يبدو أن العالم قد دخل حقبة من الحروب شديدة الدموية، تفوق في شراستها حقبة الحرب على الإرهاب.
فوفقاً لدراسة جديدة صدرت الثلاثاء، 27 يونيو/حزيران، لقي أكثر من 238 ألف شخص حتفهم في الصراعات العالمية العام الماضي، 2022، وهو ما يُمثِّل زيادة بواقع 96% على أساس سنوي في الوفيات المرتبطة بالصراعات، أي نحو الضعف.
ويعكس الرقم المذهل، الذي يوجد في مؤشر السلام السنوي الصادر عن "معهد الاقتصاد والسلام"، على وجه الخصوص، تأثير حربين مميتتين للغاية: في إثيوبيا وأوكرانيا، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
حرب أوكرانيا ليست أكثر الحروب دموية
تُقدِّر الدراسة أنَّ الحرب في أوكرانيا أسفرت عن 82 ألف وفاة على الأقل عام 2022، لكن أُبلِغَ عن عدد أكبر من الوفيات في إثيوبيا– أكثر من 104 آلاف- في ذلك الصراع بين الحكومة الوطنية وقوات إقليم تيغراي.
وذكرت الدراسة أنَّ هذا الرقم الأخير يمثل أسوأ عام منفرد للوفيات الناجمة عن الصراعات في بلد واحد منذ الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994.
ووجد التقرير أيضاً أنَّ هنالك زيادة مذهلة في الوفيات الناجمة عن الصراعات في عدد من البلدان، بما في ذلك مالي وميانمار.
الأعداد قد تكون أكبر في الواقع
من المهم الإشارة إلى أنَّ إحصاء الوفيات في أي صراع مَهمةٌ يشوبها عدم الدقة عادة، ولا تكون مُحمَّلة فقط بالصعوبات العملية لجمع البيانات في منطقة حرب، بل أيضاً بالضغوط السياسية من زوايا عديدة. وهنالك مجموعة من التقديرات الأخرى لحصيلات الوفيات في الصراعات الكبرى، والتي تختلف عن تلك الواردة في مؤشر السلام العالمي.
ويستخدم الكثيرون تعريفات ومنهجيات مختلفة، وهو ما يؤدي غالباً إلى تقديرات أعلى أو أقل، فعلى سبيل المثال أعلنت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، في يونيو/حزيران، أنَّها سجَّلت 9038 وفاة بين المدنيين في أوكرانيا منذ بدء الصراع، لكنَّها أشارت إلى أنَّ الحصيلة الحقيقية في الغالب أعلى بكثير من الرقم الذي استطاعت توثيقه بصورة ملائمة.
في غضون ذلك، قدَّر باحثون في جامعة غنت البلجيكية، أنَّ الحرب في تيغراي ربما أدَّت إلى وفاة ما يصل إلى 600 ألف شخص منذ بدأت في عام 2020، ولا يشمل ذلك فقط الوفيات الناجمة بصورة مباشرة عن الصراع، بل أيضاً الناجمة عن مشكلات مرتبطة بالصراع مثل المجاعة وعدم القدرة على الحصول على الرعاية الصحية.
لكن ما يثير القلق بصفة خاصة بشأن هذا الرقم الأخير هو الاتجاه العام، إذ يصدر معهد الاقتصاد والسلام، ومقره مدينة سيدني الأسترالية، مؤشر السلام منذ عام 2009. ووجد المؤشر الذي يُرتِّب البلدان وفق درجة الهدوء والسلام بها، مستويات متزايدة للصراع حول العالم في 13 من آخر 15 عاماً، لكنَّ البيانات بشأن وفيات الصراع تُستقى من "برنامج أوبسالا لبيانات النزاعات"، والذي يعود لفترة أقدم من ذلك بكثير.
الحروب المتعددة الأطراف سمة المرحلة الحالية
يحتوي برنامج تتبُّع البيانات السويدي هذا على بيانات تعود إلى عقود، والتي يُصنِّفها إلى تصنيفات فرعية، من أجل كشف المزيد من التفاصيل. فعلى سبيل المثال ارتفع عدد وفيات الصراعات إلى نحو 800 ألف شخص عام 1994، نتيجة للإبادة الجماعية الرواندية، والتي صُنِّفَت باعتبارها أعمال عنف من جانب واحد.
لكن وفقاً لبيانات برنامج أوبسالا، ما تنامى العام الماضي كان العنف من جانب الدول، مثل ذلك الذي رأيناه في إثيوبيا وأوكرانيا. وهنا تكون حكومة أو أكثر طرفاً مباشراً في صراع بين أطراف متحاربة.
ووفقاً لبيانات البرنامج، ازدادت هذه الأشكال من الوفيات الناجمة عن الصراعات على مستوى الدول بشكل كبير منذ بداية العقد الذي يبدأ عام 2010، ويتبع هذا التسلسل الزمني العدد الكبير للوفيات الذي رأيناه في سوريا، حين قاتلت الحكومة مجموعة من الجماعات الأخرى، وغالباً ما كان المدنيون يعلقون بين الطرفين. ومع تراجع هذا الصراع تدريجياً كان العدد الإجمالي لوفيات الصراع في تراجع.
عنف الإرهاب يبدو أصغر نطاقاً من حروب الدول
وتشير هذه الزيادة في الوفيات في الصراعات على مستوى الدول عام 2022 إلى تغيُّر كبير في الصورة العالمية للعنف، والابتعاد عن عصر الإرهاب وعنف الفاعلين من غير الدول، والذي كان مرعباً بطريقته الخاصة، لكنَّه غالباً ما كان أصغر نطاقاً.
وهنالك بعض النقاط المضيئة في الصورة العالمية؛ إذ حققت بعض البلدان، مثل ليبيا وحتى أفغانستان، تحسُّنات كبيرة، وسجَّلت هذه الأخيرة تراجعاً بواقع 91% في الوفيات المرتبطة بالصراع العام الماضي. وبحسب الدراسة فإنَّ بعض البلدان تستمر في تمتُّعها بالسلام، إذ تحتل أيسلندا المرتبة الأولى لأكثر البلدان سلاماً في العالم منذ بداية المؤشر.
لكنَّ العدد المتزايد لوفيات الصراعات مجرد مؤشر واحد على حقبة جديدة دموية، فعدد البلدان المنخرطة في صراع من نوعٍ ما خارج حدودها ارتفع من 58 في عام 2008 إلى 91 في عام 2022. وأرجع معهد الاقتصاد والسلام هذا جزئياً إلى زيادة التنافس الجيوسياسي، وأنَّ الولايات المتحدة لم تعد الدولة الوحيدة المستعدة لإبراز قوتها بعيداً خارج منطقتها، فروسيا والصين، بل وحتى القوى الأصغر مثل تركيا والسعودية وإيران، كلها جزء من هذا الاتجاه.
وقد انتهى الصراع في إقليم تيغراي الإثيوبي رسمياً، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بعد عامين طويلين من القتال، لكنَّ اتفاق السلام الذي أنهى الصراع هش، وهناك صراعات أخرى قائمة، بما في ذلك تمرد طويل الأمد في إقليم أوروميا المترامي. وأدَّت السرقات الهائلة من جانب الحكومة وحلفائها إلى تعليق الأمم المتحدة إيصال مساعدات الغذائية إلى البلاد، بالرغم من احتياجات ملايين الجوعى في البلاد.
ولا تزال أوكرانيا تشهد قتالاً وهجمات مستمرة على المباني المدنية، بما في ذلك ضربة مؤخراً لمطعم بيتزا شهير، بارتياد الصحفيين والعاملين في مجال الإغاثة له، مُخلِّفةً 11 قتيلاً على الأقل. وبينما يستمر الهجوم المضاد الأوكراني، وكانت روسيا قريبة على نحوٍ مقلق من الدخول في حرب مع نفسها بسبب تمرد فاغنر.
وشهد هذا العام بالفعل صراعاً جديداً- يتمثَّل في الحرب الأهلية الجديدة في السودان، والتي بدأت في أبريل/نيسان وتسبَّبت بالفعل فيما يُقدَّر بثلاثة آلاف قتيل وفقاً للأمم المتحدة– وهو ما يشير إلى أنَّ الوفيات العالمية الناجمة عن الصراعات ربما تستمر في الزيادة أكثر.