تستعد فرنسا لاعتماد أضخم ميزانية عسكرية منذ نصف قرن، بزيادة تزيد على 413 مليار يورو، فلماذا يرى المنتقدون أن هذا ليس كافياً لجعل الجيوش الفرنسية أقل اعتماداً على الحماية الأمريكية؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية نشرت تحليلاً يجيب عن هذه التساؤلات، ويرصد كيف أنه مع احتدام الحرب في أوكرانيا وتسابق الأوروبيين لتعزيز إنفاقهم الدفاعي استجابة للواقع الجديد المتمثل في صراع شديد الكثافة في القارة، توشك فرنسا على الموافقة على أكبر ميزانياتها العسكرية منذ أكثر من نصف قرن.
لكن منتقدين يقولون إن الأموال الإضافية لن تفعل الكثير لجعل الجيش الأكثر قدرة في الاتحاد الأوروبي أكثر ملاءمة للأوضاع العالمية الخطيرة التي أفرزها الهجوم الروسي في أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر".
ارتفاع قياسي في ميزانية الجيش الفرنسي
مشروع القانون الذي ترعاه الحكومة، والذي حصل على الضوء الأخضر لأول مرة من قبل الجمعية الوطنية الفرنسية يوم الأربعاء، 7 يونيو/حزيران، ومن المتوقع أن يحصل على موافقته النهائية بحلول منتصف يوليو/تموز المقبل، من شأنه أن يرفع الإنفاق العسكري على مدى السنوات السبع المقبلة إلى 413 مليار يورو، بزيادة قدرها حوالي 100 مليار عن الفترة السابقة.
والهدف هو الوصول إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق على الدفاع بحلول العام 2027، وهو الهدف الذي طالب به حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والذي وعدت فرنسا به منذ فترة طويلة وفشلت في تحقيقه، مثل الغالبية العظمى من الأعضاء الآخرين في الحلف.
ولكن، في صدى يبدو مألوفاً داخل دوائر الحكم الأمريكية، يشعر البعض بالقلق من تبديد الأموال في العديد من المشاريع، بدلاً من التركيز على معداتٍ مثل الدبابات والطائرات النفاثة والمروحيات التي يمكن أن تحدث فرقاً في ساحات القتال في أوكرانيا.
ويرى منتقدون أن هذه التوجهات تعتبر إشارة إلى أن الحكومة لم تستخلص الدروس الصحيحة من الصراع، الذي هو حرب تقليدية تهيمن عليها التشكيلات المدرعة والمدفعية، ولا يمكن للدول الأوروبية أن تعمل فيها كترسانة للديمقراطية لأنها أفرغت مستودعاتها الخاصة بعد عقود من التخفيضات في الميزانية.
فينسينت ديسبورتس، وهو جنرال فرنسي متقاعد ويعمل الآن أستاذاً في جامعة ساينس بو الفرنسية، قال لمجلة فورين بوليسي: "أظهرت الحرب في أوكرانيا بكل تأكيد أن الحروب يُحرَز فيها النصر على الأرض. التكنولوجيا مهمة، ولكن في نهاية المطاف يتعلق الأمر بالرجال الذين يقاتلون". وقال إن الميزانية "غير كافية بالمرة لبناء جيش كبير الحجم". وأضاف: "إن عدم بذل جهد كبير لزيادة مخزوننا من الأسلحة التقليدية يعني مخاطرةً كبيرة".
لكن فرنسا ليست البلد الوحيد الذي يحاول اللحاق بالركب، إذ تحاول كل من بريطانيا وألمانيا، وهما قوتان متوسطتان أخريان، ضخ الموارد في مؤسساتهما الدفاعية المهملة منذ فترة طويلة. وقامت دول الشمال مثل فنلندا (التي انضمت للتو إلى حلف الناتو) والسويد (التي لا تزال تأمل في أن تسقط تركيا معارضتها كي تنضم هي الأخرى للحلف العسكري الغربي) باستثمارات كبيرة في المعدات المتقدمة.
كيف غيرت حرب أوكرانيا أوروبا؟
على الرغم من أنه بدا إذاً كما لو أن الحرب الروسية في أوكرانيا كانت بمثابة لحظة تحول للأمن الأوروبي، إلا أنه مع دخول الحرب عامها الثاني لم يتحقق مثل هذا التحول. ويقع خطأ الركود المستمر على عاتق العديد من الأطراف- الدول الأوروبية وحلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي وحتى الولايات المتحدة- والتي تخلفت جميعها عن ممارسات الماضي المريحة، على أمل الحفاظ على الوضع الراهن الذي لا يمكن الدفاع عنه، بحسب تقرير لمجلة Foreign Affairs يرصد أسباب استمرار الاتحاد الأوروبي في الاعتماد على الحماية الأمريكية، ويعارضون تماماً تأسيس جيش أوروبي مستقل.
نعم، أدت الحرب في أوكرانيا إلى بعض التغيير في القارة العجوز، إذ احتشدت الجماهير الأوروبية وقادتها لدعم أوكرانيا، وحافظوا على دعمهم رغم ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم المرتفع. قدمت الدول الأوروبية كميات هائلة من الأسلحة إلى أوكرانيا، وإن لم تكن بقدر الولايات المتحدة.
كما تقدمت فنلندا والسويد بطلب للانضمام إلى الناتو، وأصبحت الأولى بالفعل عضواً فيه بينما تنتظر الأخرى. وقدم الاتحاد الأوروبي المليارات من المعدات الفتاكة إلى أوكرانيا، ويقوم بتدريب القوات الأوكرانية، وينعكس الشعور بالصدمة والإلحاح الذي شعر به القادة الأوروبيون رداً على الهجوم الروسي على أوكرانيا بوضوح في الزيادات في الإنفاق الدفاعي. وتقترب الآن معظم الدول الأوروبية في الناتو من هدف المنظمة، المتمثل في أن ينفق جميع الأعضاء ما لا يقل عن 2% من إجمالي الناتج المحلي على الدفاع، مع إنفاق بعض الدول مثل بولندا ودول البلطيق أكثر من ذلك بكثير.
لكن حقيقة الأمر هي أن هذه التغييرات تبدو أقل من أن تكون جذرية، فرغم أن ارتفاع الإنفاق الحالي قد يشير إلى حدوث تحول، فإنه قد يكون ضئيلاً إذا ظلت القضايا الأساسية التي يعاني منها الدفاع الأوروبي دون معالجة.
وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن الطريقة التي ستتشكَّل بها القوات المسلحة الفرنسية في المستقبل القريب ستكون مهمة بصورةٍ أبعد من فرنسا نفسها، التي هي القوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي، والتي ترسل جيشها للقتال في الخارج أكثر من أي دولة أخرى في الكتلة.
فعلى مدار الستين عاماً الماضية، شاركت القوات الفرنسية في أكثر من 30 تدخلاً رئيسياً حول العالم، بما في ذلك مؤخراً نشر آلاف الجنود ضد الحركات الجهادية في منطقة الساحل، والمشاركة في الحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضد الحركات الجهادية في منطقة الساحل، وضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا.
تشمل خطط الإنفاق الحكومية نحو 268 مليار يورو لتحديث وتعزيز المعدات العسكرية، و16 مليار يورو لتجديد مخزونات الذخيرة المتضائلة في فرنسا. وسوف يُضاعَف عدد جنود الاحتياط المستعدين للاستدعاء لحمل السلاح. ولكن هناك مليارات أخرى مخصصة للردع النووي، وحاملة طائرات جديدة، والدفاع السيبراني، والعمليات الفضائية، وبناء البنية التحتية في المناطق التي تسيطر عليها فرنسا في الخارج، بينما التضخم وحده سيلتهم حوالي 30 مليار يورو.
ما سلبيات توظيف أموال الجيش في فرنسا؟
يعني كل هذا أن الدبابات والطائرات القديمة في البلاد سوف تُحدَّث بوتيرة أبطأ مما كان مخططَّاً في الميزانية السابقة. بحلول عام 2030، سيكون لدى فرنسا ما مجموعه 160 دبابة متطورة بدلاً من 200، و178 طائرة مقاتلة من طراز رافال بدلاً من 225، و20 فقط من 169 طائرة هليكوبتر جديدة من طراز جيوبارد طلبتها عام 2021.
وستستمر البلاد في قدرتها على نشر 15 ألف جندي كحد أقصى في الخارج، وهو عدد أقل كثيراً من الـ60 ألف جندي الذين انتشروا في الخارج في منتصف التسعينيات، وفقاً لما ذكره ميشيل غويا، المؤرخ العسكري والعقيد السابق في مشاة البحرية الفرنسية.
يجادل المؤيدون بأن مشروع القانون يحقق التوازن الصحيح بين الكم والجودة، ويعزز الرتب تدريجياً ولكن أيضاً يتأكد من أن المعدات صالحة للعمل، وأن الأفراد العسكريين يعرفون كيفية استخدامها بشكل صحيح. سيزداد تمويل التدريبات العسكرية، على سبيل المثال، بمقدار 20 مليار يورو مقارنة بالميزانية السابقة.
لكن لا تزال هناك فجوات. مبدئياً، ليس من الواضح كم ستكلف مضاعفة الاحتياطيات. ومن المثير للدهشة أن ما يقرب من نصف الإنفاق مخطط له بعد عام 2027، بعد نهاية ولاية ماكرون الثانية والأخيرة.
ورغم ارتفاع ميزانيات الدفاع الفرنسية منذ سلسلة الهجمات الإرهابية عام 2015، لا تزال القوات المسلحة الفرنسية، مثل معظم نظيراتها في الاتحاد الأوروبي، تدفع ثمن ربع قرن من شد الحزام الذي بدأ في وقت مبكر من التسعينيات مع نهاية الحرب الباردة، وتسارعت في أعقاب الأزمة المالية 2007-2008. بحلول عام 2015، انخفض الإنفاق الدفاعي لفرنسا من حوالي 3% من الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يقل قليلاً عن 2%، وقد تُرِكَت البلاد بثلث القوات وربع قطع المدفعية وعُشر الدبابات.
الآن، مع استحواذ أوكرانيا على كمياتٍ هائلة من الأسلحة والذخيرة التي يزودها بها الغرب، أصبحت الحاجة إلى جيوش أكبر وأكثر استعداداً للمعركة شعاراً في معظم أنحاء أوروبا. لكن الحكومة الفرنسية ليست الوحيدة التي تكافح من أجل الوفاء بمستوى الخطاب الذي تصدِّره.
في بريطانيا، وعدت الحكومة القوات المسلحة بمبلغ إضافي قدره 5 مليارات جنيه إسترليني، ولكن هذه الأموال ستُستخدَم بالكامل تقريباً لدفع ثمن غواصات جديدة تعمل بالطاقة النووية والتي لا يُتوقع تسليمها قبل أربعينيات القرن الجاري ولا يُتوقع أن تستبدل الذخائر المرسلة لأوكرانيا.
في الوقت الحالي، فإن البلدان الواقعة على الطرف الشرقي من الاتحاد الأوروبي هي التي تضع أموالها في مكانها الصحيح. بولندا، على وجه الخصوص، في طريقها لإنفاق 4% من ناتجها المحلي الإجمالي على جيشها هذا العام، أكثر من أي عضو آخر في الناتو. كجزء من فورة الإنفاق، تشتري وارسو 100 قاذفة صواريخ هيمارس وأكثر من ألف دبابة ثقيلة، كما قال بير دي يونغ نائب رئيس شركة Themiis للاستشارات الأمنية، الذي أضاف: "من الواضح أن بولندا ستصبح أكبر جيش تقليدي في أوروبا".
لكن السياسة الدفاعية الكاملة لبولندا تدور حول ردع روسيا، بمساعدة واشنطن. ولا تزال فرنسا، التي يظل لها تأثير قوي على العديد من مستعمراتها الإفريقية السابقة، تنظر إلى نفسها على أنها قوة عالمية تتمتع باستقلال استراتيجي عن الولايات المتحدة.