صورة بوتين كرجل قوي مفتول العضلات يتحدى أمريكا، يبدو أنها معرضة للاهتزاز في العالم بعد تمرد فاغنر، ولكن في الصين أكثر من أي بلد آخر، فإن هذا الأمر قد تكون له تداعيات كثيرة، وسط تساؤلات: كيف سيؤثر ما حدث في العلاقة بين الصين وروسيا، وتحديداً علاقة الرئيس الصيني، شي جين بينغ بنظيره الروسي، الذي يصفه دوماً بالصديق؟.
فالتمرد المسلح الذي أطلقته مجموعة فاغنر للمرتزقة، الذي أوصل القوات التي يقودها يفغيني بريغوجين إلى مسافة بضع مئات من الكيلومترات من موسكو، كشف عن الانقسامات الموجودة في القوات المسلحة الروسية والتصدعات التي تهدد بتقويض استقرار أقوى حلفاء الصين.
بالنسبة للرئيس الصيني، لم يعد التحدي الذي يواجه علاقته مع بوتين يتعلق بمحاولة الموازنة بين الأخير وبين الغرب فقط، بل أيضاً، حقيقة أن بوتين يبدو أنه يواجه معارضة روسية داخلية في مؤسسته العسكرية والأمنية، لا أحد يعلم حجمها وقوتها بعد، ولكن المؤكد أنه قد تبين للجميع بما فيهم بكين أن بوتين ليس محصناً ضد التمرد، صحيفة The Guardian البريطانية.
الصين كانت تنظر لروسيا طوال عقود على أنها نموذج يُحتذى في الجانب العسكري والأمني
العلاقة بين الصين وروسيا قديمة ومتقلبة بدأت بالعداء في العهد القيصري، ثم صداقة في العهد الشيوعي للبلدين ثم عادت للعداء من جديد قبل أن تستقر على شراكة مهمة ولكنها أقل من تحالف منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
لعقودٍ طويلة كان الجيش الروسي والأسلحة الروسية وقبلها السوفييتية، نموذجاً، يُحتذى بالنسبة لبكين، منذ التحالف بين البلدين الذي بدأه الحزب الشيوعي الصيني قبل الحرب العالمية الثانية، ثم تحول لتحالف رسمي قوي بين البلدين بعد سيطرته على بكين عام 1949 بعد حرب أهلية طويلة مع حزب الكومينتانغ المدعوم من واشنطن.
وحتى عندما حدث الخلاف الصيني السوفيتي في ستينيات القرن العشرين الذي وصل لاشتباكات مسلحة محدودة بين جيشي البلدين، ظل الصينيون يقلدون الأسلحة السوفييتية حتى بعد أن منعتها موسكو عنهم.
وبعد الإصلاحات الصينية والانفتاح على الغرب في الثمانينات، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وتحسن العلاقة بين الصين وروسيا، ظل الصينيون يقلدون الأسلحة روسيا، حتى لو أثار ذلك غضب موسكو أحياناً، كما أصبحوا يعتمدون على معدات عسكرية من صنع موسكو لصنع أسلحتهم (مثل محركات الطائرات) بل ويشترون أسلحة روسية مثل المقاتلة الشهيرة سوخوي 35 رغم أنهم باتوا من أكبر مصنعي السلاح في العالم حالياً.
وحتى عندما شبّ الصينيون عن الطوق قليلاً، فإنهم بدأوا يطورون بعض النماذج التي اقتبسوها من موسكو، بشكل مختلف لحد ما عن الأصل الروسي، وأحياناً بشكل أكثر تطوراً من موسكو، ولكن الأصل الروسي هو نواة أغلب أسلحتهم.
ورغم أن الصين بدأت قبل سنوات تتجه نحو محاكاة النموذج الأمريكي في تدريب وبناء الجيش وصنع الأسلحة، ولكن ظل الروس معلمي الصينيين الأساسيين.
ولقد بُني النموذج السياسي والأمني الصيني إلى حد كبير منذ الخمسينيات، على صورة النموذج السوفيتي الذي أعاد إحياءه بوتين جزئياً، بعد أن كان قد تدهور وتحول لشبه ليبرالية فوضوية في عهد سلفه بوريس يلتسين.
وكانت قوة بوتين الداخلية، وتدخلاته القاسية في الشيشان وسوريا وأوكرانيا، وتحديه للغرب، بمثابة حقنة مقويات للأنظمة الدكتاتورية، أكسبته شعبية في الأوساط والقوى المعادية للديمقراطية في العالم ومنها الصين، وجعلته بطل المستبدين وليس الرئيس الصيني الذي يحمل هذا اللقب حتى لو كان الأخير يقود بلداً بات أغنى وأكثر تطوراً في معظم المجالات (وأشد صرامة من الناحية السياسية والأمنية).
الصين لم تؤيد غزو أوكرانيا، ولكن أنقذت موسكو من كارثة اقتصادية
لم تؤيد الصين الغزو الروسي لأوكرانيا، وعلى الأرجح إنها تراه خطأً، ولكنها لم تنتقده كما أراد الغرب، الذي يعتبر أن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، كان راسخاً في دعمه لـ"صديقه العزيز" بوتين.
صحيحٌ أن شي لم يؤيد صراحةً الغزو الروسي، لكنه رفض إدانته وردد عديداً من ادعاءات موسكو التي برّرت بها هذه الحرب، خاصة دور الغرب في إشعالها.
ففي موقف نشرته صحيفةٌ في فبراير/شباط، انتقد شي "الكتل العسكرية المتوسعة"، في إشارة واضحة إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التي ألقى بوتين اللوم عليها في استفزازه مما دفعه لإطلاق "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، حسبما يصفها الزعيم الروسي.
واكتسبت العلاقة بين الصين وروسيا، أهمية أكبر للأخيرة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا والحصار الغربي على موسكو.
بكين على الأرجح أعادت النظر في خططها العسكرية بشأن تايوان بعد تعثر روسيا في أوكرانيا
ولكن فيما يتعلق بالجانب العسكري، كان الصينيون مصدومين من إخفاق معلميهم الروس ضد الأوكرانيين الضعفاء المدعومين من الغرب.
ويعتقد أن ذلك دفع الصينيين لمراجعة تصوراتهم عن أي عملية اجتياح محتملة لتايوان، لإعادة ضمها لبلادهم، خاصة أن تايوان جزيرة محمية بالمياه المليئة بالأساطيل الأمريكية، ومحاطة بالجبال الساحلية الوعرة ومغطاة الأحراش.
كما أن تايوان أغني وأكثر تماسكاً من أوكرانيا، المشهورة بفسادها وانقساماتها الإثنية، والأهم أن جيشها يتلقى التدريب والدعم من الأمريكيين منذ نشأتها كدولة تدعي تمثيلها لمجمل الصين قبل أكثر من 70 عاماً، بينما تراها بكين إقليماً منشقاً.
على جانب آخر، هناك جانب في العلاقة بين الصين وروسيا، لا يركز عليه الغرب، وهو أن بكين امتنعت عن تزويد روسيا بالسلاح وقطع الغيار العسكرية.
ولكنها في المقابل وفرت أسواقاً بديلة للطاقة الروسية التي أصبحت محظورة في أوروبا، كما قدمت سلعها الاستهلاكية وخدماتها التقنية بديلاً للسلع والخدمات التي منعها الحصار الغربي عن روسيا؛ مما شكل إنقاذاً للاقتصاد الروسي، وجعل العلاقة بين الصين وروسيا تختل لصالح بكين.
سر العلاقة بين الصين وروسيا ولماذا تدعم بوتين، وكيف حاولت تصوير تمرد فاغنر لشعبها؟
يستند دعم بكين لموسكو إلى البراغماتية والأيديولوجية. وكانت الأيديولوجية هي التي تضررت بشدة بسبب الأحداث الدراماتيكية المشهودة مطلع هذا الأسبوع، التي سعت الصين للتقليل من شأنها.
لم تعلق الصين في بداية الأمر، لكن وزير الخارجية الصيني وصف أمس الأحد 25 يونيو/حزيران التمرد المسلح بأنه "شؤون داخلية" تخص روسيا، وأعرب عن دعم بلاده لروسيا في المحافظة على الاستقرار الوطني.
وفي نفس اليوم، نشرت وكالة الأنباء الرسمية الصينية مقالة ترتئي أن يفغيني بريغوجين تراجع لأن الرأي العام الروسي كان ضده بصورة كاسحة. ونشرت صحيفة China Daily تقريراً من الساحة الحمراء بالعاصمة الروسية موسكو، قالت فيه: "الحياة اليومية لسكان موسكو لم تُعطل، ولا تزال هادئة ومنظمة".
لكن كثيرين في الصين غير مقتنعين. نشر يو جيانرونغ، الباحث الليبرالي المؤثر، فيديو يظهر استجابة غاضبة من السكان الروس المحليين تجاه الشرطة التي تتحرك إلى مدينة روستوف، التي استولت عليها مجموعة فاغنر؛ مما يشير إلى وجود مستوى من الدعم لقضيتهم. كتب يو إلى متابعيه البالغ عددهم 7 ملايين على موقع Weibo: "لا أعرف حقاً ما الذي يحدث في هذا البلد".
أزمة فاغنر قد تدفع بوتين لمزيد من الاعتماد على الصين، ولكن الأخيرة قد تصبح أكثر تحفظاً
وقال شين دينغلي، وهو باحث متخصص في العلاقات الدولية مستقر في شنغهاي، إن حادثة فاغنر يمكن أن تؤدي إلى تزايد اعتمادية روسيا على الصين، في حين أن بكين قد تتخذ "موقفاً أشد حذراً تجاه روسيا". وأوضح شين: "على الصعيد الدبلوماسي، تحتاج الصين أن تكون أشد حرصاً مع كلماتها وأفعالها".
يجادل آخرون بأن الرئيس شي قد يكون منبهراً بطريقة تعامل بوتين مع التمرد؛ إذ قال ألكسندر كوروليف، المُحاضر الكبير في جامعة نيو ساوث ويلز الأسترالية الذي يركز على العلاقات الروسية الصينية: "الطريقة التي قد تنظر بها الصين إلى الأمر، هي أن بوتين أثبت أمام النخبة أنه قادر على معالجة التحديات الهائلة التي تواجهها البلاد. لا أعتقد أن الحكومة الصينية قفزت إلى الاستنتاج القائل بأن هناك تصدعات كبيرة في نظام بوتين".
الصين ستحاول الموازنة بين دعم بوتين وبين احتمالات رحيله، ومشكلتها في المعلومات الاستخباراتية
ومع ذلك، ينبغي لشي الآن أن يوازن بين دعمه المستمر لبوتين وبين التحوط من الاحتمالية التي تقول إن وقته في الكرملين ربما صار أقصر.
أحد الجوانب التي قد تُستشعر فيها هذه المعضلة على الفور، يكمُن في مشاركة المعلومات الاستخباراتية. يشير تقدم بريغوجين السريع نحو موسكو إلى وجود دعم ضمني من بعض الشخصيات داخل مجتمع الاستخبارات والجيش الروسي. يعني ذلك أن الاتصالات بين الصين والأجهزة السرية في روسيا قد تكون غير محصنة.
وبحسب ما ذكره جوزيف ويبستر، الباحث الكبير في المجلس الأطلسي: "إذا كانت الأجهزة الأمنية الصينية تشارك معلومات استخباراتية مع نظيراتها الروسي حول مدبري الانقلاب ضد بوتين، فإنها تواجه احتمالية كبيرة بالاكتشاف وتخاطر بالإضرار بالعلاقات الثنائية على المدى الطويل إذا وصل "خصوم بوتين" إلى هرم السلطة العمودية في السياسات الروسية".
سوف ترحب الحكومة الصينية بالحقيقة التي تفيد بأن اتفاقية مع بريغوجين جرى التوصل إليها بسرعة.
فبوتين يُعد شريكاً مهماً ويدعم موقف الصين في الساحة العالمية، لاسيما مناشدة بكين إلى جنوب الكرة الأرضية لمقاومة ما تصفه بالهيمنة التي تقودها الولايات المتحدة. ودعم شي المعلن لبوتين لا يتزعزع.
لكن الصين ينتابها قلق متزايد بشأن الاستقرار في روسيا، وذلك حسبما قال ألكسندر جابويف، مدير مركز كارنيغي روسيا-أوراسيا. أضاف جابويف: "تتمثل مشكلتهم في أنهم لا يملكون أدوات حقيقية للتأثير فيه".
إن شبح وجود تحدٍ آخر يواجه قيادة بوتين سوف يزعج الرئيس الصيني. ويبدو المحللون منقسمين حول ما إذا كان سيحاول التدخل في السياسات الداخلية الروسية للإبقاء على الزعيم المؤيد لبكين في سدة الحكم أم لا؛ نظراً إلى أن أي تدخل قد يخاطر بإضرار العلاقات مع أي خليفة محتمل لبوتين.