عندما أُلقِيَ القبض على رئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان الشهر الماضي، أثار ذلك ضجة في جميع أنحاء البلاد التي اجتاحتها احتجاجاتٌ وأعمال عنف استمرت لأيام. لم تقتصر الاضطرابات على إسلام أباد، بل امتدت إلى شوارع لندن، بسبب عقار مملوك لـ"رئيس وزراء باكستان الأسبق نواز شريف".
فلقد وصلت هذه الاضطرابات إلى شارع بارك لين، المطل على منتزه هايد بارك في لندن، حيث فرضت الشرطة أمراً بحظر التجمعات مؤقتاً. يُزعم أن الشارع هو موطن المنافس اللدود لخان، نواز شريف، رئيس وزراء باكستان السابق لثلاث مرات وشقيق رئيس وزراء باكستان الحالي شهباز شريف، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
ربما ليس من المستغرب أن السياسة الباكستانية يجري متابعتها في المملكة المتحدة عن كثب. كان هناك 1.6 مليون باكستاني بريطاني في إنجلترا وويلز، وفقاً لإحصاء تعداد عام 2021 -ويرجع ذلك جزئياً إلى إرث باكستان كمستعمرة بريطانية سابقة حتى تأسَّست كدولة في التقسيم العنيف للهند في عام 1947.
"خطة لندنية".. لندن موطن للنخب الباكستانية السياسية
تثير الفوضى في باكستان أيضاً أسئلة جدية أمام المملكة المتحدة نفسها. يتشابك اعتقال خان واضطرابات العقد الماضي في السياسة الباكستانية بشدة مع حركة الأموال بين إسلام أباد ولندن، ووضع بريطانيا المحرج كملاذ للنخب السياسية وثرواتهم.
ووصف عمران خان اعتقاله على منصة تويتر بأنه "خطة لندنية"، في إشارة واضحة إلى التأثير المزعوم لنواز شريف على باكستان، كما اتهم خان قائد الجيش الباكستاني بإصدار الأمر باعتقاله بتهم فساد، في تعليقات سلطت الضوء على مكانة الجيش القوي في البلاد.
بعد الغزو الروسي لأوكرانيا العام الماضي، خضع دور لندن كمخزنٍ للثروة لتدقيقٍ لم يسبق له مثيل. ورغم كل التركيز على الأوليغارشية المرتبطة بروسيا، فقد جادل النشطاء منذ فترة طويلة بأن المدينة تجتذب النخب السياسية من جميع أنحاء العالم. ولعل أبرز رمزين لذلك يتمثلان في منزلين فاخرين، يفصلهما بالكاد 400 متر عن بعضهما، ويطلان على منتزه هايد بارك.
قصر جورجي مملوك لصديق للجيش الباكستاني
المنزل الأول هو قصر في حي هايد بارك بليس، يوصَف بأنه "أحد القصور الجورجية المتبقية في لندن" في قائمة إيجارات في عام 2017. يكلف إيجار شهر واحد للمنزل المدرج من الدرجة الثانية والذي يتضمن 10 أسرَّة 86.667 جنيهاً إسترلينياً، بحسب قائمة الإيجارات. يطل المبنى على هايد بارك، على مرمى حجر من قوس الرخام، الذي صممه جون ناش في 1827. حظي المنزل باهتمام أوسع في عام 2019 عندما كشفت الوكالة الوطنية البريطانية لمكافحة الجريمة أن العقار قد سُلِّمَ إلى السلطات البريطانية من قبل رجل الأعمال الباكستاني مالك رياض حسين.
ورياض حسين هو مالك شركة بحرية تاون، التي تدعي أنها أكبر مطور عقاري في آسيا. لها صلات وثيقة بالجيش الباكستاني، وقد نمت الشركة جزئياً من خلال تطوير الأراضي التي منحها لها الجيش الباكستاني بشكل مثير للجدل.
في عام 2019، توصلت الشركة إلى تسوية بقيمة 460 مليار روبية (1.61 مليار دولار) مع المحكمة العليا الباكستانية فيما يتعلق بعمليات نقل ملكية الأراضي غير القانونية في كراتشي، حيث قامت الشركة ببناء مشروع مسور يضم ثالث أكبر مسجد في العالم ونموذجاً مصغراً لبرج إيفل.
وقالت الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة إنها توصلت إلى تسوية مع رياض حسين تشمل المنزل و175 مليون دولار، وهو مبلغ يُشتبه في إمكانية استرداده بموجب قانون عائدات الجريمة. سلَّط رياض حسين على منصة تويتر الضوء على أن وكالة مكافحة الجريمة قالت إن التسوية "لا تمثل نتيجة إدانة". وقال محامو عائلة رياض وبحرية تاون إن موقفهم "كان، ولا يزال دائماً، هو أن الممتلكات كانت مشروعة ولم يكن هناك أساس معقول للاشتباه في إمكانية استردادها". وقالوا إنه بفضل التسوية "لم يكن هناك أي اكتشاف على الإطلاق أن أياً من الممتلكات يمكن استردادها".
أصبح مصير تلك الأموال محل جدل كبير في باكستان. أُلقِيَ القبض على عمران خان بزعم أنه في أواخر عام 2019 حصل هو وزوجته بشرى بيبي على أكثر من 20 هكتاراً من الأراضي وملايين الروبيات، مقابل السماح بما يقرب من 225 مليون دولار من أموال التسوية -التي أُعيدَت إلى الدولة الباكستانية- أن تستخدمها شركة رياض لدفع تسوية المحكمة العليا الخاصة بها.
ونفى خان، الذي تولى السلطة بعد قيادة منتخب بلاده للكريكيت للفوز بكأس العالم على إنجلترا عام 1992، بشدة مزاعم الفساد ضده هو وزوجته، وتعهد بمواجهة المؤسسة العسكرية.
وقال محامو عائلة رياض: "بموجب الاتفاقية، سوف تُدفَع الأموال المجمَّدة مقابل الدين المحكوم به على شركة بحرية تاون". وأضافوا أنه لم يكن هناك على الإطلاق "أي أمر أو اتفاق بأن أي ملكية يجب أن تنتقل إلى الدولة الباكستانية".
ويقول نشطاء في مكافحة الفساد إن الاضطرابات الأخيرة في باكستان أثارت تساؤلات جدية أمام الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة حول دورها في الحصول على أموال من التسوية لصالح رجل أعمال ثري.
يبدو أن عائلة رياض لا تزال مرتبطة بممتلكات أخرى في لندن. حصلت مؤسسة Spotlight on Corruption لمراقبة الفساد ومقرها لندن على التطبيق الأصلي للوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة لتجميد الحسابات المصرفية المرتبطة برياض. وفي الطلب، الذي سُحِبَ بعد التوصل إلى تسوية، سلَّط مسؤولو الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة على الأموال المُحتَفَظ بها نيابةً عن شركة Fortune Event Limited وهي شركة في جزر فيرجن البريطانية.
حدَّدت الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة أحمد علي رياض، نجل مالك رياض والرئيس التنفيذي لشركة بحرية تاون، باعتباره المالك المستفيد النهائي للشركة. الشركة نفسها مدرجة في السجل العقاري في المملكة المتحدة باعتبارها مالكة لتسع شقق في بناياتٍ كبرى ذات واجهة فيكتورية في لانكستر جيت، وتطل أيضاً على هايد بارك.
تبلغ قيمة العقارات، التي اشتُرِيَت بين عامي 2011 و2018، نحو 46.2 مليون دولار، وفقاً للأسعار المدرجة في السجل العقاري. ومع ذلك، يبدو أن مالك رياض وابنه غير قادرين على استخدام الممتلكات بنفسيهما، وقد فشلا في إلغاء سحب تأشيراتهما بعد أن قالت حكومة المملكة المتحدة في عام 2019 إنهما "كانا يُحتَمَل أنهما متورطان في فساد/سوء سلوك تجاري ومالي".
يثير الكشف عن المزيد من الممتلكات ذات الصلات الواضحة بمالك رياض وعائلته تساؤلات حول سبب عدم إدراج هذه الممتلكات في التسوية مع الوكالة الوطنية لمكافحة الجريدة.
وقالت الوكالة إنها أعادت جميع الأموال من ممتلكات حي هايد بارك بليس والحسابات المجمدة إلى دولة باكستان بعد الإجراءات المتفق عليها ووفقاً لقانون المملكة المتحدة. وقالت إن شروط اتفاق التسوية مع مالك رياض تظل سرية وسيكون تقديم أي تفاصيل خرقاً قانونياً لها.
وقيَّمت الوكالة القصر في هايد بارك بليس بحوالي 50 مليون جنيه إسترليني (62.5 مليون دولار). وفي الواقع، بيعَ القصر في يناير/كانون الثاني 2022 مقابل 38.5 مليون جنيه إسترليني (48.1 مليون دولار)، وهي الأموال التي أعادتها الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة أيضاً إلى باكستان.
قصة الشقة اللندنية التي أدت لإقالة نواز شريف من حكم باكستان
هناك ممتلكات أخرى باهظة الثمن لا تزال مركزاً رئيسياً للسلطة في السياسة الباكستانية.
كُشِفَ عن استثمار عائلة شريف في العقارات الباهظة الثمن في لندن لأول مرة في عام 1998 من قِبَلِ معارض سياسي. ويُقال إن سكن شريف في مبنى أفينفيلد السكني، في شارع بارك لين، مُكوَّن من أربع شقق فُتِحَت إحداها على الأخرى لإنشاء شقة واحدة، ويطل على منتزه هايد بارك أيضاً.
في عام 2016، كشفت أوراق بنما المسربة أن عائلة شريف -بمن في ذلك ابنته ووريثته السياسية مريم نواز شريف- قد حصلت على قرض بقيمة 7 ملايين جنيه إسترليني (8.75 مليون دولار) مقابل أربع شقق في المبنى.
أدى الجدل حول شقة أفينفيلد هاوس في النهاية إلى عزل نواز شريف كرئيس للوزراء في عام 2017 من قبل المحكمة العليا الباكستانية. لا تزال العقارات مملوكة لنفس الشركات.
وسبق أن اتهمت سلطات مكافحة الفساد الباكستانية عائلة شريف بشراء الشقق باستخدام الأموال المسروقة من الشعب الباكستاني. ونفت عائلة شريف ذلك بشدة، زاعمة في عام 2016 أن مصدر الأموال كان بالأساس من بيع مصنع للصلب في جدة بالمملكة السعودية.
حُكم على نواز شريف ومريم شريف وزوجها بالسجن بتهم فساد مرتبطة بكشف أوراق بنما، لكن أُفرِجَ عنهما في 2018 بعد أن قالت محكمة في إسلام أباد إن المدعين فشلوا في تقديم أي دليل على ملكية نواز شريف لشقق أفينفيلد.
نواز شريف يحكم باكستان من لندن بعد أن كان مداناً
في عام 2019، غادر نواز شريف باكستان إلى المملكة المتحدة، لأسباب طبية.
ومنذ سقوط عمران خان من السلطة، استعادت عائلة شريف مكانتها في قمة السياسة الباكستانية. وقال شهباز شريف شقيق نواز شريف ورئيس الوزراء الحالي العام الماضي، إنه كان يتشاور مع شقيقه بشأن تشكيل الحكومة، بينما تولت مريم نواز شريف منصب زعيمة حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية، بعد إلغاء إدانتها بالفساد العام الماضي.
إن قدرة نواز شريف على البقاء في لندن تثير تساؤلات للحكومة البريطانية.
وقالت سوزان هولي، المديرة التنفيذية لجمعية نقطة ضوء على الفساد: "حقيقة أن نوار شريف كان قادراً على الإفلات من العدالة في باكستان من خلال القدوم إلى المملكة المتحدة، ثم بقي في إدارة الأعمال وتوجيه الأنشطة السياسية من لندن، وهذا بمثابة فضيحة"، حسب وصفها.
وأضافت: "من الواضح أنه عندما يتعلق الأمر بنظام الهجرة في المملكة المتحدة، فهناك قاعدة للهجرة للسياسيين الفاسدين وأخرى للاجئين الحقيقيين".
ورداً على سؤال حول ما ستفعله المملكة المتحدة بشأن الوضع في باكستان بعد اعتقال خان، قال رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إنها "مسألة داخلية لباكستان" وإننا "ندعم العمليات الديمقراطية السلمية والالتزام بسيادة القانون".
ودعت منظمة الشفافية الدولية في المملكة المتحدة في عام 2018 الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة إلى استخدام نفس الصلاحيات من تحقيق هايد بارك بليس للنظر في شقق أفينفيلد هاوس.
وقال بن كاودوك، الذي يقود التحقيقات في منظمة الشفافية الدولية في المملكة المتحدة، إن بريطانيا وسوقها العقاري يُنظر إليهما على أنهما "ملاذ" للنخب السياسية من باكستان وحول العالم. قد يكون بعض هذه الأموال مشروعاً، لكن يظل هناك من سيشتري عقارات باهظة برواتب حكومية.
وقال كاودوك: "من المهم ألا يستمر سوق العقارات في لندن بالعمل كصندوق ودائع آمن للسياسيين الفاسدين الذين سرقوا من الأشخاص الذين يمثلونهم". "يجب تزويد هيئات إنفاذ القانون المكلفة بمعالجة هذه المشكلة بالموارد للتحقيق الكامل في اتساع الثروة غير المبررة المخزنة هنا".