قصص مرعبة يرويها الفارون من الحرب في السودان.. هل وصلت الأمور إلى “التطهير العرقي”؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2023/06/28 الساعة 09:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/06/28 الساعة 09:51 بتوقيت غرينتش
نازحون سودانيون يتلقون مساعدات إنسانية/رويترز

تستمر الحرب في السودان دون هوادة، في ظل الصراع الصفري بين الجيش و"الدعم السريع"، فهل تحولت الاشتباكات في دارفور إلى "تطهير عرقي" بالفعل؟

نشرت صحيفة The Times البريطانية تقريراً عنوانه "فررنا من التطهير العرقي في الحرب الأهلية السودانية"، يرصد قصصاً مرعبة يرويها الفارون من الصراع الدامي.

إذ كان السودان قد شهد، منذ يوم 15 أبريل/نيسان 2023، انفجاراً عنيفاً في الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد، الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، الذي يقود قوات الدعم السريع، حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.

بدأ القتال في العاصمة، الخرطوم، لكن لربما كانت التكلفة البشرية الأكثر كارثية على بُعد نحو 800 كم في دارفور، حيث شنَّت الميليشيات المعروفة باسم "الجنجويد" –والتي تعني "جن على ظهر فرس"- في عام 2003 ما تصفها تقارير أممية بأنها أول إبادة جماعية في القرن الجديد. ويُقدَّر أنَّ 300 ألف إفريقي من ذوي البشرة السوداء قُتِلوا وشُرِّد نحو مليوني شخص. وهم يجتاحون دارفور مجدداً على ظهر الجمال والخيول والشاحنات، يُذبِّحون ويغتصبون ويحرقون كل شيءٍ في طريقهم.

فرّوا من الحرب في السودان بأعجوبة

في ظل شجرة تضربها أشعة الشمس، على ضفاف مجرى نهر جاف، كانت روان أبوبكر (5 سنوات) تنام نوماً متقطعاً. وكانت أختها هميرا (14 عاماً) تجلس بجوارها. إنَّها جائعة للغاية. فالساعة الرابعة مساءً ولم تأكلا شيئاً. وتعتقد هميرا أنَّهما أكلتا القليل مساء بالأمس. ولم يتبقَّ شيءٌ اليوم. وتقول: "لا يوجد طعام هنا".

يمتلئ المشهد المقفر الموحش بعشرات الآلاف من الآخرين مثليهما، معظمهم من النساء والأطفال المنهكين الصامتين. وهم يجلسون في ملاجئ مصنوعة من الأوشحة والعصيّ والألواح البلاستيكية التي لا تخفف من درجات الحرارة التي تبلغ 35 درجة مئوية والأمطار التي تتساقط يومياً وتحيل الأرض إلى طين. ولا توجد مراحيض. وتتوقع وكالات الإغاثة تفشي الكوليرا في أي يومٍ الآن. ويواجه الناس مجاعة.

لكنَّ ذلك كله يظل يبقى أفضل مما تركوه وراءهم حين عبروا الحدود من السودان إلى تشاد قبل بضعة أسابيع. ولا يعرف أحد بالضبط عدد الموتى، لأنَّه لا يوجد إنترنت أو شبكة هاتف تقريباً، ومعظم المعلومات التي تتسرَّب تأتي من الفارِّين. وتُظهِر مجموعة صغيرة من الصور ومقاطع الفيديو قرى وبلدات تحوَّلت إلى أراضٍ قاحلة مشتعلة، ورجالاً يحملون أسلحة يجولون بسرعة في شاحنات صغيرة ويطلقون النار كيفما شاؤوا لأنَّهم يعلمون أنَّهم لن يواجهوا أي عواقب. ويروي أولئك الذين ينجحون في الفرار قصصاً عن مسلحين يذبحون الناس في بيوتهم ويقتلون مَن يحاول الفرار.

هذه حالة تطهير عرقي على نطاق واسع. وهذه المرة، تُعَد "قوات الدعم السريع" –الاسم الرسمي للميليشيات- أكثر قدرة بكثير للقتل بسرعة مما كانت قبل 20 عاماً لأنَّها مسلحة وتقول تقارير غربية إنها مدعومة من مجموعة فاغنر، الشركة شبه العسكرية الروسية التي تقاتل أيضاً في أوكرانيا وقامت هذا الأسبوع بمحاولة تمرد فاشلة ضد الكرملين.

دارفور
الأمم المتحدة تعرب عن قلقها من العنف في دارفور/رويترز

واتهم والي غرب دارفور في وقتٍ سابق من شهر يونيو/حزيران 2023، قوات الدعم السريع بارتكاب إبادة جماعية. وتعرَّض بعد ذلك بساعات للاختطاف وقُتِل.

وعلى مدار الشهرين الماضيين، قالت وكالات الإغاثة الموجودة على الأرض إنَّ أكثر من 155 ألف شخص فروا عبر الحدود إلى تشاد قادمين من السودان، وهو أعلى من الرقم الرسمي الذي نشرته مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين.

كما عَبَرَ أكثر من 400 ألف شخص إلى البلدان الستة الأخرى المجاورة للسودان: مصر، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وإرتريا، وإثيوبيا، وليبيا، وجنوب السودان، وكلها بلدان شهدت حروباً أو حالة عدم استقرار عنيفة في السنوات الأخيرة.

ويخشى دبلوماسيون من إمكانية جر الحرب في السودان لبعض تلك الدول –خصوصاً تشاد، التي يملك الكثيرون فيها صلات عميقة على الجهة الأخرى من الحدود في دارفور- للمشاركة في القتال. كما تدفع مصر ثمناً باهظاً لما يحدث في السودان، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً أيضاً.

خيارات قاسية يواجهها الهاربون من الجحيم

ويصل المزيد من المُشرَّدين إلى شرقي تشاد يومياً. وتحاول وكالات الإغاثة نقلهم إلى مخيمات رسمية للاجئين، حيث يوجد الغذاء والإمدادات. لكنَّ تلك الوكالات لا تملك إلا جزءاً بسيطاً من التمويل الذي تحتاجه، والمهمة هائلة ومستحيلة.

والوضع على وشك التدهور، إذ بدأ موسم الأمطار الآن بجدية، فامتلأت مجاري الأنهار الجافة التي تتقاطع مع هذه الأرض بتيارات متدفقة من المياه، ويصل اتساع بعضها إلى مئات الأمتار، ما يتسبَّب في قطع الطرق الترابية التي تُعَد الطرق الوحيدة هناك.

ويمكن أن تستغرق المساعدات التي تُرسَل من العاصمة التشادية، انجامينا، إلى منطقة الحدود، وهي رحلة تستغرق حالياً نحو أربعة أيام، ما يصل إلى 15 يوماً حتى الوصول، إن نجحت في الوصول أصلاً.

ويعاني الناس بالفعل من الجوع. ويمكن أن تصيبهم المجاعة قريباً. وعدم وجود غذاء يعني سوء التغذية، والذي ينتشر على نطاق واسع وبصورة متزايدة بالفعل في المخيمات. ويعني أيضاً العنف، إذ يتشاجر الجياع مع بعضهم البعض من أجل المنح والصدقات. ويعني إجبار النساء والفتيات على الدعارة أو زواج القاصرات من أجل النجاة.

البرهان حميدتي
البرهان وحميدتي

يقول بيير هونورات، مدير برنامج الأغذية العالمي في تشاد: "الأمر صعب للغاية". وهو بصدد دراسة بعض "الخيارات القاسية". إذ يحتاج برنامج الأغذية العالمي 10 ملايين دولار شهرياً لمساعدة الأشد احتياجاً، لكنَّه يحصل منذ بداية هذا العام، 2023، على نحو عشر المطلوب فقط. ويمكن أن يبدأ قريباً في تقديم نصف الحصص المُقنَّنة من الطعام، أو عدم تقديم شيء على الإطلاق، للأطفال الجوعى.

ويجلب أولئك الذين ينجحون في عبور الحدود من تشاد قصص المعاناة. ففي أحد المستشفيات في مدينة أدري، على بُعد ميلين (3.2 كم تقريباً) من السودان، كانت خالية عبد الرحمن تجلس وتشاهد ابنها البالغ من العمر 6 سنوات، محمد، بينما كان مستلقياً في صمت ومُضمَّداً في ظل الحرارة الكائظة.

كانا قد وصلا من دارفور قبل أسبوعين فارِّين من الجنجويد. ففي اللحظة التي سمعت فيها خالية صوت إطلاق نار خارج المنزل، أخذت محمد وركضت إلى مدرسته، ظناً أنَّ الوضع سيكون آمناً هناك.

لكن كانت هناك مذبحة؛ إذ تدفَّق المسلحون إلى البلدة، فأحرقوا المنازل وأعملوا القتل، على ما يبدو بصورة عشوائية. ثُمَّ اقتحم المقاتلون المدرسة. قالت خالية (30 عاماً)، والتي كانت تضم ابنها بين ذراعيها حين دخلوا عنوة وبصورة مفاجئة: "أطلقوا النار على القفل وفتحوا الباب بهذه الشاكلة".

اخترقت رصاصة كتف محمد ووصلت إلى صدرها. فسال الدم على جسدها، لكنَّها تشبَّثت به. وقالت: "ركضنا، وقد رأينا الكثير من القتلى والكثير مِمَّن يُقتَلون".

الاغتصاب سلاح مرعب

قال د. محمود آدم أحمد، مدير المستشفى الذي تُعالَج فيه خالية وابنها، إنَّهم استقبلوا 94 مصاباً في الحرب و4 قتلى، بينهم امرأة. وأضاف: "العدد يزداد بسرعة، وقد رأينا أناساً مصابين بالسكاكين وبالرصاص".

وقال بعض اللاجئين الذين تحدثنا إليهم إنَّ العنف أسوأ مما كان في عام 2003. ويمنع "العرب"، مثلما يدعوهم الجميع هنا، الرجال من عبور الحدود. وتنفي قوات الدعم السريع مزاعم قتلها لغير المقاتلين، ومهاجمة البنية التحتية، والاغتصاب. وتُحمِّل خصومها في الحرب الأهلية مسؤولية إعادة إشعال الصراع في دارفور.

لكنَّ شهود عيان أخبروا الصحيفة البريطانية بأنَّهم رأوا أناساً يتم ضربهم بالرصاص من جانب قوات الدعم السريع خلال محاولتهم الفرار إلى تشاد، وأنَّ المسلحين يعيثون فساداً في الأراضي المنبسطة كل يوم، ويحرقون كل شيء أينما حلّوا.

ويُستخدَم الاغتصاب سلاحاً في الحرب في أرجاء البلاد. إذ أظهر مقطع فيديو نشرته شبكة CNN الأمريكية فتاة، يُعتَقَد أنَّها تبلغ 15 عاماً، وهي تتعرَّض للاغتصاب من جانب رجل في وضح النهار في الخرطوم. وقالت لوسي أبيني، وهي مشرفة في عيادة الدعم النفسي للمرأة في مخيم بوروتا الذي تديره لجنة الإنقاذ الدولية، إنَّ الكثير من الضحايا يختارون عدم طلب الحصول على العلاج الطبي. وأضافت: "النساء اللاتي يتعرَّضن للاغتصاب يُخفين أنفسهن".

عاش العرب والأفارقة جنباً إلى جنب في المنطقة منذ القرن الرابع عشر من الميلاد على الأقل، وكثيراً ما اندلعت دورات العنف على أسس عرقية أو لغوية، ولو أنَّ الجوائز الحقيقية تتمثَّل في السيطرة على الأراضي والسلطة.

القتال في السودان اللاجئين السودانيين
لاجئون سوادانيون فروا إلى تشاد/ رويترز

وكانت دارفور في السابق مملكة قوية: دولة تضم بلدات تجارية مزدهرة حكمها السلاطين فترة 300 سنة، حتى غزاها البريطانيون في الحرب العالمية الأولى وضمُّوها إلى مستعمرة السودان الأنغلو-مصري.

نال السودان استقلاله عام 1956، وكانت دارفور أحد أكبر أقاليمه. واقتحم الإقليم وعي العالم عام 2003، حين أرسل ديكتاتور السودان عمر حسن البشير الجنجويد من أجل سحق انتفاضة محلية هناك.

كان محمد دقلو، المعروف باسم "حميدتي"، واحداً من كبار قادة الميليشيات التي نهبت الأرض بهدف القضاء على السكان الأفارقة والحصول على المنطقة لأنفسهم (جنَّدوا في صفوفهم أيضاً مجموعات من الأفارقة السود المتحدثين باللغة العربية). وارتكبوا عمليات قتل جماعي واغتصاب أدَّت إلى اتهام المحكمة الجنائية الدولية للبشير بمحاولة ارتكاب إبادة جماعية وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

وفي عام 2019، أُطيحَ البشير في انقلاب عسكري، وصعد عبد الفتاح البرهان، الجنرال الكبير في الجيش السوداني، ليصبح الحاكم الفعلي للبلاد. وسحق، جنباً إلى جنب مع حميدتي، انتفاضة مؤيدة للديمقراطية. وبدأ القتال الذي اندلع قبل شهرين في الخرطوم حين انقلب الرجلان على بعضهما البعض، وهو ما حوَّل العاصمة إلى منطقة حرب بين عشيةٍ وضحاها.

فشل مسعى من جانب المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة لتصميم اتفاق لوقف إطلاق النار، لكنَّ دبلوماسيين يشكون في أنَّه حتى لو أُبرِمَ اتفاق سلام، يمكن أن يتراجع حميدتي مع قواته إلى دارفور ويواصل حملته للإبادة هناك.

قال أليكس دي فال، المدير التنفيذي لـ"مؤسسة السلام العالمي" بجامعة تافتس في ماساتشوستس، إنَّه يشك في أنَّ التوصل لاتفاق سلام من أجل إنهاء القتال في الخرطوم سيكون له "أي تأثير على الإطلاق" في دارفور. وأضاف: "هذا تطهير عرقي محض أو إبادة جماعية ضد أناس عُزَّل".

يعرف المدنيون الذين شُرِّدوا من جرَّاء القتال فقط أنَّه لا يمكنهم العودة إلى ديارهم. فوصلت فضيلة غميس مطر (24 عاماً) إلى تشاد هذا الشهر، يونيو/حزيران، قادمة من مدينة الجنينة مع أبنائها الستة بعدما أحرقت الميليشيات منزلهم.

وقالت: "كان بعضهم يرتدي ملابس مدنية، والبعض الآخر ملابس عسكرية. وكانت لديهم أسلحة. وكانوا يقتلون الناس، ولا أعلم لماذا".

تحميل المزيد