تعيد فرنسا، السبت 17 يونيو/ حزيران، افتتاح متحف الهجرة الأول من نوعه في أوروبا، فهل تسعى باريس إلى "طمس" تاريخها الملوث باضطهاد المهاجرين، الذين يمثلون نحو ثلث المجتمع الفرنسي؟
وفي الوقت الذي تشهد فيه أوروبا بشكل عام، وفرنسا بشكل خاص، هجمة شرسة ضد المهاجرين، في ظل سيطرة اليمين المتطرف على المشهد السياسي بصورة أو بأخرى، أصبح ملف المهاجرين الشائك يتصدر المشهد السياسي والاجتماعي في القارة العجوز.
وجاءت كارثة غرق قارب الصيد المكتظ بالمئات من المهاجرين قرب السواحل اليونانية، ووفاة أكثر من 500 شخص دفعة واحدة، كدليل جديد على فشل أوروبا في التعامل مع قضية الهجرة والمهاجرين، رغم الإعلانات المتتالية من جانب كثير من دول الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها ألمانيا، بأنها بحاجة إلى عاملين مهرة تسعى لجلبهم إلى البلاد.
فرنسا.. تاريخ متناقض بشأن المهاجرين
وفي فرنسا، تطالب أحزاب المعارضة اليمينية بقمع اللجوء تماماً، ووضع حد لاستقبال المهاجرين الجدد، إضافة إلى طرد المهاجرين الذين يعيشون على الأراضي الفرنسية، حتى وإن كانوا يحملون الجنسية الفرنسية.
أما أحزاب اليسار الفرنسي فهم يريدون وضع تدابير لمساعدة الأجانب على الاندماج في المجتمع الفرنسي، دون أن تكون هناك صورة واضحة أو محددة لطبيعة هذا "الاندماج" وشروطه وما يعنيه.
وبين هذا وذاك، تحاول حكومة الرئيس ماكرون الوسطية السير في طريق وسطي بين الاثنين، دون نجاح كبير في ذلك، وقد قدمت مشروع قانون للهجرة، في فبراير/شباط الماضي، وسحبته في مارس/آذار، ووعدت بإعادته مرةً أخرى في أبريل/نيسان، وتراجعت منذ ذلك الحين.
وتناولت صحيفة The Times البريطانية قضية الهجرة والمهاجرين في فرنسا، في تقرير لها بعنوان "تاريخ فرنسا المعذب بالمهاجرين يأخذ منحى مألوفاً"، يرصد كيف كان الخلاف حول الهجرة مشحوناً في فرنسا، حتى قبل حادثة طعن لاجئ سوري لأربعة أطفال، بينهم طفلة بريطانية تبلغ من العمر ثلاث سنوات، في مدينة آنيسي بجبال الألب الفرنسية هذا الشهر.
والأربعاء 14 يونيو/حزيران، نقل عبد المسيح. ح، اللاجئ السوري المتهم بطعن ستة أشخاص في متنزه بمدينة آنيسي إلى مصحة للأمراض العقلية قرب مدينة ليون، بحسب موقع فرانس24، نقلاً عن مصادر قضائية.
جاء هذا بعدما كان الطبيب النفسي الذي عاينه قد كشف سابقاً أنه "لاحظ غياب أي عناصر واضحة تدل على خلل نفسي". وأكد الطبيب في الوقت نفسه أنه ما زال من السابق لأوانه الحديث عن "مرض نفسي" محتمل بحسب المدعية العامة.
وتسبب الحادث في اشتعال الهجوم المحموم أصلاً ضد الأجانب في فرنسا، حيث اتهم الشعبويون وأحزاب اليمين المتطرف الحكومة بالفشل في منع "المذابح الجماعية" -وهو مصطلح صاغوه لوصف قتل الفرنسيين على يد المهاجرين- واتهمهم فيليبو غراندي، المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بزرع "الكراهية".
وفي الوقت الذي تهيمن هذه القضية على عناوين الأخبار، تجد كونستانس ريفيير، المدير العام لقصر بورت دوريه، الذي يضم المتحف الوطني لتاريخ الهجرة، أن الأمر برمته ليس خبراً جديداً على الإطلاق.
إذ تنظر ريفيير إلى مشاكل الرئيس الفرنسي ماكرون باعتبارها الحلقة الأخيرة في الصراع الفرنسي الذي لا نهاية له على ما يبدو للتصالح مع الهجرة. وقالت في هذا السياق لصحيفة تايمز البريطانية: "مازلت أتعامل مع مسألة الحقوق، وخاصة حقوق الأجانب منذ 20 عاماً، وكل عامين تقريباً كان هناك قانون للهجرة مصحوب بتعبير عن الخوف، لست متأكدة من أن الأمر مختلف تماماً اليوم".
متحف للهجرة هو الأول في أوروبا
ويشهد قصر بورت دوريه في شرق باريس، والذي يضم متحفاً وحوضاً مائياً استوائياً، على هذه الأمور المعقدة في فرنسا. افتُتِحَ الصرح الضخم في عام 1931 باسم قصر المستعمرات من أجل عرض مزايا الإمبراطورية الفرنسية والتباهي بها.
وفي عام 1935 تغيَّر الاسم إلى متحف فرنسا من خارج البلاد، وفي 1960 إلى متحف الفنون الإفريقية والمحيطية. في عام 2007، أصبح متحفاً للهجرة، وهو الأول من نوعه في أوروبا.
ومع ذلك، اختلف المؤرخون المشاركون في المشروع مع نيكولا ساركوزي، الرئيس اليميني في ذلك الوقت، ولم يُفتَتَح المتحف إلا في العام 2014 بمجرد مغادرة ساركوزي منصبه.
وبعد 6 سنوات، أُغلِقَ مرةً أخرى لإجراء إصلاحات، ويُفتَتَح السبت 17 يونيو/حزيران، بعد تجديد تكلَّف 2.5 مليون يورو بسرد جديد يبدأ بتجارة الرقيق، وينتهي بوصول المهاجرين في العقود الأخيرة من شمال إفريقيا ليستقروا في الضواحي الباريسية. وعولِجَت الفترة الاستعمارية بصورة مختلفة أيضاً، مع اختلاف النبرة هذه المرة.
الهدف الذي ترمي إليه ريفيير هو إظهار كيف شكل المهاجرون فرنسا، ومع ذلك حتى قبل إعادة إطلاق المتحف تورَّطت ريفيير في جدل جديد بعد نشر إعلان يشيد "بكل هؤلاء الأجانب الذين صنعوا التاريخ الفرنسي"، إلى جانب صورة لويس الرابع عشر، ملك الشمس.
فقد أعلن المناصرون للتراث والتقاليد الفرنسية استياءهم من الاقتراح القائل إن ملك القرن السابع عشر، المولود في فرنسا لأب فرنسي، لويس الثالث عشر، يمكن اعتباره أجنبياً على أساس أن والدته كانت إسبانية.
تقول ريفيير إن فرنسا هي الدولة الوحيدة في أوروبا، التي لطالما كانت نقطة جذب للمهاجرين على مر القرون. وتجادل بأن جميع البلدان الأخرى هي "بلدان تهجير"، مع استثناء محتمل لبريطانيا، التي تعتبر "بلد هجرة وتهجير".
"مهما فعلت لن تكون فرنسياً"
تشير ريفيير إلى أن ما يقرب من ثلث السكان الفرنسيين الحاليين هم إما مهاجرون أو أبناء أو أحفاد مهاجرين. وقالت للصحيفة البريطانية: "موسيقانا وأدبنا وسينماتنا وفنوننا ورياضاتنا، وفن الطهو، كل ذلك لم يكن ليصبح ثرياً هكذا بدون مساهمات أولئك الذين قدموا إلى فرنسا".
ومع ذلك، إذا كانت فرنسا تعتمد منذ فترة طويلة على الأجانب، فإنها لم تعاملهم معاملة جيدة على الإطلاق في أغلب الأحيان. فعلى سبيل المثال نُقِلَ أكثر من مليون إفريقي كعبيد عبر المحيط الأطلسي في سفن فرنسية بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، اعتمد الاقتصاد الفرنسي على العمال المهاجرين، ولا سيما من بلجيكا وإيطاليا وبولندا، وقد واجهوا عداءً وأعمال شغب ومذابح.
كما جلبت فرنسا ما مجموعه 500 ألف شخص من مستعمراتها للقتال في الحرب العالمية الأولى، وعدد مماثل من أجل العمل. هم أيضاً كانوا عرضةً للشك والاضطهاد. عشية الحرب العالمية الثانية، عبر 475 ألف جمهوري إسباني جبال البرانس في ثلاثة أسابيع أثناء فرارهم من ديكتاتورية فرانكو. في غضون عام، احتُجِزَ الكثيرون منهم في معسكرات الاعتقال حين بدأ نظام فيشي الفرنسي في التعاون مع النازيين.
كان الأجانب يشكلون 1% من السكان الفرنسيين في عام 1851، و7% في عام 1931، وهو أعلى معدل في العالم في ذلك الوقت. واليوم يشكلون 7.7%، ويشكل المهاجرون الذين حصلوا على الجنسية الفرنسية 3.7% أخرى.
ومع ذلك، أظهر استطلاع للرأي أن معظم الفرنسيين يعتقدون أن 20% من السكان هم من المهاجرين. وقال ما مجموعه 62% من المشاركين في الاستطلاع إن الهجرة كانت مرتفعة للغاية، تبدو حكومة ماكرون غير متأكدة، يدافع وزير الداخلية جيرالد دارمانين عن موقف متشدد، رغم أن ريما عبد الملك، وزيرة الثقافة التي ولدت في بيروت، قالت لصحيفة The Times البريطانية: "لن أقول أبداً إن هناك عدداً كبيراً جداً من الأجانب أو المهاجرين في فرنسا لأن هذه هي أصولي".