دخلت مصر وتونس وقبلهما لبنان في موجة تحدٍّ لافتة لصندوق النقد الدولي في وقت تعاني فيه اقتصاداتها من تدهور خطير، فهل رفض هذه الدول لشروط صندوق النقد يهدف إلى حماية الفقراء من سياساته المجحفة أم يتسبب في انهيار اقتصادي بهذه الدول، أم يكون هناك مانحون آخرون يقدمون الإنقاذ دون شروط قاسية.
لطالما قال صندوق النقد الدولي إنه لا ينسحب أبداً من طاولة المفاوضات، وإذا احتاج أي بلد إلى الإنقاذ، فالمحادثات معه ليس لها موعد نهائي للانقضاء، بل إنه على استعداد لمواصلة المحادثات قدر ما تستدعي الحاجة. لكن يبدو أن بعض البلدان عازمة على اختبار وفاء الصندوق بهذا الوعد اختباراً عسيراً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Economist البريطانية.
لبنان تخلف عن سداد ديونه، فهل تسير مصر وتونس على ذات الطريق؟
مصر ولبنان وتونس كلها دول في حاجة ماسة إلى المساعدة؛ فهي موطن لما يقرب من ثلث سكان العالم العربي، لكنها محملة بديون ثقيلة، ومعاناة شديدة من وطأة الانخفاض في احتياطي العملات الأجنبية. وقد صارت هذه الدول تكابد صعوبات جمة لاستيراد الاحتياجات الأساسية، وتوفير الدعم اللازم لمساندة عملاتها المتعثرة.
لقد تخلَّف لبنان بالفعل عن سداد ديونه في عام 2020؛ أما الدولتان الأخريان فاضطرتا إلى دفع عوائد عالية على السندات لضعف تصنيفاتها الائتمانية. وفي معرض ذلك، يقول جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط بصندوق النقد الدولي والمرشح لرئاسة لبنان، إن "الاقتصادات الهشة تتعرض لضغوط دفعت بها إلى شفا أزمة العجز عن سداد الديون".
طالبت الدول الثلاث بالحصول على قروض من صندوق النقد الدولي، وكانت الغاية من ذلك زيادة الاحتياطي المالي وطمأنة المستثمرين الأجانب. لكن بعد سنوات من المحادثات مع الصندوق، أخذت تلك الدول تتباطأ في مساعي الاتفاق. ويدل هذا التعثر على كثير من أوجه الخلل في اقتصاد الدول العربية المستوردة للنفط، ولكنه يكشف أيضاً عن مشكلات كامنة في برامج صندوق النقد الدولي الموجهة إلى المنطقة.
توصلت مصر في ديسمبر/كانون الأول 2022 إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي يقضي بحصولها على 3 مليارات دولار على مدى 4 سنوات. وكان الاحتياطي الأجنبي لمصر قد تراجع منذ عام 2019، من 44 مليار دولار إلى 35 مليار دولار؛ وارتفع الدين العام من 80% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 93% في توقعات هذا العام. وقد تفاقمت الأزمة بعد الفزع الذي أصاب المستثمرين في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي دفعهم إلى سحب 22 مليار دولار من الاستثمارات في سندات البلاد إلى الخارج خلال العام الماضي وحده. ومن ثم اضطرت مصر إلى تخفيض قيمة الجنيه 3 مرات منذ بداية عام 2022، وتدنَّت قيمته إلى نصف ما كانت عليه قبل التخفيض.
خلاف مصر وصندوق النقد يتعلق بالموعد المناسب للتعويم
كانت حكومة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تأمل في استعادة الثقة باقتصادها بعد توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. وتعهدت بالتحول إلى سعر مرن لصرف العملة؛ وبيع أصول مملوكة للدولة بمليارات الدولارات. لكن الجنيه لا يزال يبدو مبالغاً في قيمته، لا سيما أنه يُتداول بقيمة ما بين 36 إلى 39 جنيهاً للدولار الواحد في السوق السوداء. وقد بلغ التضخم السنوي أعلى مستوى قياسي له عند 33 % في مايو/أيار، متجاوزاً بكثير معدل الفائدة لدى البنك المركزي (البالغ 18,25%).
تصر الحكومة على أنها يجب أن تبني رصيدها من الاحتياطي النقدي للعملة الصعبة قبل خفض قيمة الجنيه أو رفع أسعار الفائدة مرة أخرى. أما المستثمرون الأجانب فيريدون عكس هذا المسار: فانخفاض أسعار الفائدة الحقيقية عن مستوى التضخم، والإبقاء على قيمة العملة قوية أمام الدولار، يجعلان الاستثمار في شراء ديون مصر وأصولها المملوكة للدولة رهانات خاسرة. ونتيجة لذلك، وصل اقتصاد البلاد وبرنامج صندوق النقد الدولي إلى طريق مسدود. فقد كان من المقرر أن تتم في مارس/آذار المراجعة الأولى للتقدم المُحرز في بنود الإصلاح الاقتصادي الواردة في الاتفاق، وتقديم الشريحة الثانية من الدعم، لكن المراجعة لم تتم وتأجلت إلى إشعار آخر.
أما تونس -التي تبلغ ديونها الحكومية أكثر من 80% من ناتجها المحلي الإجمالي- فقد بدأت محادثاتها مع الصندوق مطلع العام الماضي. وقد انخفضت الاحتياطيات الأجنبية من 9.8 مليار دولار في عام 2020 إلى 6.8 مليار دولار اليوم. وتعاني البلاد نقصاً متكرراً في مخزوناتها من المواد الغذائية الأساسية، مثل الأرز والسكر، وتفتقر مخازن الصيدليات إلى عشرات الأنواع من الأدوية.
من المتوقع أن يظل اقتصاد البلاد مضطرباً حتى نهاية عام 2023 دون الانحدار إلى درجة التخلف عن السداد، إلا أنه الحكومة قد تتعسر في سداد ما يقرب من 2.6 مليار دولار من الديون الخارجية المستحقة خلال العام المقبل. ومع ذلك، فإن قيس سعيِّد، الرئيس السلطوي للبلاد، يرفض تقريباً الاتفاق الذي عرضه عليه صندوق النقد الدولي، وقد وصف بنوده بـ"الإملاءات الأجنبية" غير المقبولة (على الرغم من أنه وافق في البداية على الشروع في المحادثات مع الصندوق).
أما لبنان، الذي توصل إلى اتفاق مبدئي مع الصندوق في أبريل/نيسان الماضي، فقد غرق منذ عام 2019 في إحدى أشد أزماته الاقتصادية وطأة في التاريخ الحديث، بعد "خطة بونزي" [مخطط يوصف بالاحتياليِّ، ويقوم على توليد عوائد مرتفعة للمستثمرين القدامى باجتذاب مستثمرين جدد، وغالباً ما يتعثر عند توقف المستثمرين عن الانضمام، والعجز عن سداد الأرباح] التي استعان بها البنك المركزي قبل سنوات لدعم العملة؛ والبنوك متعسرة؛ وقد فقدت الليرة 98 % من قيمتها؛ وتجاوز معدل التضخم السنوي 100 % على مدار 3 سنوات.
لإتمام الاتفاق، طلب صندوق النقد الدولي من لبنان تنفيذ بعض الإصلاحات اليسيرة: تشمل صياغة خطة لإعادة هيكلة البنوك؛ وإصلاح قانون السرية المصرفية؛ وتوحيد أسعار الصرف التي لا تحصى، لكن الحكومة ما انفكت تتباطأ في تنفيذ هذه الخطوات منذ أكثر من عام.
السيسي لم يُجانبه الصواب حين صرح بخشيته من تعويم جديد
في البلدان الثلاثة نخبُ نفوذٍ قوية تعوِّق التقدم في برامج الاتفاق مع صندوق النقد الدولي؛ فالجيش المصري لا يريد بيع الأصول المربحة والسماح للشركات المدنية بالمنافسة؛ والنقابات العمالية في تونس تدعو بانتظام إلى الإضراب، وترفض مساعي خفض الدعم ومحاولات تقليل فاتورة الأجور؛ والسياسيون والمصرفيون الذين قادوا لبنان إلى أزمته الاقتصادية يرفضون الإقرار بأن القطاع المالي في حالة يرثى لها أو تقديم تنازلات ولو قليلة بشأن سيطرتهم على الحكم أو مفاصل الإدارة في البلاد.
ومع ذلك، فإن السيسي لم يُجانبه الصواب حين صرح بخشيته أن يؤدي تخفيض قيمة العملة مرة أخرى إلى الإضرار بالمصريين، ولا أخطأ سعيِّد لما أبدى مخاوفه من أثر إصلاحات الصندوق في زيادة الفقر. فقد خفضت مصر قيمة العملة، وقللت الدعم، ورفعت الضرائب بعد الاتفاق الذي وقَّعته مع صندوق النقد الدولي في عام 2016 (بلغت قيمته 12 مليار دولار). وقد أدى ذلك إلى ارتفاع مؤلم في معدلات التضخم، والتقشف في مخصصات الخدمات العامة للمواطنين، ومع ذلك كله لم تُعالج المشكلات الأساسية للبلاد. وها هو ذا السيسي مضطر إلى العودة للحصول على قرض آخر من صندوق النقد الدولي قبل أن يفرغ من سداد القرض الأخير.
تعاني هذه البلدان مشكلات اقتصادية عميقة، ومن ثم فإن تدابير التقشف لا تجلب لها إلا فترات قصيرة من الراحة بين الأزمات المتعاقبة. ومن أبرز هذه المشكلات الاعتماد على السياحة والتحويلات من الخارج -وليس الصادرات- ليكونا المصدرين الرئيسيين للعملة الأجنبية؛ وأن حكوماتها تنفق مبالغ طائلة على رواتب القطاع العام، ومن ثم لا يتبقى لها سوى القليل من الأموال التي يمكن تخصيصها للخدمات الاجتماعية أو الاستثمار؛ ويزيد على ذلك تباطؤ النمو الاقتصادي، فالقطاع الخاص غير المنتج للنفط في مصر آخذ في الانكماش منذ 30 شهراً.
ومن ثم، يتطلب إصلاح هذه المشكلات استراتيجية أكبر لتعزيز النمو، لكن هذا الأمر مستبعد ما دامت هذه النخب تتولى الحكم في البلاد، وفي الوقت نفسه فإنه يبدو من المستبعد أن يغادروا مناصبهم عما قريب.
كان من المقرر أن تنعقد الانتخابات الرئاسية في مصر في فبراير/شباط المقبل، ولكن تتردد أنباء عن أن السيسي قد يقدِّم موعدها إلى أواخر عام 2023. ويُقال إن بعض ضباط الجيش ورجال الأعمال الأقوياء ساخطون على سياساته وقد يدعمون منافساً له في الانتخابات، حسب الصحيفة البريطانية.
وقال خبراء إن السيسي يقترب من تدشين حملته الانتخابية وسيكون من الصعب وجود منافسة قوية فيها، وليس من المنطقي الذهاب نحو تحميل المواطنين مزيداً من فواتير الإصلاح الاقتصادي المتعثر مع معدلات التضخم التاريخية التي تشهدها البلاد في الوقت الحالي.
ومع ذلك، لم يعلن أحد عن خطط للترشح، وهو أمر مفهوم في ظل السطوة القاسية لهذا النظام، ويكفي الإشارة هنا إلى أن السلطات اعتقلت قبيل انتخابات الرئاسة الأخيرة، في عام 2018، أبرز الخصوم المحتملين للسيسي في هذه الانتخابات.
وقال مصدر لـ"عربي بوست" إن الحكومة المصرية تراهن على العائدات السياحية خلال النصف الأول من العام الجاري والربع الأول من النصف الثاني، في ظل وجود طفرات كبيرة بأعداد السائحين.
ومن المقرر كذلك أن تنتهي ولاية سعيِّد الرئاسية -البالغة خمس سنوات- في عام 2024. وقد أمضى سعيِّد السنوات المنصرمة في تقويض أسس الديمقراطية الناشئة في تونس، وحلِّ البرلمان، وصياغة دستور جديد لتوسيع سلطاته. ولذلك من المستبعد أن يجري انتخابات نزيهة. أما في لبنان، فإن استمرار السياسات الطائفية يقضي بمواصلة معظم الناخبين اختيار أمراء الحرب أنفسهم والمجرمين الذين أغرقوا البلاد في أزمتها. والبلاد ليس لها رئيس منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقد تصبح بلا رئيس للبنك المركزي بعد أن يغادر رياض سلامة -الذي يتولى الرئاسة منذ سنوات طويلة- منصبه هذا الصيف.
هل يكون هناك بديل لصندوق النقد؟
والخلاصة إذاً أن هذه البلاد ستبقى عالقة في مكانها إلى حين؛ فقد حصلت تونس على بعض القروض من الجزائر، وتلقت مصر مساعدات قليلة من حلفائها في الخليج، وبدأ بعض الزعماء الأوروبيين -المتخوفين من أن تؤدي الأزمة الاقتصادية إلى زيادة معدلات الهجرة- في زيادة الدعم الموجه لتلك البلدان.
وقد عبر نحو 3200 تونسي البحر المتوسط إلى إيطاليا خلال الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام، بزيادة قدرها 154 % عن المدة ذاتها من عام 2022. ومن ثم، تعهدت جورجيا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا، بتقديم 700 مليون يورو (764 مليون دولار) من المساعدات لتونس.
وقد يكون الرئيس المصري يلمح لخيار مماثل وهو المساعدات مقابل وقف الهجرة، خاصة بعد كارثة غرق المصريين في البحر المتوسط والتي كانت تضم أعداداً كبيرة من المصريين، وتلويحه مراراً بورقة استضافة مصر لعدد كبير من اللاجئين.
في الأغلب لن يؤدي ذلك لعلاج لجذور المشكلات في البلاد، ولكنه قد يعد تأجيلاً للتدهور الكبير.