصدار الأمر بشن غارات جوية مميتة على مرتزقة فاغنر. وطعن أيضاً في رواية بوتين الرسمية حول شن غزو شامل لأوكرانيا العام الماضي، وهو عمل يمثل تحدياً كبيراً في صراعٍ يشارك فيه بريغوجين وقواته بصورة نشطة.
فقال بريغوجين في فيديو نُشِرَ على موقع تليغرام: "لم يكن هناك شيء استثنائي يحدث عشية 24 فبراير/شباط. تحاول وزارة الدفاع خداع الجمهور والرئيس، ونسج قصة تفيد بأنَّه كانت هناك مستويات جنونية من العدوان من الجانب الأوكراني، وأنَّهم كانوا سيهاجموننا جنباً إلى جنب مع تكتل الناتو بأكمله".
وعلى مدار الـ36 ساعة التالية، ظلَّ بريغوجين ينشر منشورات على الإنترنت. ونشرت قنوات تليغرام التي غالباً ما تنشر المحتوى المرتبط بمجموعة فاغنر مقاطع فيديو لرجال فاغنر الذين سيطروا على مدينة روستوف أون دون جنوبي روسيا، وهي مركز عسكري رئيسي قرب الحدود الأوكرانية. وفي يوم السبت، 24 يونيو/حزيران، عاد بريغوجين برجاله وهو على مسافة نحو 120 ميلاً (193 كم تقريباً) خارج موسكو بعد التوصل إلى اتفاق مع بوتين توسَّط فيه الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو.
المعلومات الموثوقة خلال الأزمة كانت نادرة
وبالنسبة لحادث ينطوي على إمكانية لإنتاج تداعيات عالمية هائلة، ظلَّت المعلومات الدقيقة الموثوقة بعيدة المنال إلى حد كبير حتى بعد أيام من تراجع قوات بريغوجين. ويعود هذا جزئياً إلى سيطرة الحكومة الروسية الشديدة على وسائل الإعلام، وأُجبِرَت وسائل الإعلام المستقلة على الإغلاق أو الانتقال للخارج منذ غزو العام الماضي، ولا تزال وسائل الإعلام الأجنبية في البلاد تعمل في ظروف بالغة الصعوبة. وفي غضون ساعات من بدء الانتفاضة، بدأ مُزوِّدو خدمة الإنترنت الروس بمنع الوصول إلى أخبار جوجل، في حين سارع المتابعون خارج روسيا للتأكُّد مما إن كانت التقارير ومقاطع الفيديو التي تظهر على منصات التواصل الاجتماعي حقيقية أم لا.
وفي نهاية المطاف، تحدث المسؤولون الروس علناً، فخاطب بوتين الشعب يوم السبت ثُمَّ خاطبهم مجدداً يوم الإثنين. وبحلول هذه المرحلة، كانت رسالة بريغوجين قد انتشرت بالفعل في أرجاء روسيا، حيث كان الناس يلجأون بصورة متزايدة إلى تليغرام سعياً للحصول على معلومات بديلة بدل تلك التي تأتي من مصادر التلفزيون الرسمي، وإن كانت بالكاد أكثر موثوقية.
قال بارينز، متحدثاً عن مشهد الإعلام الروسي الذي تقلَّص خلال حكم بوتين، وكذلك عن ظاهرة ليست فريدة بالنسبة لروسيا، وهي تصاعد المعلومات المضللة: "لقد أصاب (بوتين) نوعاً ما هذا المجال الذي تآكل على مدار الـ10 أو الـ15 عاماً الأخيرة".
من مجرم إلى ذراع بوتين للعمل في الخارج
وُلِدَ بريغوجين عام 1961 في مدينة لينينغراد –وهي اليوم مدينة سانت بطرسبورغ- وحُكِمَ عليه سابقاً بالسجن 13 عاماً في مستعمرة عقابية عقب إدانته باتهامات تتراوح من السرقة المسلحة إلى الاحتيال إلى "إشراك القُصَّر في نشاط إجرامي"، وذلك بحسب سيرة ذاتية مُسرَّبة نشرها موقع The Intercept الأمريكي في وقتٍ سابق من هذا العام. وبمجرد أن أُطلِقَ سراحه، دشَّن سلسلة مطاعم للوجبات السريعة سرعان ما تنامت لتصبح شركة للإمدادات التموينية تخدم الكرملين، وهو ما أكسب بريغوجين لقب "طباخ بوتين"، ووضعه وجهاً لوجه مع عشرات من قادة الدول.
ومع تزايد اقترابه من بوتين عقب إعادة انتخاب هذا الأخير للرئاسة عام 2012، وسَّع بريغوجين علاقته مع الكرملين من خلال تمويل "وكالة أبحاث الإنترنت"، وهي "مزرعة متصيدين" تقف وراء سلسلة من حملات التضليل على شبكة الإنترنت، بما في ذلك محاولة للتأثير على حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية 2016. وقد أنشأ شركة فاغنر، والتي أصبحت قوة مرتزقة سيئة السمعة ووحشية اتُّهِمَت بارتكاب فظائع واسعة النطاق في أرجاء قارات عدة.
وحتى العام الماضي، 2022، كان بريغوجين ينفي أي تورط له في الأعمال الأكثر ظلامية التي تُعَد أكثر ما يشتهر به اليوم، فكان يقاوم العقوبات الأمريكية والأوروبية ضده بشراسة، وقاضى صحفيين تناولوا علاقاته مع فاغنر. لكنَّه غيَّر مساره فجأة العام الماضي، حيث عزَّزت الحرب في أوكرانيا مكانته ومكانة مرتزقته. ومنذ ذلك الحين، شرع في هجوم إعلامي مكثف، فظهر في مقاطع فيديو تُظهِره وهو يُجنِّد السجناء في السجون الروسية على الأراضي الأوكرانية، إلى جانب عشرات الجثث لمقاتلي فاغنر الذين يُحمِّل انعدام كفاءة القيادة العسكرية الروسية مسؤولية موتهم.
اسمه بات مألوفاً بقدر بوتين، ويميل للدراما والمبالغة ليبقى في دائرة الضوء
وكانت الحملة الخاطفة على وسائل التواصل الاجتماعي قرب توقيت التمرُّد الذي وقع في عطلة نهاية الأسبوع تتويجاً لحملة امتدت أشهراً من جانب بريغوجين للسيطرة على السردية بشأن فاغنر ودورها في أوكرانيا.
فبعدما أصبح اسمه مألوفاً بقدر اسم بوتين على مدار العام الماضي، الأمر الذي أدَّى إلى تكهُّنات بأنَّه ربما يسعى ليحل محله، أصدر بريغوجين العشرات من التصريحات الطنانة في كثير من الأحيان للصحفيين من خلال ذراع العلاقات العامة لشركة الإمدادات التموينية خاصته، وكان في الوقت نفسه يلجأ بصورة متزايدة إلى تليغرام لإطلاق القذائف ضد منافسيه في روسيا.
وتُعَد شخصية بريغوجين على شبكة الإنترنت –ومهارته في جذب الانتباه لنفسه من خلال إصدار تصريحات مُبالِغة بصورة متكررة- نتاجاً للزمن.
فيقول بارينز: "إنَّه يحب أن يكون في دائرة الضوء … فمن أجل جذب الانتباه، ومن أجل الحصول على إعادة تغريد وإعادة نشر وما شابه، يكون عليك الجنوح إلى المبالغة نوعاً ما. إنَّه تأثير وسائل التواصل الاجتماعي… فتكون هنالك فقط حاجة إلى إضفاء الدراما على الأشياء من أجل إظهار وجهة نظرك".
الأمر بدأ مع الانتخابات الأمريكية عام 2016 حيث تباهى بدوره فيها
يعود تمكُّن بريغوجين من إتقان استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لخدمة شركاته وأهدافه السياسية على الأقل إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2016؛ إذ أدانته هيئة محلفين فيدرالية أمريكية كبرى في عام 2018 في واحدة من أبرز الملاحقات القضائية التي نتجت عن تحقيقات المحقق الخاص مولر التي استمرت عامين. واتُّهِمَ بريغوجين بـ"التآمر للتحايل على الولايات المتحدة" إلى جانب 12 شخصاً آخرين، وشركتين يسيطر عليهما، ووكالة أبحاث الإنترنت.
وتباهى بريغوجين العام الماضي، 2022، بمشاركته في هذا التدخُّل. فكتب عبر أحد مُمثِّليه في رسالة بريد إلكتروني إلى موقع The Intercept الأمريكي: "فعلنا الأمر فقط؛ لأنَّ الولايات المتحدة تدخَّلت بفظاظة في الانتخابات الروسية أعوام 1996 و2000 و2008 و2012". وأضاف: "لقد تغلَّب 50 شاباً، نظمتُهم بنفسي، على كامل الحكومة الأمريكية. وسنستمر في فعل ذلك عدد المرات التي يتطلَّبها الأمر". وتبقى الاتهامات بحقه قائمة، ولو أنَّ المحققين أسقطوا التهمة بحق شركتيه في عام 2020.
وهكذا جعل الأفارقة يميلون لروسيا في مناطق تواجد فاغنر
وفي العديد أيضاً من البلدان الإفريقية التي عملت فيها فاغنر مع الحكومات المحلية لسحق حالات التمرد أو المنافسات السياسية –وارتكاب انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان خلال ذلك- انخرطت فاغنر في الحرب المعلوماتية أيضاً. إذ روَّجت فاغنر في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى لصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي وكذلك لمحطات إذاعية محلية تُعزِّز مصالح زبائنها، على سبيل المثال من خلال تعظيم الخطاب ضد الوجود الفرنسي والأممي في هذين البلدين.
وبدا في بعض الأحيان أنَّ الحملات الإعلامية لفاغنر تهدف لتعزيز شركاتها وخلق فرصة لعلاقة رسمية مع حكومات مختلفة. ففي مالي على سبيل المثال، نشرت "مؤسسة حماية القيم الوطنية"، وهي مركز أبحاث روسي خاضع لعقوبات أمريكية لدوره في نشر المعلومات المضللة، استطلاع رأي قبل أن تضع فاغنر اللمسات النهائية على اتفاق مع الحكومة المالية، يدَّعي أنَّه يُظهِر دعماً شعبياً واسعاً بين الماليين لمثل هذا الانخراط من جانب فاغنر. وقام مركز الأبحاث، الذي يترأسه مكسيم شوغالي، وهو مساعد مُقرَّب من بريغوجين، بنشر والترويج لاستطلاعات مماثلة في جمهورية إفريقيا الوسطى.
وبعد ساعات من وقوع انقلاب عسكري في بوركينا فاسو العام الماضي، كانت الحشود المحتفية بالانقلاب تُلوِّح بالأعلام الروسية. وبعد أشهر، أفادت تقارير بدعم قوات فاغنر للمجلس العسكري في البلاد. وفي السودان، قبل الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، كانت فاغنر متورطة أيضاً في حملات تضليل ضد منافسي النظام.